نظرية «المؤامرة» غرباً

ها هي نظرية المؤامرة تطلّ، وبقوة، على المشهد الفرنسي بعد جريمة “شارلي إيبدو”: أصحابها يكرهون رسوم المجلة الساخرة ويبرئون في الآن عينه الأخوين كواشي وأحمدي كوليبالي، ويحيلون وقائع الجريمة الى الأيادي المخابراتية الغامضة لكل من “اليهود” أو “الأميركيين”. والفرنسيون الآن يأخذون هذه النظرية على محمل الجد، ويحاولون رصد تعبيراتها وفهم ميكانيزماتها ومضامينها. انها أيديولوجية خطيرة يقولون، تميل إلى تقويض الأسس نفسها لنظامنا الديموقراطي. هي مغرية للمخيلة تغذيها الروايات والقصص المثيرة والمشوقة. فالسرية في الحبكة أكثر جاذبية من السرد البارد للوقائع والتفسيرات الجافة. تتابع صحافتهم، فتبحث في أمثلة تاريخية راجت حولها نظرية المؤامرة، فتجد في مقتل كينيدي، أو في وصول الإنسان إلى القمر، أشهر تجلياتها؛ بخصوص كينيدي، تقول نظرية المؤامرة بأن قاتله، لي هارفي اوسوالد، لم يكن وحده، بل كانت معه المافيا والـ”سي. أي. اي” والكوبيون. أما الإنسان على سطح القمر، فكان مجرّد شريط مصور، والعناية بديكوراته كانت شديدة الذكاء. أما أقرب الأمثلة بعد ذلك، فكان الحادي عشر من أيلول: ليست “القاعدة” هي التي نفذت عملية تفجير البرجين النيويوركيين بالطائرات، يقول “المؤامرتِيون”، إنما المخابرات الأميركية والحكومة الأميركية نفسها.

وبحسب وزيرة التربية الفرنسية نجاة فالو بلقاسم، فان “من بين كل خمسة شباب فرنسيين هناك شاب واحد يؤمن بنظرية المؤامرة” بخصوص جريمة “شارلي إيبدو”. ولكن الأمر يتعدى هذه الشريحة. جان ماري لوبن، الزعيم الشرفي لحزب “الجبهة الوطنية” اليميني المتطرف أعلن بأن “عملية الاخوين كواشي تحمل توقيع مخابرات سرية”. فيما قناة “روسيا اليوم” استقبلت الكاتب الشهير تييري ميسان، مدير شبكة “فولتير”، “الممانعة”، الشهير بكتابه “الخدعة المرعبة”، القائل عن عمليات الحادي عشر من ايلول انها لم تكن من أعمال “القاعدة”، بل من صنع “مجموعة المصالح الصناعية-العسكرية الاميركية”؛ فتابع مع القناة الروسية نظريته نفسها على “شارلي إيبدو”. أو، مثل آخر: عمدة أنقرة، عضو الحزب “الإخواني” الحاكم، الذي أعلن عن جريمة “شارلي إيبدو” بأن “الموساد بالتأكيد يقف خلفها”. لذلك تجد في لغة أصحاب هذه النظرية عبارات من نوع رفض لـ”الرواية الرسمية”، شكوك في “النقاط الغامضة في الجريمة”، ما يسهل عليهم تقديم أنفسهم بصفتهم أصحاب “التفسير البديل”. مع انهم من جهة أخرى يعتدّون بغياب الادلة؛ بل الغياب يعطي كل المشروعية لنظريتهم.

ويحاول المراقبون الفرنسيون أن يفهموا “أسباب” انتشار هذه النظرية: يحيلون قدرا منها إلى الشبكة الإلكترونية المنفلتة العقال، إلى تعقّد شؤون العالم وقضاياه، وإلى تفضيل المواطن البسيط التفسيرات المبسّطة، التي لا تشغل العقل، وأخيراً، إلى الحاجة القوية الآن لإعادة بعض اللامعقول السحري الى المخيلة. وينهون الأسباب بأن المؤامرة نفسها كان لها نصيب في التاريخ الأوروبي: محاولة اغتيال بونابرت، اغتيال الملك هنري الرابع، قضية دريفوس..

يسأل صحافي فرنسي شاباً من الضواحي لا ينفك عن ترديد نظرية المؤامرة. يقول الشاب انه لا يقرأ الصحف ولا يحضر التلفزيون. هو يواظب يوميا على متابعة ثلاثة مواقع معروفة بنشرها للنظرية.  شبكة ميتا تي في ((Meta TV، و”بنامزا” و”وكالة الانباء الحرة”. ويتابع بان الشبكة الاخيرة نشرت بأن الشرطية التي قيل بأن كوليبالي قتلها، إنما “انتحرت، وبظروف غامضة جداً”. والصحافي نفسه يبحث أيضا عن شبكة معادية لنظرية المؤامرة، فيجد موقع “انترناشونال كونسبيرانسي وتش” (I.C.W.). ولكن أهم ما يتخوف منه أولئك الصحافيون هو ان تنتشر نظرية المؤامرة وسط صفوف شبابهم، خصوصا، ويكون ذلك، كما يكتب أحدهم، “مدخلاً للإستبداد”.

طبعاً، لا يسرنا، نحن العرب، هذا الإنتشار العالمي لنظرية المؤامرة. ولكن يغرينا القول “مرحباً بكم في النادي”، أو في ثقافتنا التي عشعشت في أعماقها وفي جوانبها نظرية المؤامرة، إلى حدّ انها صارت واحدة من ثوابتها الوطنية. مرحباً بكم في بلاد تأسست أنظمتها السياسية وأحزابها الكبيرة والصغيرة على نظرية المؤامرة؛ فكانت قاعدة من قواعد الإستبداد، وشرطا من شروط ديمومته. نحن أيضا ساد في اذهاننا القول العبثي بأن جريمة “شارلي إيبدو”، مثل تدمير برجي نيويورك، هما من أعمال اليهود و/أو الأميركيين، بالتشارك أو بالتنافس، وأما الغاية منها فنبع من الغايات… الفائدة القصوى لنظرية المؤامرة في ديارنا، ان لا أحد مسؤولاً عن أية مصيبة إلا “الطابور الخامس”، اليد الخفية للصهيونية والامبريالية والصليبية.

نحن لم نصدّر الإرهاب الديني فحسب. إنما صدرنا معه النظرية التي تليق به وبنا، والقائلة بأن الإرهاب الديني ليس من صنعنا، إنما من صنع أعدائنا الغاشمين، المريحين.
http://www.almodon.com/opinion/62997ff9-5bdd-4626-a65c-ed597f8d9913

السابق
طائرة استطلاع اسرائيلية حلقت في اجواء مرجعيون
التالي
هل جرى إنقلاب في القصر السعودي؟