تعاظم الغضب الأميركي

في المسرحية الغنائية «Funny Girl» للمغنية والفنانة الكوميدية اليهودية الأميركية فاني برايس، ترجو بربارة سترايساند صديقها: «لا تجلب الغيمة التي تسقط مطرا على مسيرتي». وهذا ما فعله بنيامين نتنياهو هذا الأسبوع: لقد أسقط المطر على مسيرة الرئيس باراك أوباما. وخرب له جولة النصر، وكان «مخرب الحفلات» بعد الحفل الذي نظمه أوباما لنفسه بعد خطاب حال الأمة التقليدي. وكان بالوسع التغلب، ربما، على الخلافات في الرأي بشأن الذرة الإيرانية، لكن مثل هذا التخريب السياسي والشخصي جدا لن يغفر ولن ينسى.

وهذه ليست المرة الأولى التي يلعب فيها نتنياهو دور مخرب الأفراح: في تشرين أول 2013 ـ خذ على نفسه المهمة، جينما سعى لعرقلة زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى نيويورك. حينها أيضا أخرج البيت الأبيض عن طوره، لكن حينها كانت ذريعة نتنياهو الإيرانية معقولة. هذا الأسبوع، حينما عرض رئيس مجلس النواب جون باينر خطاب نتنياهو في الكونغرس كضربة مضادة مدروسة على خطاب حال الأمة الرئاسي، لم تعد الذرائع مجدية: واشنطن، بلا مبالغة، أصيبت بالصدمة.
وتعذر على مستشاري الرئيس، قبل غيرهم، ابتلاع الزبد على شفاههم: وأعادوا تبني مصطلح «تشيكنشيت» (جبان عديم القيمة) الذي وصفوا به نتنياهو سابقا ونشره الصحافي ديفري غولدبرغ في تشرين أول الفائت، بل وأوضحوا أنه «مقارنة بأقوال قيلت في الساعات الأخيرة، هذا المصطلح بات مديحا». كما لم يتأخر الرد: البيت الأبيض أعلن أن الرئيس لن يلتقي نتنياهو أثناء زيارته بل انه لن يجهد نفسه للخروج من العاصمة لتبرير ذلك، وكذا فعل الصديق القديم جون كيري. وقالت الناطقة بلسان البيت الأبيض، بغمزة كبيرة شهدها العالم بأسره.
لكن الصدمة لم تتوقف في جادات بنسلفانيا، وانما انتقلت إلى تلة الكابيتول. وحتى أعضاء الكونغرس الديموقراطيين، المؤيدين، مثل نتنياهو، للعقوبات الجديدة على إيران، تعذر عليهم إخفاء ذهولهم من الخطوة الاستفزازية. وقال واحد منهم في حديث خاص: «نتنياهو أطلق الرصاص على ساقه، لأن المشرعين الديموقراطيين أيضا الذين كانوا على استعداد للتصادم مع الفيتو الرئاسي بسبب العقوبات الجديدة سيضطرون من الآن الوقوف إلى جانب أوباما، وإلا سيظهرون كعملاء للجمهوريين». ومن أجل ألا يبقى شك في أن دعوة نتنياهو هي من حزب واحد، وليس من حزبين، كما زعم المقربون من باينر ونتنياهو، فإن زعيمة الأقلية الديموقراطية في مجلس النواب، نانسي بلوسي، اهتمت بوضع الامور في نصابها: «لم يتحدثوا معي، والأمر يتعلق بتوقيت غير مناسب».
بل ان زعماء المنظمات اليهودية، الواقفين بجانب نتنياهو تقريبا بشكل تلقائي، لم يصدقوا ما سمعوا: لا أحد أخبرهم، وطبعا جماعة «جي ستريت» دانت، لكن زعيما وسطيا مثل إيف فوكسمان، ايضا من الرابطة ضد التشهير، عرض على نتنياهو وباينر النزول عن الشجرة العالية التي تسلقاها. وقال فوكسمان لوكالة الأنباء اليهودية JTA «انني أؤيد عقوبات جديدة على إيران، لكن هذه الخطوة ليست في محلها».
وبدأت الاحتجاجات في التدفق على ديوان رئاسة الحكومة: والمخرج الذي عرضه وتبناه في النهاية كان تأجيل موعد الخطاب من 11 شباط كما كان مخططا في البداية، وربطه بمؤتمر إيباط في 3 آذار. ولو أنهم تصرفوا هكذا من البداية، وبرروا قدوم رئيس الحكومة برغبته في المشاركة في المؤتمر السنوي الكبير للوبي الموالي لإسرائيل، لقلص ذلك بشكل جوهري الصدى والضرر الحادث. ولكن كالعادة عندنا، أولا نترك الخيول تهرب من الاصطبل، وفي النهاية، وبحسب تعبير آخر، أيضا نأكل السمك الفاسد. وقد تصدعت مكانة إسرائيل أكثر، وغدت كرة لعب في الصراع الحزبي الداخلي وأبعدت نفسها أكثر عن الديموقراطيين. لقد ضيعت من الرصيد القليل المتبقي لها في الإدارة ومست بفرص العمل الذي من أجله، ظاهريا وعلى الأقل، يصل نتنياهو: زيادة الضغط على إيران عبر إقرار عقوبات جديدة.
وعلى ما يبدو، تتفق كل الأطراف على أن الاجتمالات كبيرة أن يقود هذا التشريع إلى تفجير المباحثات النووية مع إيران، كما أوضح أوباما في خطابه أمام الكونغرس. وفي بيان استثنائي نشره أمس، لم ينف رئيس الموساد أقوالا نسبت إليه، تفيد أن عقوبات جديدة هي بمثابة «القاء قنبلة يدوية» على المحادثات: وهو فقط يعتقد أن الأمر قد يدفع الإيرانيين، في نهاية المطاف، لتلطيف مواقفهم. ولأوباما سيناريو آخر، أشد بؤسا: وقف المباحثات سيقود، في نهاية المطاف، إلى تدهور أمني وربما إلى مواجهة مسلحة بين الولايات المتحدة وطهران. بالنسبة إليه، منع التدهور الأمني هذا لا يقل أهمية عن تحقيق هدف إحباط المشروع النووي الإيراني.
وإطلالة نادرة على مدى عزم أوباما، مدى إحباطه من القوى التي تواجهه والمواضع غير المناسبة التي قد تصل إليها هذه المواجهة، أعطيت في تسريب لنيويورك تايمز عن كلام بين أوباما والسيناتور الديموقراطي من نيوجرسي، روبرت مننداز. وخلال محاولته إقناع مشرعين ديموقراطيين بعدم التصويت مع الجمهوريين لمصلحة عقوبات جديدة، قال أوباما انه «يفهم الضغوط من جانب المتبرعين». في أفضل الأحوال كان يقصد متبرعين معينين مثل شلدون أدلسون وآخرين من حجم مشابه، لكن في أسوأ الأحوال، كما زعم منتقدوه من اليمين، كلمة «متبرعين» حلت عند الرئيس مكان كلمة «يهود». ومننداز الغاضب المتصادم مع أوباما أيضا بشأن تحسين العلاقات مع كوبا، لم يبق منضبطا. ففي لقاء مع لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ، التي كان يرأسها، وجه الكلام لنائب وزير الخارجية الجديد، طوني بلينكن، برده الساحق: «أنتم تبدون كأنكم تتلقون حججكم مباشرة من طهران».
وكما يبدو فإن نتنياهو يعتقد أن تشريع عقوبات جديدة أمر جيد له ـ ولإسرائيل – في كل الأحوال: إما أن الموساد محق، والإيرانيين سيلينون في نهاية المطاف، أو أن أوباما محق، واميركا ستنجر إلى مواجهة مع طهران ترغب بها إسرائيل أصلا. وهناك سيناريو ثالث مشكوك في أنه مأخوذ بالحسبان: ان الإيرانيين فعلا يتركون، قبل أن يتمكن أوباما من استخدام الفيتو الرئاسي، لكن يعودون للمحادثات من موقع أقوى. لأنه بإعلاناته المتكررة أن العقوبات الجديدة ستدفهم لترك المباحثات، يبرر أوباما سلفا تركهم لها، كما أنه يعلن أن المتهمين بذلك سيكونون مشرعي العقوبات ومعهم نتنياهو، الذي حثهم. إسرائيل ستجلس على مقعد المتهمين، والإيرانيون سيخرجون أتقياء والأسرة الدولية ستوضح لأوباما أن عليه إعادة آيات الله إلى طاولة المباحثات، وليكن ما يكون.
ويحذر جمهوريون ويهود كثر من أنه تحت غطاء المحادثات النووية وبفضل حماسة أوباما للتوصل لاتفاق نووي «بكل ثمن»، إيران ترسل حاليا أذرعها المدمرة في كل اتجاه، «مثل السرطان»، كما قال الرئيس السابق مبارك قبل سنوات، من ليبيا إلى اليمن إلى العراق وافغانستان. وأيضا بهذا المعنى، ليس واضحا ما الأفضل: تأجيل الحسم في المباحثات النووية عبر معركة على العقوبات، أم تمكينها من بلوغ لحظة الحقيقة بأسرع وقت ممكن. بداهة أنه إذا لم تكن لديك ذرة ثقة بقدرة أوباما على الصمود، كما يوحي نتنياهو، حينها كل شيء أفضل من إبقاء المفاوضات بين يديه.
في نهاية المطاف، رغم تصريحاتهم المطمئنة عن المباحثات الروتينية التي يجرونها في مواضيع مصيرية، هذه هي الخلاصة: نتنياهو واوباما لا يطيق أحدهما الآخر، ولا يثق أحدهما بالثاني، والعلاقات بينهما خربة لدرجة أنهما لا يرغبان أو أنهما غير مؤهلين لبذل جهد لإخفاء ذلك. صحيح أن إسرائيل وأميركا مرتا بأزمات أخطر من هذه، كما يشير الخبراء من انسحاب سيناء (1957) مرورا بإعادة التقييم (1975) وحتى منع الضمانات لاستيعاب المهاجرين (1991). ومع ذلك، في كل ما يتعلق بالعلاقات الشخصية، الضغينة المتبادلة، الاحتقار والخيبة وقلة الثقة، وصلت العلاقات بين نتنياهو واوباما الى درك يصح وصفه بأن لا سابق له.
ظاهريا، حظ نتنياهو الكبير أن أوباما سمكة باردة ومتزنة وتتفاخر بأنها لا تسمح للعواطف بالسيطرة عليها. وعندما يصطدم بعداء أو كراهية، يميل للابتعاد بدلا من الانجرار للشجار. هكذا تصرف مع باينر وزعماء الجمهوريين الآخرين طوال ست السنوات الأخيرة وهكذا تصرف، ليس دوما بنجاح، مع نتنياهو أيضا. وهذا وفر على نتنياهو الكثير من انفجارات الغضب الرئاسي التي كان يمكن أن تصيبه، أو تخدمه. منذ تلقى أوباما ضربة على الرأس في أيار العام 2011 حينما أعلن فجأة عن تأييد واشنطن مفاوضات تقوم على حدود 1967، يبذل جهده للحفاظ على نفسه والابتعاد قدر الإمكان عن الانشغال بنتنياهو خصوصا، ومعنا عموما.
وتحديدا في خطاب حال الأمة الذي سبق الشجار مع نتنياهو خرج أوباما من قشرته: كان فرحا بنفسه، بل متسرعا، بالتأكيد يطفح بالشماتة من منتقديه في اليمين. وبعد هزيمته في انتخابات تشرين الثاني كان يفترض أن يغدو البطة العرجاء، لكنه صار خلاف ذلك: تحول إلى شخص عازم، حازم، وفي الأيام الاخيرة، إلى شعبي. وليس مستبعدا أن نتنياهو استند هذا الأسبوع إلى تقدير موقف خاطئ بشأن ضعف أوباما الذي أفشله العام 2012، حينما تم اقناعه بأن الرئيس الديموقراطي منته وأن ميت رومني سيجلس مكانه سريعا.
والآن بقي أن نرى هل الرهان الانتخابي الكبير لنتنياهو بالتسلل العنيف إلى العاصمة الأميركية قبل أسبوعين من الانتخابات سيفيده في 17 آذار، أم العكس، سيتبين أنه سيف ذو حدين. ليس مؤكدا أن نتنياهو أخذ بالحسبان أن لديه الآن مشكلة مع رئيس أميركي أقوى وربما أشد فتكا مما كان، يمكنه أن يستخدم جرأته الجديدة لإفشال انتخاب الزعيم المكروه الأكثر عنده في العالم.
بالتأكيد لم يأخذ نتنياهو بالحسبان أنه إذا عاد لديوان رئيس الحكومة، هو من سيضطر للتعامل خلال العامين القريبين في الأرض المحروقة التي تركها هذا الأسبوع خلفه.

(هآرتس)

السابق
عاجل: حزب الله يستهدف موقع للجيش الاسرائيلي في مزارع شبعا
التالي
الاكراد يحررون القسم الشرقي من مدينة عين العرب