هذا الشرق العاطفي.. وهوس التآمر!

مأخوذون بالبحث بين خوابي الكلام، وما أريق من حديث على الشاشات والصحف، وضاقت به الأرض من ضجيج وصراخ، يقالُ له تجاوزاً “تحليل سياسي”، يزجيه من يغتبطون بمسمياتهم المنمقة، كنياشين علاها الصدأ، على صدر بحارٍ هرم!.

هو ذا العقل الجمعي في بلاد العرب والمسلمين، حيث الفرد يتنازل طوعاً عن مهام التفكير، معيراً ذاته، مستقبله، وكينونته، إلى صُناعِ الوهم، وسدنة الأحاديث الكاذبة، والنصوص المصنمة. وكأن هذا “الشرق” لا يزال في بدايات الخليقة، يعلوه غبار “إنسان الكهف”، وبدائية المشي على قائمتين.

الأمر ليس بالهجاء ل”شرق” متخلف، ومدح لـ”غرب” متقدم. إنما الأمر أعمق من ذلك بكثير. هي إشكالية صناعة الوعي، وإنتاج المعرفة، والتحول إلى إطار المجتمعات المدنية، تلك التي تنبذ الخرافة والوهم، وتحتكم إلى العقل.

هنا، النخبُ المسلمة والعربية، في كثير منها، هي الأخرى، تعيد صناعة الوهم، وتقف تجاه الآخر معلنة الكراهية تارة، ومضمرة إياها تارة أخرى. هو الخوف المرضي، والتوجس حد الإيمان المطلق ب”المؤامرة”، وكأن العالم ليس لديه شغل آخر، سوى التآمر على العرب والمسلمين. كأن مراكز البحوث انفضت عن التجارب الطبية والعلمية واكتشاف الفضاء، وانشغلت بحفر “المصائد” ونصب “الأفخاخ” لإنسان هذا الشرق البائس.

تذكرني هذه الحال، بكتاب الراحل إدوارد سعيد “الاستشراق”، وبكتاب جلال صادق العظم “الاستشراق والاستشراق معكوساً”، وإن اختلف كل منهما في مبتنياته ونظرته، إلا أنهما يقدمان قراءة عن المتخيل والمتخيل المضاد. عن لعبة المرايا، وعن الصورة الذهنية المرتسمة، وعن المواقف القبلية، التي تطوع الحقائق وتلوي عنق النصوص، لترسم الصورة التي تشتهيها، أو تتخيلها!.

هي أيضا، الشعبوية في التفكير، والانسياق من النخب لتكون جزءاً من عقلية الجموع!. وإلا فما هو المعنى لكثير من الضجيج الذي اعتلى بعيد مجزرة “شارلي إيبدو”، مندداً بـ”الغرب العنصري”، وكأن الغرب غربٌ واحد، أو الشرق شرقٌ واحد. هو التبسيط العلمي، والنظرة التي تختصر المفاهيم وتختزلها بشكل مُخلٍ، يقود إلى سقم في التفكير والنتائج.

حادثة “شارلي إيبدو” كشفت حقائق جدّ مرة في عامة العقل العربي والمسلم، تنبئ عن خلل منهجي في التفكير، ومحاولة لمحاكمة سياقات فكرية، من خارج إطارها الفلسفي التي ابتنت عليه. وهذا الخلل المفاهيمي وقعت فيه ليس النخب “الأصولية” وحدها، بل، حتى نخب علمانية وليبرالية، تدعي الإيمان بقيم المساواة والعدالة وحقوق الإنسان.

“رسالة لهذا الغرب العاطفي”، خطها في جريدة “المدينة”، الكاتب محمد الرطيان، نالت تفاعلاً كبيراً عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أدان فيها ما يعتبره “ازدواجية الغرب”، مقارناً بين أطفال سورية وصحافيين “شارلي إيبدو”، وقائلاً فيما قال “أطفال سوريا يموتون في الملاجئ من البرد. محررو صحيفة شارلي إيبدو ماتوا في قاعة مكيفة وعلى مكاتبهم الأنيقة”!. وهي المقاربة التي ابتنت على خلل مفهومي، واختزال للمشهد، وربط بين قضيتين مختلفتين تمام الاختلاف. وكأن القتل لا يكون “مجرماً” إلا إذا كان في العراء.

الرطيان، لم يفرق بين سورية التي هي ساحة حرب وتقاتل أعمى، تحصل فيها من التجاوزات الكثير، ويقع فيها الضحايا من مدنيين وعسكريين، وفق منطق الحروب، وخارج منطقها أيضاً. وبين فرنسا التي هي ليست بساحة حرب، بل فضاء مفتوح للجميع. وهو أيضاً، لم ينتبه إلى أن في سورية، يتقاتل المسلمون بين بعضهم البعض، وهم من يرمون بعضهم بالرصاص، ويحزون الرؤوس، وليس من اعتبره “الغرب العاطفي”!.

المثقف العربي، يطلب مساعدة الغرب من جهة، ويهجوه من جهة. يريده أن يخلصه من حمام الدم الذي ينزف شلالاً في سورية واليمن والعراق وسواها، وفي ذات الوقت يعتبر أن الغرب قابع في أزمة “خلل إنساني”. متناسياً أن الخلل هو في عقل وسلوك الفرد العربي، قبل أن يكون لدى الآخر.

نحن يا سيدي، كما قال الشاعر العراقي مظفر النواب “ليس في المركب أو البحر ثقوبٌ، إنما أنتَ هو الثُقبُ، ولن يمنحكَ البحرُ احتراماً”. لننظر لأنفسنا في المرآة، ساعة صفاء، وبعدها لِنقُل من يعاني من “خلل إنساني”، نحن أم “الغرب العاطفي”!.

السابق
بالفيديو.. إغلاق الأبواب أمام الزواج المدني في لبنان؟
التالي
حنان رحيمي: روايتي هي دعوةٌ للحياة