المجتمع أو الدين؟ أيهما أسبق؟ كيف؟ أين؟ بواسطة من؟

كانت أهوال «داعش»، وبعدها مقتلة شارلي إيبدو، فانهالت الدعوات الى إصلاح الدين، ومن بعدها بقليل الدعوات الرديفة، بأن «لا.. يجدر البدء بالمجتمع»؛ وذلك على قاعدة بأنهما، أي الدين أو المجتمع، هما أسباب الانزلاقات التي ننحدر بها، ونجرّ معنا إليها العالم المتحضر. فانحصر النقاش ضمن «الأسباب»، فكان الاستغراق بها، بتكرارها، باستنباط الجديد منها. فـ»الاسباب»، يسهل ايجاد المئات منها، لأنها موجودة، فقط لأنها موجودة.

ولكن عند هذا الحد من النقاش، يجدر بنا، منعاً لتكرار أنفسنا لدى وقوع كل مصيبة، أن لا نعود نتوقف عند حدودها، فنرضى عن أنفسنا، ونسكت، بانتظار مصيبة جديدة، و»أسبابها» القديمة. طالما اننا جميعا رسينا على ان هذه «الأسباب» كامنة في ضلوع الدين والمجتمع، اللذين يحتاجان إلى «إصلاح»، فقد صرنا الآن بحاجة الى تجاوز هذا السقف من «التحليل» أو «التعليق»، والانتقال إلى نوعية أخرى من الأسئلة، تتناول «الكيف»: انطلاقا من أية رؤية نصلح الدين؟ إيمانية؟ نصف ايمانية؟ علمانية؟ إلحادية؟ مؤسساتية؟ رسمية؟ أهلية؟ كيف نصلح الدين؟ بالنقاش؟ بالقرارات الفوقية؟ بالتربية؟ بالمؤسسات؟ بالمجتمع المدني؟ كيف نصلح الدين؟ بتناول نصوص الفقهاء؟ أم القرآن الكريم؟ الأحاديث الشريفة؟ كيف نقرأهما؟ على أية قاعدة؟ انها «تاريخية»؟ ظرفية؟ آنية؟ خالدة؟ هل نفضل بعضها؟ هل نهمل بعضها الآخر؟ بمن نستعين؟ بالذين سبقونا إلى التفكير بالموضوع والكتابة عنه؟ بالتجارب الدينية التي لم تعط حقها؟ التي أُخرست؟ التي خُنقت في المهد، أو من منتصف الطريق؟ وهل من إمكانية لتسجليها، تلك التجارب المقموعة؟ أم اننا نؤجل كل هذه المهمات الثقيلة، طويلة المدى، ونكتفي بعار ديننا أو مجتمعنا؟

والسؤال الذي يبقى: بأي معيار سوف يكون لنا الحق في وصف الممارسات الداعشية بالاعتباطية، بالبربرية، بسوء فهم أصحابها للدين؟ على أساس أية خلفية؟ ثم، من هم الأشخاص، أو الفئات، الجديرين بمهمة الإصلاح الديني: رجال الدين؟ الكتّاب والمثقفين والباحثين على مختلف تخصصاتهم؟ أصحاب المهن الحرة؟ السياسيون؟ «المواطن البسيط»؟

ولكن كل هؤلاء أصابهم المجتمع الذي يعيشون فيه بألف آفة وآفة؛ فكان المحور الثاني، الآخذ قسطاً وافراً من «ضرورة الإصلاح»: إصلاح المجتمع. فالذائع ان الدين ما كان ليكون على هذه الدرجة من الفظاعة ومن القدرة على توليد ديناميكيات «جهادية» مدمرة، لو لم يكن مجتمعاً مأزوماً مفلساً ممزقا منهاراً؛ مجتمع غير أخلاقي، غير منتج، غير مسيّس، طائفي، مذهبي، تقتصر كل طاقته على الحروب المتواصلة. مجتمع يكره، يحسد، يدمر، يشمت، يثأر، يجهل، يحتكم إلى صراعات على السلطة عمرها من عمر الدهر؛ وكل هذا لأنه يائس، عرضة لفوضى عارمة ورسوخ الماضي في مستقبله وعالق في الزبائنية والفساد والتكاذب، لا يحسن الكثير من الأشياء، لا يبرع إلا في الانتظام العصبوي الأهلي، يبيع هويته الوطنية لدى أقرب شاري و… و… «إذن علينا إصلاح المجتمع»، يقولون. ولكن مهلا: ما هو المقصود بكلمة «مجتمع»؟ والإجابة على هذا السؤال تسهِّل على المصلح وصف هذا المجتمع تمهيدا لإصلاحه. وصف فكرة «المجتمع» سوف يفضي إلى وصف ديناميكيته العميقة الأخرى، الجنينية، بأوضاعه وفئاته ومجموعاته؛ المجتمع المقيم والمهاجر، النازح والقاعد، العامل وغير العامل، الأمي وغير الأمي، الميسور والمقطوع السبيل، الضائع مستقبله والواعد به، المقطع الأوصال الأهلية والعائلية، العنيف والمعنّف، الخاضع والمتمرد، العاقل والمجنون، الضحية الجلاد…

الوصف خطوة موازية للأسئلة «الكيفية» نفسها التي طرحت على الدين، أضف اليها سؤالا مشتركاً: إذا كان التنافس قائما بين الدين والمجتمع بصفتهما بنيتَين، واحدة فوقية والأخرى تحتية، واحدة تميل الى الاقتصادية، المادية، والأخرى أيديولوجية ذهنية روحية؛ فبأي واحد منهما نبدأ؟ من العقيدة التي صنعت الفرد على هذه الصورة؟ أم من الفرد والمجتمع اللذين، بانحطاطهما، فسرا العقيدة على هذه الصورة؟ أيهما أسبق على الآخر؟ الدين أم المجتمع؟ أيهما أقوى؟ أيهما يستحق نقطة الانطلاق؟ نقطة البدء؟ أم ان العملية واحدة، متوازية ومتجاورة؟

فيكون السؤال الأكثر راهنية: هل يكون العهد الديموقراطي الذي قامت من أجله الثورات العربية، هو المدخل الى إصلاح الدين والمجتمع؟ هل كانت وجهته كذلك؟ هل فشل، حتى الآن، قدوم العهد الديموقراطي، لأن الطاقات الديموقراطية العربية لم تكن على القدر نفسه من تطلعاتها؟ كانت فعاليتها أقل من ادعاءاتها؟ فكانت الثورة من أجلها فشل ذريع، بحيث تغلّب عليها كل من الدين والمجتمع، كل من «داعش» والعصبية المذهبية والتسلطية العسكرية؟ فشل أم اختبار؟ أم مرحلة انتقالية؟ سوف تليها ثورة أخرى يعدّ لها المجتمع الجديد بدين جديد و»معطيات» أخرى؟ أم ان المعركة من أجل الديموقراطية هي المدخل الى إصلاح الدين والمجتمع؟ أو العكس، ان المعركة لإصلاح الدين والمجتمع هي المدخل الى الديموقراطية؟ بما ان الثلاثة، الداعشية والمذهبية والعسكر، وقفوا بوجه الديموقراطية، هل يعني ذلك بان استمرار المعركة ضدهما هو بداية لمعركة اصلاح الدين والمجتمع؟ وكيف تكون هذه المعركة؟ غارات جوية؟ جيوش معتدلة؟ حرب عصابات؟ أم شيء آخر، لم نصغه حتى الآن؟

كيف نبدأ؟ من أين نبدأ؟ من الذي يبدأ، من بيننا؟ متى نبدأ؟ هل نحن مستعدون للبدء؟ أم اننا مشغولون بأمر آخر؟ برواتبنا؟ بالكهرباء المقطوعة؟ بالتفجير الذي بالقرب منا؟ بالماء؟ بالطرق المقطوعة، المحترقة بالدواليب السوداء؟ بانهيار البيوت فوق رؤوسنا؟ بالحرب التي تهددنا كل يوم؟ بالموت الذي يتصدر احتمالات يومياتنا؟ بالهجرة أو البقاء؟

هل كل هذا ممكن الآن؟ ليس على الصعيد العملي، الأصعب، إنما على الصعيد النظري؟ ولو بدايةً؟

ليس لدينا أمثولات تاريخية ناجحة نرجع اليها سوى الثورة الحداثية: فهذه الأخيرة خاضت، وعلى امتداد خمسة قرون، أربع ثورات متفاوتة الوتيرة، وكلها صبت في تغيير علاقة الإنسان بربّه وبالطبيعة، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة النساء بالرجال. وهذه الثورات المترافقة المتتالية لم تمر من دون هدر دماء وخراب وتناحرات دينية وحروب «مدنية»؛ لكنها جرّت الإنسانية أيضاً نحو وعي ذاتها. ولذلك تبقى أمثولتها في ذهننا كلما فكرنا بالإصلاحَين الديني والمجتمعي. نفكر بها بعفوية، ونقولها في أحاديثنا من ان أوروبا عرفت مثلنا حروبا وفوضى وأديان وأصوليات، واننا اليوم نمر بما مرت به أوروبا بحروبها المئوية، وسوف يأتي يوم نكون فيه مثلها، متحررين من سطوة العصبيات والتعصب. قد يكون هذا الاسقاط على اوروبا من أخطر ما تجده في غالبية الكلمات التي تناولت الاصلاحَين، الديني والمجتمعي في ديارنا. وتكمن خطورته في صهر أزمنة بأخرى، في الاعتقاد بإمكانية تكرار تجارب استثنائية، في عدم إنكار وطأة النظام الثقافي الذي يثقلنا، في النواقص التي شابت «حداثتنا»، في عدم الوعي بأن تجربتنا الحداثية كانت أشبه بالقفز المتهور في فضاء مجهول، في عدم النظر الى الأزمات التي تعاني منها الحداثة في موطنها، وهي ضريبة نجاحاتها وحراكها وديناميتها.

نحن وحيدون في أسئلتنا. العون الحضاري الغربي نسبي ومعقد، مرهون بالهواجس التاريخية. لكن مشكلته انه صار من صميم ثقافتنا ومظاهر حضارتنا، حتى لدى الداعشيين من بيننا… وهم أكثر مما نتصور، عدّة وعدداً.

http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=647382

السابق
روحاني: نقترب من التفاهم النهائي.. وأوباما: «القاعدة» لا الحوثيين أولويتنا في اليمن
التالي
حصص اللاجئين فاسدة؟