كل بئر نفط مشروع حرب أهلية

انحسر الضجيج السياسي وكذلك الحراك في ما خص البؤر المتفجرة في العراق وسوريا و «داعش». معارك موضعية على خطوط التماس نفسها لأخذ موقع من هنا وشارع من هناك. لا حديث عن تقدم عسكري لأي من الأطراف ولا حديث عما يجري داخل منطقة نفوذ «داعش» من تنظيم خاص وتركيز لشؤون الإدارة.
التفاوض الإيراني الأميركي النووي يجري بهدوء، وأقل قدر من التصريحات، لكن بتفاؤل لافت، بينما الروس الذين يتولون مبادرة بخصوص سوريا هم أنفسهم لا يرفعون سقف التوقعات عن حدود استكشاف النيات وتبادل الأفكار وضم المزيد من القوى السياسية ولو كانت غير فاعلة عسكرياً لتوسيع الإطار السياسي الذي اختنق في سوريا بين عسكر النظام وعسكر القوى الإرهابية والتكفيرية.
وإذا كانت البحرين نموذجاً صارخاً على القيود التي يفرضها الوضع الإقليمي على الوضع الداخلي فهي رغم المعاناة الطويلة للمعارضة الأكثرية لم تتورط بعد في عنف أهلي ستكون نتائجه الداخلية وتداعياته في الإقليم كبيرة جداً. ربما لهذا السبب تبدو الحالة اليمنية شكلاً من أشكال التعبير عن «المعارضات» الخليجية كلها، وخاصة تلك التي تطالب بالمساواة في الحقوق بمعزل عن المذاهب والطوائف. مع العلم أن هذا النوع من التمذهب اليمني حديث العهد وهو انشقاق داخل الكتلة المذهبية الكبرى الحاكمة ولكن على قواعد القبلية والفساد. وفي ليبيا تراجعت نسبياً بورصة الاشتباكات والقتل بعد التفاهمات الخليجية وتخفيض الدعم والضغط المصري الهادئ. لكن بلداً كليبيا لا يملك أحد تصوراً سياسياً لحل أزمة نظامه الذي لم يعرف عموداً فقرياً. طيلة نصف قرن وتتنازعه القبائل، وفي ظل فوضاه نشأت مجموعات إرهابية وانتشرت في كل الشمال الافريقي من دون المبالغة بحجم تأثيرها على تلك الدول.
أما لبنان فهو في ثلاجة الانتظار عمداً ولا يُراد أن تكتمل شرعيته الدستورية ولو شكلياً، ليس لأهمية هذه الشرعية وما تستطيعه في معالجة المشكلات الكبرى أو ترجيح الخيارات بل لأن لبنان جزء من الأوراق التي سيكون حسابها في الحل المشرقي الإجمالي العام.
وحدها إيران تتقدم في الإقليم وتزيد من رصيدها الضخم، لكنها هي نفسها لا تستطيع ان تحدد كيف يمكن ان يوظف ذلك خارج دور الكتل الشعبية التي تدعمها وهي مكوّنات سيكون لها حصصها المحفوظة في أي تسوية سياسية. ولكي يظل لإيران دورها الإقليمي المحوري لا بد لها ان توسع من دورها على حدود إسرائيل أو ان تنشئ ذاك الخط الأمني من الناقورة إلى طهران. وإذا كان ذلك ممكناً فعلاً بالمعنى العسكري، وهي تحاول استكماله في الجولان فدونه عقبتان هما الخلفية السورية لمشروع كهذا، والأرض أو الموقع الجغرافي والديمغرافي الذي لا يوفر عناصر النجاح كما في النموذج اللبناني. وكل حديث الآن عن معركة فاصلة مع إسرائيل غير مقنع في ظل الوضعين العراقي والسوري، فالحرب ليست فقط عمليات عسكرية. لا شك في أنها ستردّ على العدوان الإسرائيلي لكننا نرجّح عملاً «أمنياً» لا عملاً عسكرياً.
على أي حال تزيد هذه التطورات انكشاف لبنان على أزمات المنطقة لحظة لديه الفرصة لإنقاذ «الأصل» أي الجمهورية لا هيبة الرئاسة وقوتها المزعومة. فأما أن زعماء الموارنة غافلون فعلاً عن خطر الفراغ أو أنهم ارتضوا أن يضعوا الصيغة في الرهان الإقليمي كما الآخرون.
يبقى أن اليمن كيان عربي جديد ينضمّ إلى مجموعة الدول التي «بلا راس». على رمزية ذلك في ما خص الكيانات الوطنية بينما توجد رؤوس كثيرة من دون دول في تفكك عميق لمكونات المجتمعات العربية.
خلال أربع سنوات من «الثورة الشعبية اليمنية» بكل تعقيداتها وتناقضات مطالب أطرافها ظلت إلى حد بعيد خارج العنف ورايات الطائفية التي ظلت بعيدة عن الخطاب السياسي. فالطائفية أضعف مكونات الحياة السياسية اليمنية أمام القبلية والجهوية، والجميع في همّ الفقر والتهميش والحرمان ومواجهة الفساد سواء. أمس ارتفعت نغمة الزيود والشوافع والجنوبي والشمالي وحصص الجماعات في أيّ توزيع للسلطة على بضعة آبار من النفط لا تغني ولا تسمن في محافظة مأرب، وعلى توزيع إداري لا يضع الزيود في إقليم وسطي لا يطل على منافذ الخارج. إنها الطائفية نفسها التي لم يعد العرب يخجلون عن رفع هويتها بوصفها معبراً لمصالح اقتصادية واجتماعية وكذلك هوية مضادة قوية التأثير في تقوية مواقعهم السياسية، حيث لها حواضن في المدى الإقليمي. أمس انهار سدُّ مأرب العصر وما زالت المنطقة تستقبل الطوفان.

السابق
لماذا يستفزّ نتنياهو إيران؟
التالي
البطولات الأوروبية الدولية: تعادل مخيب لـ«يونايتد»