محمد النابلسي: التطرف مشكلة رئيسية في المجتمعات المعاصرة

يستند التطرف بجميع أشكاله إلى فكر خاطئ يجب محاربته بالفكر الصحيح للقضاء على أسبابه، وتعزيز التعاون الدولي وتنسيق الجهود وصولاً إلى نشر الوعي بماهية التطرف وأخطاره على الأمن والسلم الدوليين لضمان سلامة الشعوب في المنطقة والعالم. ويترتب عليه، ضرورة تحمل المجتمع الدولي لمسؤولياته في هذا الإطار ومساعدة البلد حتى يتمكن من أداء رسالته الإنسانية على أكمل وجه. وتعد مشكلة التطرف من القضايا الرئيسية التي يهتم بها الكثير من المجتمعات المعاصرة، فهي قضية يومية حياتية، تمتد جذورها في التكوين الهيكلي للأفكار والمثل والأيديولوجية التي يرتضيها المجتمع. فالفكر المتطرف، هو ظاهرة اجتماعية تتأثر وتؤثر في غيرها من ظواهر، مرتبطة إلى حد كبير بالظروف التاريخية والسياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من ظروف يتعرّض لها المجتمع.

ولتحديد مفهوم التطرف وفقاً لمبادئ علم النفس، والبحث في مدى ارتباطه بالغرائز الموجودة لدى الإنسان، وبالبيئة التي عاش فيها، كان لنا لقاء مع الأستاذ في الطب النفسي، الدكتور محمد النابلسي، مؤسس مركز الدراسات النفسية في طرابلس، والجمعية اللبنانية للدراسات النفسية، شارك في العديد من المؤتمرات المحلية والعالمية، وله عدة مؤلفات في الأمراض النفسية وعلاجها.

انطلاقاً من أن العلوم النفسية هي من أهم الاختصاصات التي تعالج حالة التطرف، هل يمكن اعتبار التطرف مرضاً نفسياً، أم هو نتاج للبيئة التي عاش فيها المتطرف؟

التطرف هو عملية تفجير للغرائز البدائية عند الإنسان، والغرائز البدائية موجودة لدى جميع البشر، عندما يوجد الإنسان في وضعية ضاغطة نفسياً، أو في وضعية تهديد بوجوده، تتفجّر هذه الغرائز البدائية، والتي هي موجودة أساساً، ويرمز لها في التحليل النفسي بعقدة تسمى “عقدة قابيل”، فقابيل قتل أخاه هابيل، وهذا يدل على أنه في الأصول الإنسانية عقدة القتل موجودة حتى قتل الأخ، فعندما يمرّ الإنسان بالظروف الضاغطة نفسياً أو المهددة للوجود تتحرّك هذه الغرائز البدائية، كما أنّ هناك بعض الغرائز السلبية كالحقد والرغبة بالثأر أو الرغبة بالانتقام، وتبرز عندما نرى أي نوع من أنواع التطرف، إذ يكون هناك نوع من الشحن المثير لتلك الغرائز السلبية، التي تؤدي إلى تفجير الغرائز البدائية. وهذا ينطبق على كل أنواع التطرف، سواء أكان حزبياً، قومياً، دينياً أو فئوياً. إذاً الغرائز السلبية موجودة والغرائز البدائية موجودة يكفي إثارتها بالشحن أو التجييش ليحصل ذلك.

قد يبقى التطرف أحياناً ضمن إطار الفكر، دون اقترانه بالتنفيذ المادي، وبذلك لا يمكن وصفه بالإرهاب، متى يصل التطرّف إلى حدّ الإرهاب؟

نحن نعيش في عصر المعلومات، وفي هذا العصر أحياناً يكون التطرّف المعنوي والفكري أقسى وأكثر إرهاباً، وأشدّ خطورةً من التطرّف الممارس بشكل إرهابي، فالتمييز بينهما بات صعباً جداً، إذ هنالك عنفٌ معنوي يكون أقسى وأكثر ضرراً من العنف الممارس.

كيف نفسّر إذاً عمليات الذبح التي تتم حالياً كإحدى وسائل العنف الممارس؟

الذبح يدرج في إطار أكل لحوم البشر، فقد مرّت البشرية بمرحلة ليست بعيدة جداً تضمنت هذا الفعل، وذلك عندما قام الرحالة العربي إبن بطلان برحلة إلى مناطق اسكندينافيا حيث كان سكان المناطق هناك يمارسون عادة أكل لحوم البشر، وعملية الذبح إذا مقترنة بهذه العادة. والرسالة المعنوية التي ينطوي عليها الذبح هي اعتبار الآخر حيوان، وقابلاً للقتل، وممارسي الذبح يأكلون الأعضاء البشرية تأكيداً، يعني أن هنالك ممارسة فعلية لهذه العادة، وهنا ندخل في انتكاسة حضارية. والإنسانية تخطّت هذه المرحلة الحيوانية منذ فترة طويلة، ومع وجود الحضارة وتطوّرها، يحاول الإنسان، أن يكون أكثر تهذيباً وأكثر رقّة، فمثلاً علاقته بالموسيقى تغيّرت، بعد أن كانت بالطبل لدى الأقدمين أصبحت اليوم (بالبيانو)، ففي الحالتين نسمع الموسيقى، إلاّ أنها تختلف من آلة لأخرى فتكون أكثر هدوءاً. فالإنسانية إذاً تحاول أن ترتقي بممارساتها، بغضبها أو بتعبيرها عن الغضب، ولكن هناك حالات نقوس حضاري، تعود بها، إلى الغرائز البدائية والمراحل الأولية، وهي حالة تخلف حضاري، أو ردّة حضارية لو صحّ التعبير.

لو قلنا بأن التطرّف يستند إلى حالة من التعصّب (للجماعة)، أي لمن ينتمي إليهم المتطرّف، وذلك بهدف وصول لأهداف سياسية تخدم تلك الجماعة، كيف يمكن الحدّ من هذا التعصّب؟

الإنتماء لأي جماعة يستدعي الدفاع عنها والحفاظ على مبادئها، ومواجهة المعتدين والمتخطين لهذه المباديء والمخالفين لها، والمسألة هنا كيف يمكن مواجهة هذا الاعتداء أي أسلوب المواجهة. لا توجد جماعة لا تحاول حماية نفسها والدفاع عن مبادئها ونمط تفكيرها وعيشها، وهذا حق مشروع لكل الجماعات وكل البشر، ولكن هنا، أسلوب الدفاع والمواجهة الذي تعتمده الجماعة يكون هو المحظور. ونحن كأطباء نفسيين ودارسين للتروبولوجيا، نعتبر هذه الجماعة هنا، تكون بوضعية المريض، الذي يتوجّب دراسة تاريخه المرضي والظروف التي مرّ بها.

إلامَ يمكن إسناد حالة التعصّب هذه، التي تسود منطقتنا العربية؟ هل يردّ ذلك إلى أسلوب القمع والقهر الممارس من الحكام العرب مثلاً على بعض الإسلاميين؟

هنالك حالة مزمنة من الإحباط تسود المنطقة أو حتى كل العالم الثالث، العرب رغم جبروتهم ودكتاتوريتهم أثبتوا أنهم كانوا أكثر رفقاً من وحشية الغرب الاستعماريين، فهم بمجملهم ليس بينهم ديمقراطياً كما يجب أو حضارياً كما يجب، إلاّ أنهم لم يصلوا إلى أسلوب قطع الرؤوس وعرضها مقطوعة كما فعل الفرنسيون في الجزائر عام 1912. فذلك يعود إذاً إلى الغرائز البدائية التي تقوم على إلغاء العدو، بقتله أو ذبحه وقطع رأسه، فوفقاً للحضارة الإنسانية لا بد من تجنّب الشحن لهذه الجماعه، لعدم قيادتها نحو الغضب والمشاعر السلبية وبالتالي نحو الغرائز البدائية أي نحو التطرف والذبح والقتل، وتجنّب استغلال الإعلام بطريقة مستفزّة ومشجّعة للقتل وإثارة تلك الغرائز، وتأمين حدّ أدنى من العدالة الإنسانية، أي احترام لإنسانية الإنسان، كلّها مصطلحات عامة تجنّبنا الإرهاب بكل أنواعه، وذلك يصبّ من الناحية الطبية في نطاق توافر غرائز بدائية تدفع الشخص إلى قتل الآخر لمجرّد أنه يختلف معه بالرأي، والحضارة الإنسانية بالدرجه التي وصلت إليها اليوم، يفترض أنها تعتبر ذلك معيباً، فتعمل على تلافيه وصدّه، في الوقت الذي تعمل فيه السياسة على تغذية هذا الوضع، وبدلاً من أن تعالج المشكلة من أساسها، فهي تهدّد هذه الجماعة بمزيد من الظلم ومزيد من القهر، وبالتالي تستفزّ لديها غرائز بدائية أقسى وأكثر إجراماً، وإن ما يجري حالياً، يتم على يد شعوب أو دول متقدّمة، تدرك أهمية الطب النفسي في السياسة، وتدرك مفهوم الحرب النفسية، وتدرك مفهوم العلاج النفسي للجماعات، فعوضاً أن تعالج هذا الإرهاب فهي تستفزّه. ويبدو أن المسؤول هو من يقوم بذلك لأنه يدرك أن ما يقوم به، يؤدّي إلى زيادة الضغط، وبالتالي زيادة القتل وزيادة الذبح، بممارسة تلك الضغوط من أجل زيادة الإرهاب.

علامَ ترتكز هذه الغرائز بشكل أكبر على الفقر، القهر أم الجهل؟

في أي حال من الأحوال هي ترتكز على السياسة الصغيرة، فنحن في مجتمعاتنا، كل آمال وجهود الحاكم وكل متطلعاته أن يبقى في الحكم، فيكون طموحه متواضع، إلاّ أن هناك سياسات خارجية تريد أن تنهب ثروات المنطقة، وأن تتحكّم بها، وتحوّل الشعوب إلى عبيد، وبالتالي فإن أسهل ما يمكن لتحقيق ذلك، هو خلق الشحن بين الجماعات، كي تصفّي تلك الجماعات بعضها البعض، وكما نلاحظ على كل المستويات، في كل بلدان العالم الثالث ليس فقط الدول العربية أو الإسلامية، هنالك جماعات مستعدّة لمواجهة جماعات أخرى، وتصفية بعضهم البعض، ففي أفريقيا مثلاً، خلال شهرين أسفرت الحرب بين قبائل الهودو والتوتسي، عن حوالى ثمانين ألف قتيلٍ، لكن عدم توافر النفط في المنطقة كان سبباً لعدم إثارة اهتمام الدول بذلك، عكس ما يحصل في منطقتنا، بسبب توافر النفط.

هل يمكن معالجة هؤلاء المتطرفين ومن ثمّ دمجهم في المجتمع فيما بعد؟

دمج هؤلاء أكذوبة كبيرة جداً، إذ أنه في اختصاصنا لا بدّ من التفريق بين المصيبة الشخصية وبين مصيبة الجماعة، ففي الحالة الأولى تتعلق المصيبة بالشخص نفسه سواء كانت صحية، عائلية، نفسية أو ما شابه ذلك، أما إذا كانت الكارثة كارثة جماعه أو أمة، يصبح من الكاريكاتوري أن تعالج الشخص في حين تكون الجماعة أو الأمة معرّضة. فإن ما تحدّثت عنه إحدى الدول وما أسمته بالمناصحة، وهي أن تجلس مع ممارس الإرهاب، وتنصحه بشكل شخصي، وهذا لا ينفع، لأنه في حالة مشكلة الجماعة نكون بصدد إيديولوجيا، وليس بصدد رأي شخصي، إذ يدافع الشخص عن نفسه، وهدفه استمرار حياته. في حين أنه في حالة كارثة الجماعة، فإنّ من يمارس هذه الأعمال يكون مستعداً للتضحية بحياته من أجل إنقاذ الجماعة، عندما تصل المسألة إلى هذا الحد، لم يعد علاجه النفسي ذو فائدة، لاعتقاده بإنقاذ الجماعه، (وإنقاذ الجماعة يمكن أن يحدث بصورة ناضجة عندما يواجه عدواً حقيقياً، عندها تكون التعبئة والمواجهة نضالية)، إنما المواجهة ضدّ عدو افتراضي أو عدوٍّ مخترَع، أو هُيِّءَ لنا أنه عدوّ فهنا ندخل في الخطر، ولتعريف الإرهاب تعريفاً صحيحاً، لا بدّ من تعريف العدوّ تعريفاً واضحاً.

ما نعاني من اليوم في منطقتنا هل يمكن اعتباره ناتجاً عن تطرف ديني أم عن تطرف سياسي؟

لو عدنا خمسماية سنة إلى الوراء، نجد أن هذه الجماعات تعايشت مع بعضىها على مدى قرون واختلفت لبضعة أشهر، فهذا دالّ على جماعات ذات التراث، عندما تكون أمة لها تراث، لا بدّ أن تحصل خلافات بين المقوّمات، وهذا مدعاة للاعتزاز وليس مدعاة لإثارة الغرائز والشحن والفتنة، أنا عندما أخالفكِ معنى ذلك أني أعترف بكِ، فحتى في العلاقات الشخصية، الشخص الذي يوافقكِ على ما تقولين يجب أن تخافي منه لأنه يبيّت لكِ شيئاً ما، فالشخص الذي يقبل أن يختلف معكِ هذا يعني أنه يحترمكِ، ومستعد لمنافستكِ، لإظهار موقف يتعارض مع مع موقفكِ لكنه يحترمكِ، هذا هو التراث، وتراثنا يحتوي على كثير من المواقف الخلافية، وبالتالي الاعترافية، فجأةً نصل إلى مكان، لم يعد أحد يعترف بالآخر أو يحترم رأي الآخر، وهنا نصاب، إذ أن طبيعة الأمور والتطور التاريخي لها، لا تقوم بهذا الصراع، إذاً هذا الصراع مفتعل (مفبرك).

ما هو موقفكم من سياسة التكفير، واعتبار إباحة دم الآخر أمراً مشروعاً؟

مسألة التكفير هنا تقارب جنون العظمة، وتلامس العداء للمجتمع وللأمة، من هو الذي يقرّر ذلك، وبناءً على ماذا يقرّرون من هو على صواب أو من هو على خطأ، وما هو المرجع لذلك، وهنا نقع في ثغرة المنطق، إلاّ أن هناك أديان أو مذاهب معينة، لها مرجعيات تقرّر ذلك، بناءً على مبدأ ولي الأمر، لكنها لا تعتمد التكفير. فعلى مرّ التاريخ والحضارة الإسلامية لم يحصل التكفير، رغم أن من عاشوا تلك الفترة، كانوا أكثر درايةً وأكثر علماً وأكثر قدرة على التفكير، ولم يعطوا أنفسهم هذا الحق، وهم من عاصروا ظهور الإسلام وتأسيس الحضارة الإسلامية، كيف إذاً تعطي هذه الجماعة لنفسها بعد ألف وخمسمائة سنة حق تكفير الأخر، ومن أين اكتسبت هذا الحق. في الطب النفسي، توجد هذيانات لها تسميات معترف بها عالمياً، ففي الحضارة الغربية مثلاً، هناك ما يسمى بهذيان العيسوية، اليهود يعتقدون أن عيسى لم يظهر بعد، وبين الموسويين نجد هناك من يدّعي أنه عيسى المنتظر، والمسيحيون ينتظرون عودة المسيح، وفي الثقافة الإسلامية هناك ما يسمى بهذيان المهدوية، ينتظرون الإمام المهدي. فهولاء عند ظهورهم لا يحتاجون لإثبات، لذا فكل من يعتقد أنه مسموحٌ له أن يكفّر الناس فهو مريض حتماً.

لو نظرنا لهذه الجماعة المقصودة تحديداً، ما هي الأسباب التي تؤدي إلى خلل الرؤيا في تغليب المنطق والعقل التي تصل إلى حدّالتطرف والمغالاة؟

هي أسباب خارجة عن الدين، عن العلم وعن المنطق التاريخي، بناءً على ما تطرقت إليه سابقاً، تعود لعوامل لها علاقة مباشرة بشكل مريع بالسياسة، فهي مسألة سياسية بحتة.

 

 

 

 

 

السابق
احتجاجات فلسطينيي الـ48 ضد العنصرية الإسرائيلية
التالي
«جهزوا ملاجئكم» واسئلةٌ ممنوعة