تفكيك خطاب نصرالله حول عملية القنيطرة وتوابعها

رأيت أنّه من المهم بمكان اختيار بعض الجمل المفتاحيّة في خطاب نصرالله بتاريخ 30/1/2015 الذي جاء بعد عملية القنيطرة الإسرائيلية، التي أدت إلى مقتل 6 عناصر من حزب الله، بينهم قياديان أحدهما ابن عماد مغنيّة الذي اغتالته إسرائيل عام 2008.

ولم يثأر له الحزب حتى الآن، و6 إيرانيين بينهم 3 قادة في الحرس الثوري هم الجنرال محمد علي الله دادي واسمه الحقيقي “هوشنك الله داد” وهو ضابط الاتصال المسؤول عن العلاقة بين الحرس الثوري من جهة وحزب الله والاستخبارات السورية من جهة ثانية والمشرف على تدفق الأسلحة من إيران لحزب الله، بالإضافة إلى علي طبطبائي مسؤول الحرس الثوري عن قطاع الجولان، وعنصر رفيع آخر بلقب أسدي ومن المرجح انّه كان قائد القوات الإيرانية الموجودة في سوريا.

وكما بات معلوماً، فقد قام الحزب بعدها بما اعتبره “ردّاً” على العملية باستهداف آليات إسرائيلية على الحدود مع لبنان، أدّت إلى مقتل جنديين إسرائيليين. وفيما يلي التعقيب على هذه الجمل المفتاحيّة:

1) عملية القنيطرة هي “اغتيال غادر وعلني في وضح النهار”

هنا يعترف نصرالله بنفسه أن العملية الإسرائيلية في القنيطرة جاءت “غدراً”، والغدر كما هو معروف لا يأتي إلا بعد اطمئنان. والحقيقة أنّ هذا يؤكّد المعلومات التي تدعمها الحقائق على الأرض أيضاً، ومفادها انّ حزب الله ما كان ليدخل المعركة السورية ويرمي بثقله فيها ويكشف كل ظهره لإسرائيل، من دون أن يكون قد اطمأن إلى أنّها لن تهاجمه من الخلف في ذروة انهماكه في ارتكاب المجازر ضد المدنيين في الداخل السوري، وأنها لن تتعرّض له أيضاً  في سوريا طالما أن تدخله فيها ملتزم بمعادلة تقتضي أن يكون التركيز  على مساعدة الأسد، واستهداف المعارضة المسلّحة التي تسعى إلى إسقاطه، وهما هدفان يشترك فيهما الحزب مع إسرائيل.

رسائل الاطمئنان هذه كان حزب الله قد تلقّاها بداية عام 2013، وترسخت في منتصف العام نفسه. وتشير بعض المعلومات إلى أنّ الاستخبارات الألمانية، أدت دوراً في التوصّل إلى هذه التفاهمات غير العلنية بين الطرفين. ومن الواضح أنّ الجملة التي قالها نصرالله ليست موجّهة لجمهوره ولا للجمهور العربي، وإنما لتل أبيب لتذكيرها بأنّها غدرته، وهذا صحيح من وجهة نظري.

مراجعة التصريحات الرسمية الصادرة عن الحزب وايران بعد عملية القنيطرة ستعطي القارئ الاطمئنان اللازم الى صحة هذا القول. اذا ما رجعنا اليها فسنلاحظ أنّه لا يوجد بتاتا ولا تعليق واحد حتى يقول بشكل مباشر أو حتى غير مباشر، تصريحا او تلميحا، انّ مجموعة (حزب الله وايران المشتركة) كانت هناك في القنيطرة لمقاومة اسرائيل أو لمهاجمتها أو للإعداد لعمل ضدها.

علماً أنّ المجموعة قُتِلَت بالكامل، وهناك مصلحة بيّنة لإيران وحزب الله (لأهداف ديماغوجية كما جرت العادة) بالقول إنّهم كانوا يقاومون إسرائيل أو يساعدون النظام السوري في المقاومة، خاصّة أنّ الجولان كما نعلم جميعاً أرض محتلّة من تل أبيب، وبالتالي فجميع الذرائع كانت متوافرة ويمكن استخدامها لتبرير وجود حزب الله وإيران هناك (وأيضاً للتبرير لجمهور الطرفين وتزكية لقتلاهم).

ولكن المفاجأة أنّ ما حصل هو العكس تماماً، إذ شددت البيانات الرسمية كلها على أن الوجود هناك، كان لمحاربة “التكفيريين” (المقصود كما هو معلوم المعارضة السنّية المسلحة لنظام الأسد العلوي)، وأنّ القيادات التي قتلت كانت تقدّم المشورة والمساعدة لنظام الأسد في محاربة “الإرهاب”.،مما يعني أنّ الحزب لم يتقصّد الوجود هناك لمهاجمة إسرائيل.

والمفارقة هنا أنّ تصرالله حاول التغطية على التعاون غير المباشرة مع إسرائيل لتحقيق الأهداف المشتركة، التي تحدثنا عنها من خلال إطلاق قنبلة دخانية عن علاقة المعارضة السورية بإسرائيل.

2) “جبهة النصرة” لها حضور عسكري ضخم ما بين الجيش العربي السوري والشريط الشائك في الجولان المحتل، ونتنياهو ويعلون لا يشعران بأي قلق من هذا الوجود”، ماذا نفهم من هذه النقطة؟

يعني إذا لم يكن هناك معارضة سورية بينهما كان الجيش السوري أو حزب الله سينقض على إسرائيل ويحرر الجولان؟! بالطبع لا، فتجربة نصف قرن تثبت العكس، وليس هذا ما أراد نصرالله إيصاله من خلال هذاالتصريح. نصرالله أراد القول لجمهوره إننا نقاتل “عملاء” لإسرائيل هناك، وأراد القول لإسرائيل إنها من المفترض أن تحارب “الإرهابيين” وتخشى منهم، وليس منّا “الجيش السوري والحزب”، وأراد القول لأمريكا والغرب إننا ملتزمون بمحاربة “الإرهاب” ولكنّ إسرائيل تحول بيننا وبينهم.

هذه النقطة في غاية الأهمية، وتأتي في سياق التعاون القائم مؤخراً بين واشنطن والميليشيات الشيعية التابعة لإيران في المنطقة العربية، حيث تعتمد أمريكا على الحشد الشعبي في مواجهة “داعش” وتغض النظر عن الحوثي مقابل استمرار مهاجمة القاعدة، وتسكت على دخول حزب الله والميليشيات الشيعية إلى سوريا مقابل مواجهة الجماعات كالنصرة.

لكن الأهم من ذلك أنّ اتهام المعارضة السورية في الجولان أو النصرة بإقامة علاقات مع إسرائيل، يتطابق ايضاً مع الاتهامات التي وجهها الأسد لإسرائيل قبل عدّة أيام في مقابلة “الفورين أفيرز”، عندما اتهم اسرائيل بأنها سلاح الجو الخاص بالقاعدة. والحقيقة أن خوف الأسد وحزب الله وإيران من وجود المعارضة السورية في الجولان له ما يبرره تماماً، ويجعل هذه الأطراف تلجأ إلى هذا الأسلوب القذر من الحرب النفسية والبروبغندا السوداء.

وقبل أن نشرح السبب من وراء ذلك، لا بد من القول إنّ أول من دسّ هذه المعلومة بعد هجوم القنيطرة مباشرة، هو موقع إلكتروني مشهور مقره واشنطن ومؤسسه سوري الأصل من مؤيدي الأسد وينشر بعدّة لغات، وقد قامت مواقع عالمية وصحف أمريكية بإعادة نشر المعلومة الواردة هناك، مما ساعد على التسويق لهذا الكذب.

لكن على افتراض أنّ الغارة الإسرائيلية جاءت بناءً على معلومات قدّمتها المعارضة السورية إلى إسرائيل، وليس بناءً على قدرات إسرائيل الذاتيّة، فالأرجح والأولى والأكثر منطقية أن تكون المعلومات قد جاءت من عملاء داخل صفوف حزب الله ،وليس من عملاء في المعارضة السورية، وليست قضية “شوربا” الذي اعتقل قبل حوالي شهر تقريباً عنّا ببعيدة.

عموماً، عودة إلى أهميّة  الجولان ولماذا يخاف حزب الله وإيران من وجود المعارضة السورية هناك، فإن السبب يعود إلى أنهما يعلمان أنّ أحد أهم عوامل بقاء نظام الأسد، هو أنّه حافظ خلال حوالي نصف قرن على الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، وأنه لم يطلق حتى رصاصة واحدة في هذه الجبهة التي كانت حتى أهدأ من جبهات لدول وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل! وأنّ الأسد بدأ يفقد هذه الورقة مما قد يدفع إسرائيل في النهاية إلى رفع الفيتو عن إسقاطه.

في شهر فبراير 2013، قام النظام السوري بسحب عدد كبير من قواته المنتشرة على تخوم الجولان المحتلة، ونقلها إلى العاصمة دمشق لمواجهة تقدّم المعارضة على الأرض، وقد قام باستكمال سحب ما تبقى أيضاً من قواته في تلك المنطقة في شهر أبريل، فهو لا مشكلة لديه في ترك “ظهره” و”مؤخرته” مكشوفتين للـ “عدو” الإسرائيلي؛ لأن المعارضة السورية أخطر عليه من الصهاينة، وهو محق في ذلك.

فبدلاً من أن يثير وجود جيش “الممانعة” على الحدود مع إسرائيل مخاوف الصهاينة ويقض مضاجعهم، قام المسؤولون الإسرائيليون بالتعبير صراحة عن مخاوفهم من انسحاب الجيش “العلوي” السوري من منطقة الجولان بشكل قد يتيح لمقاتلي المعارضة ملء الفراغ على الحدود مع إسرائيل! وفعلاً هذا ما حصل.

ففي شهر يونيو 2013، وفي حدث تاريخي ولأول مرّة منذ أربعة عقود، تدخل دبابات الجيش “العلوي” السوري المنطقة المنزوعة السلاح الفاصلة بين سوريا وإسرائيل في الجولان عند خط وقف إطلاق النار، ولكن ليس لمقاتلة الصهاينة وإنما لمقاتلة الجيش الحر! وإن كان الخبر مهماً لهذه الجهة فإن الأكثر أهميّة هو ما كشفت عنه إسرائيل من تسلّمها طلباً رسمياً من النظام السوري، يطلب فيه عدم التعرّض لدباباته لأنّها لن تستهدف الجيش الإسرائيلي، وإنما قوات الجيش الحر. ونِعمَ “المقاومة والممانعة” هذه!.

فقد سيطر الجيش الحر آنذاك على معبر القنيطرة ولم يكن من طريقة لاسترجاع المعبر سوى الالتفاف عليه من ناحية إسرائيل، وما لم يتوقعه مقاتلو المعارضة حصل. فقد قام النظام السوري بالتواصل مع الإسرائيليين للالتفاف على قوات المعارضة عبر التوغل في المنطقة الفاصلة، والانقضاض من الخلف على قوات الجيش الحر المتمركزة على المعبر.

ليس هذا فقط، بل إن القوات الإسرائيلية دخلت بدورها إلى المنطقة العازلة، ولكن ليس للاشتباك مع قوات الأسد وإنما لتأمين ظهره في أثناء تلك المناورة! وبالفعل نجح التعاون بين النظام السوري والنظام الصهيوني في السيطرة على معبر القنيطرة من جديد، وعاد الأمن والسلام للطرفين “العدوين” هناك!

هذا كان قبل أكثر من عام، أمّا اليوم، فإن التطور الأهم الذي حصل هو أنّ النظام السوري بدأ يفقد المناطق المحاذية لإسرائيل خلال الأشهر الماضية، لصالح المعارضة السورية التي بدأت تتقدم من الجنوب بقوة، وهذا يعني انّ النظام السوري بدأ يفقد (على الأقل من المنظور الإسرائيلي) الوظيفة التي أبقته في منصبه لعقود، فما الحاجة لهذا النظام إذا لم يعد قادراً على تأمين أمن إسرائيل بعد اليوم؟!

وإدراكاً منه لخطورة تحرّك المعارضة في هذه المنطقة، وللتطورات التي قد تغيّر من قناعات إسرائيل في مدى الفائدة من بقاء النظام السوري، كان لا بد من دعم من إيران وحزب الله لمنع سقوطها بالكامل، وهذا ما كانت تفعله هذه المجموعة هناك. نعم لقد كانت تحارب المعارضة السورية التي هي أخطر على النظام السوري من إسرائيل طبعاً، كما أكّدوا هم بأنفسهم.

3) المفاجأة الأولى للإسرائيلي كانت إعلان حزب الله عن شهدائه بعد نصف ساعة من الاغتيال!!
هذه الجملة طبعاً موجّهة لجمهور الحزب ومريديه، والمقصود منها رفع المعنويات وتسجيل انتصارات وهميّة. ولا أعرف حقيقة كيف تحوّلت هزيمة الحزب المشينة ومقتل 6 من عناصره بينهم على الأقل قياديان أحدهما ابن القيادي الأكبر عماد مغنيّة، الذي لم يأخذ حزب الله بثأره إلى الآن رغم مضي حوالي 7 سنوات على اغتياله، إلى انتصار للحزب ومفاجأة لإسرائيل؟! وكيف تم ربط المفاجأة بمعيار الوقت؟!

هل كان ينتظر الحزب مثلاً أن تعلن إسرائيل عن العملية أولاً، ثم فاجأها بأن قال لها إن عناصره قتلوا؟! أو أنه كان هناك تقييم إسرائيلي يقول إنّ الحزب سيعلن بعد ساعة عن أسماء قتلاه، ثم فاجأه بأن أعلنها بعد نصف ساعة؟!

الذي يعرف إسرائيل، يعلم تماماً أنّها لا تتبنى عمليات من هذا النوع، وغالباً لا تؤكد ولا تنفي، وهناك سلسلة طويلة من العمليات التي قامت بها على هذا المنوال، كما أنّها ليست محتاجة إلى تجييش شعبوي وأولويتها الوحيدة تحقيق الهدف وبأقل ضوضاء ممكنة، أي على عكس حزب الله تماماً، لذلك قول نصرالله إنها لم تتجرأ عن تبني العملية هو  للاستهلاك.

السابق
أفضل البلدان للعمل وكسب المال
التالي
لقاء بين حماس وحزب الله عن العلاقات الفلسطينية اللبنانية