السياسة السعودية في عهد الملك سلمان: الاستمرارية والتحديات

كتبت “الحياة” تقول: تتميز السياسية السعودية الداخلية والخارجية، بمقدار كبير من الثبات خلال فترات الحكم المختلفة، بالتالي يمكن القول أنها لا تعاني من “القطيعة”، بل على العكس من ذلك تتصف بـ “الاستمرارية” في التعاطي مع ما يواجهها من أحداث، ومردّ ذلك إلى أن التغيير في القيادة العليا لا يصاحبه تغيير في الأسس والثوابت التي تنطلق منها سياسة المملكة، والأولويات التي تسعى إلى تحقيقها. ويظل التغيير جزئياً ومرتبطاً في شكل أكبر في الجانب التكتيكي، أي مرتبطاً بكيفية التعامل الأمثل مع ما تتيحه البيئة الداخلية والخارجية من فرص، وما تفرضه من تحديات، والتسارع الذي من خلاله يتم التعامل مع الأحداث، وهذا يتأثر بدوره بمدى حدة تلك الظروف وجسامتها وإلحاحها.

وقد حدّد الملك سلمان في الكلمة المتلفزة والمختصرة التي نعى فيها أخاه الملك عبدالله، الإطار العام الذي سيتبعه في إدارة شؤون الدولة، وهو الاستمرار على “النهج القويم” الذي سارت عليه الدولة السعودية منذ تأسيــسها. والإشارة هنا إلى المكوّن الإسلامي الذي يشكل الأساس الذي تستند إليه الدولة وتستنير به في سياستها الداخلية والخارجية، ما يعني أن القيادة الجديدة ستستمر في نهجها المحافظ والمتدرج في الشؤون الداخلية، والداعم للقضايا العربية والإسلامية في الشؤون الخارجية، وهو العرف الذي ميّز السياسة السعودية عبر العقود الماضية.

غني عن القول أن فترة حكم الملك عبدالله شهدت في معظم فتراتها بحبوحة من العيش، في ظل الموارد المالية الضخمة الناتجة من الارتفاع الملحوظ لأسعار النفط التي استطاعت توظيفها في شكل جيد لمعالجة الدين العام المتراكم وبناء احتياطات مالية ضخمة تقدر بنحو 800 بليون دولار، في الوقت ذاته الذي عملت على زيادة الإنفاق الحكومي لتطوير مرافق الدولة المختلفة، لا سيما في مجال التعليم والصحة والمواصلات، وتحديث البنية التحتية وتوفير الخدمات التي من شأنها أن تساهم في تحسين مستوى المعيشة لطبقات المجتمع كافة، ولا حاجة إلى ذكر ذلك بالأرقام، فالإنجازات معروفة ومسجلة وتتحدث عن نفسها.

لكن انخفاض أسعار النفط إلى نصف ما كانت عليه هذه السنة يلقي بعبء أكبر على كاهل الدولة لصيانة البنية التحتية الضخمة، وإتمام المشاريع التنموية التي بدأ العمل بها أو تم اعتمادها في الموازنة، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الشعب السعودي يافع، تمثل شريحة الشباب أكثر من 60 في المئة منه، بما يترتب على ذلك من تبعات أهمها إيجاد فرص وظيفية مناسبة وغيرها من متطلبات الحياة الأساسية، فإن ذلك يشكل تحدياً مباشراً على الدولة أن تتعاطى معه بفاعلية كبيرة، من دون النيل مما تم تحقيقه من إنجازات، بل البناء عليه وتحقيق المزيد. الدولة لديها الموارد المالية الكافية للاستمرار في ذلك مع ضرورة الإدارة الرشيدة لهذه الموارد وتنميتها لتغطية أي عجز متوقع، وتحفيز بيئة الاستثمار والأعمال من خلال استمرار وتيرة الإنفاق الحكومي وجلب الاستثمارات الأجنبية في القطاعات المنتجة لتعزيز نمو القطاع الخاص وخلق فرص وظيفية جديدة.

التحدي الآخر يتمثل في ضرروة التوفيق بين الحاجة إلى الاستمرار في عملية الإصلاح والتنمية، لا سيما في المجالين السياسي والاجتماعي، وزيادة المأسسة السياسية في الدولة، من دون الإخلال في شكل كبير بمنظومة القيم الاجتماعية السائدة، وذلك للحفاظ على الاستقرار السياسي وتحقيق التوازن بين مكونات المجتمع المختلفة، أي الاستمرار في عملية الإصلاح التدريجي، بتسارع منضبط يستجيب لوتيرة التغير الاجتماعي المضطرد الذي يشهده المجتمع السعودي، ولا يغفل عن التغيرات التي تشهدها البيئة الإقليمية والعالمية، لا سيما في ظل تطور وسائل الاتصال والمعلومات، وحال الانكشاف الكبيرة التي أصبح يعيشها العالم بأسره. هذا بطبيعة الحال يتطلب تحديث الخطاب الديني والإعلامي، وتوسيع هامش حرية الرأي، وتحديث الأنظمة والمؤسسات الأخرى وفق ما يمكن تسميته بـ “التسارع التنموي المنضبط”.

كما أن من التحديات القائمة الاستمرار في مواجهة التطرف والإرهاب والسيطرة عليه، لا سيما في ظل حالة السيولة الأمنية والسياسية التي أصبحت تصبغ المشهد الإقليمي، والاستمرار في سياسة “التحصين الأمني والفكري الرصينة” التي انتهجتها الدولة أمراً لا مفر منه، بل يتوجب البحث عن طرق جديدة مبتكرة يمكن من خلالها تجنيب المملكة تداعيات ما يحصل في دول الجوار من انفلات أمني وهشاشة سياسية واضحتين، وتطوير الاستراتيجيات الاستباقية والوقائية والإجرائية القائمة سيزداد إلحاحاً مع تسارع التطورات على الصعيد الإقليمي.

وفي هذا الصدد تبدو الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تحصين حدود المملكة بقوات عسكرية ذات جاهزية عالية تحسباً لأية تطورات مستقبلية غير متوقعة على حدودها البرية الشاسعة التي تربو على 4000 كيلومتر، ذلك يتطلب بطبيعة الحال إعادة صوغ استراتيجيتها العسكرية بأبعادها كافة وتعزيز قواتها العسكرية والأمنية أكثر من السابق.

السياسة الخارجية
سعت السياسة الخارجية السعودية دائماً إلى دعم الاستقرار الإقليمي وتقليل تكلفة تقلبات السياسة الإقليمية بالنسبة إلى مصالحها عبر نسج شبكة من التحالفات الإقليمية والدولية، تمكنت من خلالها من دعم مسائل التضامن العربي والإسلامي مستغلة أيضاً ما تملكه من ثقل اقتصادي وأيديولوجي. وقد قدمت الكثير من المبادرات في هذا الشأن لرأب الصدع في العلاقات البينية العربية، أو إيجاد حلول للأزمات والملفات الإقليمية.

غير أن هذه الخاصية التي صبغت السياسة الخارجية السعودية عبر عقود تغيرت في شكل تدريجي، ووصل هذا التغير إلى ذروته في المرحلة الحالية، إذ تزايدت التحديات والأخطار نتيجة التغيرات الدراماتيكية التي لحقت بعدد من الملفات والقضايا الإقليمية، في وقت افتقرت مواقف القوى الدولية المؤثرة في المنطقة إلى الحسم وتغيرت أولوياتها، خصوصاً الولايات المتحدة، ما زاد من تعقيد المشهد السياسي الإقليمي وأربك حسابات الدول الإقليمية.

في البدء كانت الثورات العربية، والتي استطاعت المملكة تجاوز تداعياتها بنجاحات متفاوتة، إذ عملت على تحييد آثارها داخلياً، وسعت من خلال سياسة خارجية قائمة على ركيزتين إلى الحد من أثارها على مصالحها الخارجية والتأثير مقدار الإمكان في مخرجاتها النهائية. هاتان الركيزتان هما محاولة “السيطرة على الضرر”، كما حصل في الدعم السعودي لتصحيح مسار الثورة في مصر، وتعزيز التعاون مع الأردن والمغرب ودعوتهما إلى الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، وتعزيز الجهود الإقليمية والدولية لمكافحة الإرهاب، أما الركيزة الثانية فكانت “الاشتباك مع الحدث” للتأثير فيه، في محاولة شبه استباقية تهدف إلى توجيه دفة الأمور وعدم الوقوف موقف المتفرج على الأزمات الإقليمية، ما قد يؤدي إلى تفاقمها، كما في الدعم الخليجي للبحرين والمبادرة الخليجية في اليمن، بالتالي فإن المملكة حاولت من خلال ذلك تقليل تقلبات السياسة الإقليمية والتكيف مع ما أحدثته هذه الثورات من تغير في نمط التحالفات الإقليمية، أو احتواء ما قد تنطوي عليه من تداعيات سلبية على الأمن الوطني السعودي. فحرصت الرياض على صوغ المحور السعودي – المصري – الإماراتي، وكذلك إعادة اللحمة داخل البيت الخليجي إلى ما كانت عليه بعدما مرت بفترة توتر قصيرة.

كانت المفاجأة الأكبر في تغير أولويات السياسة الخارجية الأميركية حول العالم، وظهور فكر استراتيجي أميركي جديد، نتج منه مقاربة سياسية خارجية مختلفة لقضايا المنطقة وأزماتها تمثلت في انتهاج سياسة خارجية أميركية “رخوة” افتقرت إلى الحسم في ما يتعلق بالأزمات التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط، سواء على صعيد القضية الفلسطينية أم الأزمة السورية أم اليمن أم الملف النووي الإيراني، ونتيجة تشابك الملفات الإقليمية وانكشافها، أصبح هناك حالة واضحة من “السيولة” و “الهشاشة” السياسية في المنطقة، ما خلق بيئة مضطربة قابلة للاختراق من القوى غير العربية، فتزايد دور إيران و “حزب الله” وظهر “داعش” وتمدد، وتفاقمت الأزمات في سورية واليمن وليبيا، بل سعت واشنطن إلى صوغ اتفاق مع إيران تنهي بموجبه المواجهة المستمرة مع طهران منذ بدء الثورة الإيرانية عام 1979، الأمر الذي، إذا ما تم، فإنه قد يعطي إيران دوراً إقليمياً أكبر ويعزز من نفوذها على حساب الدول العربية.

في مثل هذه الظروف تجد الرياض نفسها محاطة بأزمات معقدة، وإذا أخذنا في الاعتبار الفراغ الاستراتيجي الذي يعاني منه النظام الإقليمي العربي، وأن العبء الأكبر لملء هذا الفراغ يقع على عاتق المملكة، عطفاً على خروج العراق وسورية من معادلة التوازن الإقليمي، وأن مصر في طور إعادة البناء السياسي والاقتصادي وبدء القاهرة استعادة دورها الإقليمي بدعم خليجي واضح، فإن المملكة قد ترى حاجة إلى إيجاد مقاربة جديدة في علاقاتها الدولية والإقليمية.

في اعتقادنا أنه من السابق لأوانه الحديث عن تراجع في العلاقات السعودية – الأميركية، فمركزية هذه العلاقات وعمقها وبعدها الاقتصادي والجيواستراتيجي مستمرة. ما يحصل الآن هو اختلاف لا خلاف في وجهات النظر، وذلك نتيجة تطور فكر استراتيجي أميركي جديد يجعل من الصين الخطر الحقيقي الذي يجب احتواؤه، والنفوذ الصيني يتوسع في شرق آسيا وأفريقيا وليس في الشرق الأوسط، وتسعى واشنطن لتوظيف الموارد والأحلاف كافة لتحقيق هذا الهدف، والسعودية ليست طرفاً رئيسياً في هذه الاستراتيجية الجديدة، كما كانت في سياسة احتواء الشيوعية حين تقاطعت مصالحها مع واشنطن، هذا لا يعني تراجعاً في أهمية السعودية، ولكن اختلافاً في الأدوار والأولويات من وجهة نظر صانع القرار الأميركي. إذاً، يجب عدم التعويل على واشنطن أو انتظار مساندتها لحل القضايا الإقليمية، فكما أن أولويات السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة والعالم بدأت تتغير، كذلك يجب أن تكون الحال بالنسبة إلى السعودية، من دون المساس بجوهر هذه العلاقة التاريخية، بحيث تصبح العلاقات مع أميركا ركناً من أركان علاقات السعودية بالقوى الكبرى وليست الأهم.

الرياض في حاجة إلى النظر في كيفية صوغ محور إقليمي يمكن من خلاله تضييق الخناق على خصومها أو حرمانهم من تحقيق أي اختراق في المنطقة، خصوصاً أن إيران تستخدم الورقة المذهبية، وتسعى إلى تسخيرها لزيادة نفوذها في المنطقة العربية، الأمر الذي يشكل تهديداً صريحاً للمصالح العربية، ويشكل تدخلاً واضحاً في الشؤون الداخلية للدول العربية، لذلك فإن تبني سياسة خارجية تتجاوز ما أفرزته الثورات العربية من تقاطعات سياسية، والإمساك بالعصا من المنتصف قد يكون مثمراً ويوفر المرونة الكافية للسعودية للتعامل مع الفاعلين كافة في المشهد السياسي العربي والإقليمي، ومن ثم توسيع مساحة الحركة والمناورة لديها وتعزيز قدرتها على صوغ تحالفات إقليمية أكثر شمولاً من ناحية، وزيادة نفوذها في مناطق “الطوق الاستراتيجي” شمالاً وجنوباً من ناحية أخرى.

كما أن استخدام الرياض لإمكاناتها ومواردها كافة أصبح أكثر إلحاحاً، إذ يتزايد الحديث حالياً من المحللين عن ورقة النفط كخيار استراتيجي لحرمان الدول المنافسة من قوتها المالية التي توظفها لخلق حلفاء جدد في الثغور العربية أو دعم القائم منهم، ولتعزيز الدور المحوري للمملكة في صناعة النفط والحفاظ على حصتها من السوق العالمية، والحقيقة أن هذا أمر مشروع، فالأدوات الاقتصادية هي من وسائل تنفيذ السياسة الخارجية للدول، وكثيراً ما يتم اللجوء إليها.

احتواء الأزمات
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن احتواء الخلافات والتقسيمات المذهبية والطائفية في المنطقة أمر في غاية الأهمية، فهو الورقة التي من خلالها حاولت إيران التوسع وخلق حلفاء جدد، وهي الورقة التي من الممكن أي عدو خارجي أن يستغلها لزيادة حدة الانقسام والاستقطاب داخل المجتمعات العربية، ما يوفر الفرصة في شكل أكبر للتدخل في شؤون المنطقة، ومن ثم تمزيق الجسد العربي، وكما حرصت الرياض على تعزيز الحوار بين الأديان والحضارات فهناك حاجة ملحة لعمل مؤسسي تشارك فيه الدول العربية كافة والمؤسسات داخل هذه الدول، يمكن من خلاله احتواء الأقليات المذهبية والطائفية في الوطن العربي، وجعل أساس الانتماء هو الوطن وليس أي شيء آخر، في الوقت ذاته الذي يتم فيه تعزيز الرسالة الإسلامية الوسطية التي تستوعب الجميع، وتتجنب الإقصاء، وتحد من التطرف في الرأي والفكر.

وإذا كانت فترة حكم الملك عبدالله تميزت بـ “القدرة الشخصية” على الاختراق والحسم وتحقيق المصالحات العربية نتيجة ما لشخص العاهل السعودي من صدقية وثقل، فإن الملك سلمان قادر على ذلك أيضاً، فلديه الكاريـزما والخبرة الطويلة والعلاقات المتينة بصناع القرار الإقليمي والدولي، ويجب أن يظل ذلك أحد مكامن القوة في السياسة الخارجية السعودية لاستخدامها عندما تستدعي الحاجة ذلك.

(الحياة)

السابق
أحلام تشنّ حرباً ساخرة على نجوى كرم! ماذا قالت؟
التالي
رسالة إلى الإعتدال السُنّي