السعودية تطوي عقدين من المبادرات التدريجية للإصلاح والحوار

بمواراة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، طوي عقدان من التاريخ السعودي الحديث، قاد فيهما الحاكم السادس للمملكة بلاده ولياً قوياً للعهد وحاكماً فعلياً ثم عاهلاً في ظروف محلية وإقليمية ودولية شهدت الكثير من التغيرات.

حمل الملك في رحلة حياته الطويلة دروس نشأته في الرياض حيث وُلد عام 1924. كان النجل الـ13 من 35 للملك عبدالعزيز، والابن الوحيد للأميرة فهدة بنت العاصي الشريم، زوجته الثامنة، وقد اقترن بها عام 1922. والدها أبرز داعمي الملك عبدالعزيز وقد قاتل معه في مواقع عدة، نجله مطني الشريم، وهو خال الملك عبدالله وفارس عُرف بفروسيته وشجاعته. جده لأمه إذاً أحد شيوخ شُمر، القبيلة التي يمتد نفوذها وتأثيرها إلى سوريا والعراق والأردن، وهذا يفسر بعض جوانب المكانة التي حظي بها الملك الراحل في تلك البلدان. وأنجبت الأميرة فهدة، إلى الملك الراحل، صيتة ونوف، ولها أبناء من زواج سابق.
ويُروى عن الملك عبدالعزيز أنه عاقب نجله عبدالله لأنه لم يقدم مجلسه لضيفٍ، وأنه دربه وأشقاءه على الاستيقاظ باكراً وتعويد أجسادهم قلة الأكل. وتلقى الأمير تربية إسلامية كسائر إخوانه في القصر، فلُقن العربية وعلوم الدين، وحافظ على جذوره البدوية وصلاته بالقبائل التي أمضى سنوات في طفولته بينها في الصحراء، متأثراً بأخلاقها ونهجها المتقشف وتدينها الصادق. وحين وصل إلى سُدة العرش، خفَض مخصصات الأمراء.

الأدوار الأولى
بدأ عبدالله مسيرة أدواره ومهماته عام 1962 في الحرس الوطني، الكيان التاريخي الذي أنشأه والده من شباب القبائل ليكون ضامناً لأمن البلاد بعد توحيدها، وقد طوره هو بعدما رأسه منذ عام 1962 مدى سنين فجعله مؤسسة أساسية في السياسة الدفاعية للبلاد، فزاد عديده وأشرف على تسليحه وتزويده أحدث أجهزة الاتصالات، وأنشأ وزارة خاصة به في السنوات الأخيرة.
وبعد اغتيال الملك فيصل، أبقاه الملك خالد على رأس الحرس الوطني، لكنه اختاره كذلك نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء عام 1975، وهي مرتبة مهمة في الهرم السياسي السعودي، إذ تعني تقليدياً أن من يشغل هذا المنصب يصير بعد ذلك نائباً أول، وولياً للعهد وملكاً. وهذا ما حصل، إذ صار عبدالله نائباً أول عام 1982 وولياً للعهد في عهد الملك فهد. وإذ تراجعت صحة الأخير شيئاً فشيئاً، بقي عبدالله ولياً للعهد، لكنه كان في الواقع الحاكم الفعلي منذ عام 1995 حتى توليه رسمياً المُلك عام 2005.

الملك السادس
أرسى الملك عبدالله الكثير من أسس حكمه، حتى قبل أن يكون عاهلاً. من قبيل ذلك إطلاقه ولياً للعهد مبادرة للسلام في بيروت عام 2003 سرعان ما تبنتها جامعة الدول العربية. وهي تنص على سلام شامل مع اسرائيل، في مقابل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967 وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، إلى التوصل الى حل تفاوضي لقضية اللاجئين. وهو واصل متابعة الملف الفلسطيني، فأشرف على مؤتمر للمصالحة بين حركتي “فتح” والمقاومة الإسلامية “حماس” في مكة عام 2007.
وكرست هجمات 11 أيلول 2001 على الولايات المتحدة، والتي كان معظم منفذيها سعوديين، اقتناعه بوجوب تحقيق إصلاحات وإرساء مبدأ الحوار، في الداخل والخارج، والتعاون لمكافحة الإرهاب.
وفي سيرة له نشرتها في “الغارديان” الكاتبة السعودية مضاوي الرشيد أن عبدالله أصغى منذ كان ولياً للعهد الى مطالب ناشطين وجهوا اليه مناشدات عدة بتحويل النظام تدريجاً ملكية دستورية، وأطلق بعضهم من السجون، متعهداً زيادة الشورى في الحكم.
وفي سجله إنشاء هيئة لحقوق الإنسان وإجراء الانتخابات البلدية الأولى في تاريخ البلاد عام 2005 ومواكبة دخول النساء الغرف التجارية والفتح التدريجي لسوق العمل أمامهن وإطلاق جامعة للعلوم التقنية تحمل اسمه عام 2009، هي الأولى المختلطة في المملكة. وكذلك تعيين نورة بنت عبدالله الفايز نائبة لوزير التربية والتعليم في خطوة لا سابق لها في العام نفسه، وإدخال 30 امرأة إلى مجلس الشورى عام 2013.
وبرعايته صارت نسبة الأمية 22 في المئة بين النساء بعدما كانت 98 في المئة في السبعينات من القرن الماضي. وتخلصت المناهج التربوية من خطاب متشدد وخضع أئمة لإعادة تأهيل وأقصي بعضهم عن مناصبهم وتغيرت قيادة “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
كما يقف الملك عبدالله وراء قرار فتح مجلس الشورى أمام أبناء الأقلية الشيعية وتعيين وزير شيعي للمرة الأولى في تاريخ البلاد. وكان مؤمناً بوجوب إقامة حوار جدي داخل الإسلام نفسه، بين المذاهب الإسلامية، قبل تحاور الأديان في ما بينها، فأطلق المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار عام 2008.
وبعد زيارته التاريخية للفاتيكان قبل ذلك بسنة ولقائه البابا بينيديكتوس السادس عشر، أطلق مبادرة للحوار بين الأديان تحولت واقعاً عام 2012 بافتتاح “مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي للحوار بين الأديان والثقافات” ليكون منبراً لإيجاد النقاط المشتركة بين مشارب الإنسانية، في زمن صعود التشدد الديني والإرهاب الذي استضافت الرياض قمة لمكافحته عام 2005 ودعت إلى قيام مركز دولي لتلك الغاية.

البيت الخليجي والعربي
وحافظ الملك عبدالله على القيادة السعودية لدول الخليج، مكرساً لبلاده مكانتها، على رغم تباينات متعددة مع قطر، تجلت خصوصاً في ابتعاد كبير للمواقف من الملف المصري. ففي حين قادت الرياض التيار العربي والخليجي الداعم للرئيس المشير عبدالفتاح السيسي بعد “ثورة 30 يونيو” وعزل الرئيس محمد مرسي، وقفت الدوحة إلى جانب نظام “الإخوان المسلمين”. وبلغ الخلاف ذروته بقرار السعودية والإمارات والبحرين سحب السفراء من قطر في تشرين الثاني 2014، قبل أن تتحقق المصالحة في كانون الأول لتكون بذلك الإنجاز الأخير للملك عبدالله، إلى دعمه الذي لم يخفت للثورة السورية منذ بدايتها ورعايته لـ”الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، على رغم عثراته وانقساماته وتشرذمه.
وكانت للملك عبدالله ايضا يد في تحقيق مصالحات بين بلدان عدة، مثل السودان وتشاد، وفي رعاية عمليات للحوار الداخلي في أفغانستان وباكستان. وقد وصفته “النيويورك تايمس” بأنه “كان يشبه والده الفارس المقاتل، وكان لديه حس للتحديث والحداثة”.

السابق
كتاب ابوفاعور الى خليل وحكيم وزعيتر
التالي
آل سعود و«ويكيليكس»