نداء نوري المالكي الى علماء الإسلام: إنقاذ الأمة رهن مبادراتكم

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمد الله تعالى ونستعين به، ونصلي ونسلم على خير خلقه رسوله الخاتم محمد وآل بيته الأطهار وصحبه الأخيار.

الى أصحاب السماحة والفضيلة علماء الإسلام ومفكريه ومثقفيه من كل المذاهب الإسلامية الكريمة..

السلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته

إننا نشعر بعظم المسؤولية وحساسية الموقف ونحن نخاطبكم؛ إذ نتطلع الى وجودكم الكبير وموقعكم المحوري الذي يحدد المسارات الشرعية لأمتنا الإسلامية؛ وأنتم تحملون أصدق النوايا لمعالجة المشاكل الخطيرة التي تهدد كيانها أمتنا اليوم أكثر من أي وقت آخر، وتعملون على دراستها والتنظير لها وتحديد التكليف الشرعي أزاءها؛ وصولاً الى تحويله الى واقع عملي؛ كي لاتبقى الأفكار الكبيرة والرؤى العقائدية و الشرعية حبيسة الأماني والطموحات والنظريات. فنحن بأمس الحاجة اليوم الى رؤى عملية ونظريات للتطبيق؛ من أجل إيقاف التأزم المتراكم في واقعنا الإسلامي، وإطفاء الحرائق التي يعمل أعداء الأمة الداخليون والخارجيون على إشعالها في كل بقعة من العالم الإسلامي. وفي مقدمها؛ الحرائق التي يريد الطائفيون بها تحويل وحدة الامة الى رماد تذروه الرياح.

ويحدونا أمل كبير بأنكم ـ وأنتم قادة الأمة ونخبتها الفكريون ـ تستطيعون الخروج بمعالجات وأدوات توقف الزحف الطائفي والإرهاب التكفيري، وتهدم الصروح الشيطانية التي يستمر الطائفيون في تشييدها، وإعادة بناء كيان الأمة الواحدة من جديد؛ كما أمرنا الله تعالى وسنّه لنا رسوله الكريم (( إنّ هذه أمتكُم أمةً واحدة وأنا ربّكم فاعبدون )). فالمدارس الطائفية و إتجاهات القتل التكفيرية؛ سواء تمثلت في دول وحكومات، أو تنظيمات وجماعات، أو ماكنات فكرية لإنتاج التكفيريين، أو فتاوى ومقولات؛ كانت منذ عصر صدر الإسلام و لاتزال؛ هي العقبة الأساس في طريق وحدة المسلمين، والسيف الأكثر فتكاً في جسد الأمة، والمنهج الذي يحاول بجميع الأساليب حرف المسار الإسلامي عن الطريق القويم، وتحويله الى طرق شتى متناحرة فكرياً وسياسياً وميدانياً؛ على الضد مما يقوله تعالى: (( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فإتّبعوه ولاتتّبعوا السُبل فتفرّق بكم عن سبيله )).

و لاشك؛ أننا في مسار واحد مع كل الجهود التي تقوم بها البلدان والجماعات والمؤسسات الإسلامية الرامية الى التقريب بين فئات الأمة وطوائفها ومذاهبها؛ لأن هذا الهمَّ الكبير هو همٌّ مشترك؛ لا يستطيع أي مسلم مخلص لدينه وأمته أن يبقى بمعزل عنه، ولا يبذل كل ما في وسعه من أجل الإمتثال لقاعدته الشرعية المقدسة: (( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا )).            ونحن ـ أيها الأحبة ـ إذ نخاطبكم من العراق.. البلد الأكثر عرضة للتآمر الطائفي التكفيري الإرهابي، والتآمر الدولي الإستكباري؛ نطمح ان نُسمعكم صوت شعبه الجريح وأرضه المستباحة وسمائه المكفهرة بالألم؛ و أن نتحدث اليكم حديث أعضاء الجسد الواحد الذي (( إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الإعضاء بالسهر والحمى ))؛ ولنقول لكم بأن العراق قُدر له؛ منذ سقوط النظام الطائفي الإرهابي السابق؛ أن يكون المنطلق الجيوستراتيجي لتطبيق مشروع التمزيق والتدمير الطائفي الذي يخطط له وينفذه المستكبرون العالميون والإقليميون بأدوات محلية عراقية وغير عراقية؛ ممثلة بالجماعات الطائفية؛ بشقيها السياسي والعقيدي.

أخواني الكرام ..    

إن هدف وحدة الأمة الإسلامية هو هدف إلهيٌّ واجبٌ بكل المعايير الشرعية؛ قبل أن يكون موضوعاً للتعايش والتفاهم بين أبناء الجغرافيا الواحدة وأصحاب المصالح المشتركة. ومهما تحدثنا عن واجب التقارب والتفاهم والتلاحم والتواد والتراحم بين المسلمين، ونظّرنا له وفصّلنا فيه؛ فسوف لن نأتي بجديد؛ لأن ما أمر به الله ( تعالى ) و رسوله الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم ) وأئمة آل البيت (عليهم السلام )، وأثبته أئمة المذاهب الإسلامية وفقهاء المسلمين ومتكلميهم؛ يكفي ليجعلنا نتعبّد بهذه القاعدة الشرعية الملزمة لجميع من شهد الشهادتين. ولم يشذ عن هذه القاعدة الّا بعض المنافقين والجهلاء؛ الذين يتمظهرون بالمدارس والجماعات الطائفية التكفيرية. وهي مدارس تعود جذورها الى عصر صدر الإسلام، وإمتد شذوذها الفكري وسلوكياتها المنحرفة حتى يومنا هذا.

وحري بنا ونحن نتحدث عن سبل وحدة الأمة؛ أن نتعرف بعمق ودقة متناهية على أسباب الفُرقة والتشتت بين المسلمين اليوم. وسيكون هذا التشخيص مدخلاً لإيجاد العلاجات الحقيقية لمرض الفُرقة المزمن. وسوف لن يكون التشخيص دقيقاً إن لم نذعن بوجود المرض وأعراضه. مع الأخذ بالإعتبار ضرورة أن لاتكون الدقة في تشخيص الأسباب والأعراض مسوغاً لأية إثارة للفتن الطائفية والصراعات المذهبية، أو إجترارٍ للحديث عن الأحداث التاريخية المؤلمة التي مزّقت المسلمين في أزمنة وأمكنة كثيرة. ولا نقصد هنا أننا يجب أن ندير أظهرنا الى الحقائق التي يؤمن بها كل فريق؛ ولاسيما التي يعدّها بعضنا عقيدةً وثابتاً وجزءاً من وجوده الحضاري وبنيته الفكرية، ويعدّها آخرون تاريخاً وتراثاً ومتغيّراً. ولكن مصلحة الأمة العليا التي يحدد حكماؤنا على وفقها المفاسد والمصالح؛ تقضي أن نلتفت الى واقع الأمة وحاضرها ومستقبلها، وأن لانستغرق في الماضي، وأن يقبل بعضنا الآخر كما هو..عقيدةً وفقهاً وقناعات تاريخية؛ فلا يكون الخلاف في التفاصيل العقيدية والفقهية والتاريخية سبباً في القطيعة بين المسلمين والإمعان في تمزيق واقعهم، وتمكين الأعداء الداخليين والخارجيين منهم، وإستلاب عقيدتهم وثقافتهم، وإنهيار مقدراتهم، وضياع أراضيهم، ونهب ثرواتهم (( ولاتَنازعوا فتَفشلوا وتذهبَ ريحُكم )).

ولعل الحوار الجاد والعملي بين المسلمين على مختلف إختصاصاتهم ومسؤولياتهم؛ أفراداً كانوا أو جماعات أو مؤسسات، علماء دين أو سياسيين أو مثقفين؛ هو ركيزة مشروع تآلف الأمة و وحدتها؛ لأن الحوار ينتج عنه التعارف، والتعارف الحقيقي يقضي على حالة الجهل بمعتقدات بعضنا الآخر وأفكاره؛ وبالتالي يصل منسوب الصراع الى أدنى مستوياتها؛ لأن ((الإنسان عدو ما يجهل )). و لاشك؛ أن المعرفة الحقيقة تؤدي الى معرفة الحق، والتي تؤدي بدورها الى معرفة أهله، وكما يقول الإمام علي ( عليه السلام ) مخاطباً ذلك الرجل المتردد في نصرته: (( إنك لملبوس عليك، إن الحق والباطل لايُعرفان بأقدار الرجال؛ إعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله)).

ويجب أن تشمل الدعوة الى الحوار و التآلف، وتحكيم لغة العقل، والإحتكام الى كتاب الله والثوابت المشتركة؛ جميع المسلمين؛ عدا الفئات الباغية الإرهابية التكفيرية؛ التي تعي ما تفعل ولا تستجيب الى وازعٍ من عقل و دين وضمير، ومعظمها ينفِّذ عن سايق إصرار مخططات أعداء الأمة الخارجيين. ولكن أقولها ـ من موقع المسؤولية ـ بأن هؤلاء المكفِّرة؛ إذا تابوا الى الله وإجتنبوا سفك الدماء وهتك الأعراض وإستباحة الأرض والأموال، وعادوا الى الحضن الإسلامي العام؛ فإنهم مشمولون بالحوار أيضاً؛ ولا سيما من كان من بينهم جاهلاً بحقائق الدين وتطبيقاته وبخفايا إرتباطات الفئات الباغية بالمشاريع الغربية والصهيونية.

وهذا الرابط الوثيق بين المشاريع الخارحية العدوانية و الجماعات الباغية الإرهابية التكفيرية؛ تدفعنا الى التأكيد على أن الإرهاب التكفيري هو صناعة القوى الاستكبارية منذ نشوئه؛ إذ تقوم بصناعة جماعات ترتدي الزي الاسلامي وتصرخ بالشعارات الإسلامية، أو تسخًّر جماعات أخرى مؤهلة؛ لتقوم ـ عن وعي أو جهل ـ بكل أنواع التخريب العقائدي والفقهي والثقافي والسياسي والإقتصادي والأمني، وتمزيق الأمة الاسلامية، وإضعافها كلما أرادت تنهض وتصحو من سبات التراجع والتخلّف. ويزداد خطر النهج والسلوك الطائفي لهؤلاء المكفًّرة كلما إرتفع منسوب الجهل والتخلف والفقر في أوساط الأمة؛ فيكون فيها من يسمع ويتلقى وينفًّذ.

وحيال هذه المظاهر الكارثية؛ تتجلى مرة أخرى أهمية الدور المصيري لنخبة الأمة العلمية والفكرية و الثقافية والإعلامية، بصفتهم الفردية والمؤسساتية؛ للعمل وبكل كثافة وتركيز على بث ثقافة التحدي والممانعة والمقاومة الشاملة: العقائدية والثقافية والسياسية والإعلامية والإقتصادية والعسكرية؛ بوجه الأعداء الداخليين والخارجيين؛ دفاعاً عن الاسلام ومبادئه وأهله ومقدساته، وعن سيادة أرضه وسمائه.

ويقف نهج الممانعة على جملة من العناصر الأساسية؛ أهمها:  التوكل على الله، والتخطيط الإحترافي، والتعرف على كل مكامن القوة والضعف لدى العدو، والإستعداد الدائم بالعدة والعدد، و الشجاعة الفردية والمجتمعية، والتنفيذ الدقيق، والتضحية والاستشهاد. وهنا ينبغي تشكيل ثقافة شرعية عامة؛ يستطيع المسلمون على وفقها التفريق بين ثنائيتي الإرهاب والجهاد، والإنتحار والإستشهاد. ويمكن أن نطلق على هذا اللون من الثقافة الشرعية تسمية فقه الجهاد والإرهاب، وفقه الإنتحار الإستشهاد.

أيها العلماء والمفكرون والباحثون والمثقفون المسلمون؛ أنتم فرصة الأمة الأخيرة للخروج من دائرة الخطر الداهم الذي يهدد الجميع دون إستثناء. وأقولها من منطلق المعرفة بخلفيات الأمور وحقائق الواقع والميدان؛ إن الخطر المحدق بالأمة كبيرُ جداً، ويجب أن نكون بمستوى المسؤولية التاريخية، وأن نستثمر كل المناسبات والفرص لتبادل الرأي والخطاب؛ للوصول الى حاضر ومستقبل أفضل للمسلمين، والإنطلاق بسرعة وتركيز في رحاب الحل والعلاج. وحسبنا أمر الباري عزّ و جل((أن أقيموا الدين ولاتتفرقوا فيه)).

                                           والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
                        نوري كامل المالكي
                                        أمين عام حزب الدعوة الإسلامية
                                     ونائب رئيس جمهورية العراق
السابق
عودة موقع «فايسبوك» وتطبيق «انستاغرام» الى العمل
التالي
المسلحون يفشلون في «هدم أسوار» حلب