سهرة مع السيد: مغالطات لا معطيات

كانت السهرة مع الامين لحزب الله السيد حسن نصر الله طويلة وشاقة ومحيرة. ثلاث ساعات متواصلة على شاشة تلفزيون “الميادين”، رسمت صورة لسياسي لبناني عادي، ينتمي الى بلد متواضع في موقعه وفي دوره الذي كان في يوم من الايام موقداً للكثير من أزمات المنطقة وحروبها، ينتج النجوم والرموز ويصيغ المصطلحات، ويخوض معارك اكبر بكثير من حجمه ومن وزن شعبه، لكنه كان يوفق دائما في نيل الشهرة.

لعل تضاؤل هذا الدور بالمقارنة مع الزلزال العنيف الذي يضرب المحيط العربي هو ما أدى الى خفوت نجم “السيد”، فأفتقد طوال السهرة عناصر الاثارة التي طالما طبعت أحاديثه وخطاباته، وبدا مثل اي سياسي مبتدىء يستقي معلوماته ومعارفه من قراءة متعجلة لصحيفة او اثنتين لا اكثر، ومتابعة شاشة او شاشتين على الاغلب، فكان من الطبيعي ان يحتوي “حديث المعطيات”، على الكثير من المغالطات والاخطاء التي لا يجوز ان يقع فيها الامين العام لأقوى الاحزاب اللبنانية وأشدها بأساً وأوسعها انتشاراً.

ثمة قدر مفاجىء من السقطات في السرد التي لا يصح ان ترد في حوار تلفزيوني يفترض انه معد سلفاً، ومسجل مسبقاً، ولم يكن  خطاباً جماهيرياً تعلو فيه النبرة وتنخفض وفق مقتضيات الخطابة وفنونها، ويرتجل فيه معظم الكلام ويخرج منه المشاهدون والمستمعون بمعلومات واضحة ومحددة، لا تجافيها الدقة، وباستنتاجات ثابتة لا تقبل النقاش ولا حتى التأويل.

ما زالت المقارنة مع سياسيين لبنانيين آخرين من رتبة “الزعماء” التي يصنف فيها السيد وهم اربعة او خمسة فقط من المشتغلين بالسياسة في لبنان، غير جائزة، وهي لا تزال تميل لمصلحته، برغم انه يقترب شيئا فشيئا من نظرائه، ويخسر جمهوره الذي كان الاسرائيليون في مقدمته، بالاضافة طبعا الى عرب كثيرين واجانب عديدين..كان لهم موعد محترم مع نصر الله يوازي بل احيانا يفوق مواعيده اللبنانية التلفزيونية التي كانت دليلاً ثابتاً على تعاقب الفصول السياسية والمعارك العسكرية الكبرى.

فقدان الاثارة هذه المرة لم يكن سوى نتاج لتراجع الثقافة السياسية التي كان يمكن تعويضها بالقول المتواضع بان ما يجري حول لبنان هو أكبر من طاقته على الفهم والاستيعاب. وهذا ليس عيبا، بل هو في هذه المرحلة دليل حكمة ووعي، يسمح بتفادي الغلط او الشطط، حتى في أسهل العناوين وأقدمها، اي العنوان الاسرائيلي الذي لا يقارب فقط من زاوية الحرب، ولا يردع بالصواريخ.. ولا يحلل بمعزل عن الازمة في سوريا او عن المفاوضات النووية الاميركية الايرانية، ولا حتى بالافتراق عن أي شريك او حليف فلسطيني وازن.

ليس هناك الكثير من الالغاز في هذا العنوان، ولم يكن هناك الكثير من الرسائل المتبادلة، التي لا تشكل ردعاً ولا تمنع حرباً، مستبعدة الان، لاسباب سورية وايرانية تشكل منذ تأسيس الحزب الحافز الاهم وربما الأوحد لأي انفجار على الجبهة اللبنانية الجنوبية. فاسرائيل تقاتل حزب الله، لكنها تواجه به المحور الذي ينتمي اليه الذي كان وسيبقى علة بقاء لبنان تحت السلاح، وعلى الخط الامامي للمواجهة. لكن السيد لم يوضح ما اذا كانت اسرائيل ستخرج الى حرب جديدة على لبنان من اجل الرد على البرنامج النووي الايراني او من اجل التورط في الازمة السورية.. ولو لمصلحة المعارضين لنظام بشار الاسد على ما يعتقد السيد؟

عرض الوقائع السورية على لسان السيد لم يكن سوى وصفة للكارثة: المعارضة المعتدلة الى زوال، مع ان مؤتمر موسكو المقترح يعد ضمناً باعادة انتاجها وتنظيمها، وحتى التلميح لها بان بشار شخصيا ليس خطاً احمر، (حسبما قال الرئيس فلاديمير بوتين نفسه لأكثر من مسؤول اجنبي وعربي)، ومع ان دعم واشنطن المرتقب للمعارضة بالتسليح والتدريب هو تحول استراتيجي في الموقف الاميركي من الثورة السورية.. وهو يحصل لا لأن داعش باقٍ في المعادلة لوقت طويل، بل لان البديل يجب ان يكون جاهزاً قبل ان يتمكن الاميركيون من الخليفة ابو بكر البغدادي مثلما تمكنوا من العشرات غيره من قادة تنظيم القاعدة ومشتقاته.

داعش لم يولد امام أعين الاميركيين في العراق،على ما قال السيد، بل عندما أغمضوا عيونهم عن الشأن العراقي وعهدوا به الى حلفائهم الشيعة وشركائهم الايرانيين فكانت الفضيحة التاريخية المتمثلة بفراغ الدولة العراقية ومذهبية مسؤوليها وفسادهم الذي تجلى في آخر صوره بالكشف الاخير عن وجود نحو خمسين الف جندي “فضائي” في الجيش العراقي، الذي لا بد ان السيد يدرك انه فر هاربا من داعش على جميع الجبهات بدءا من الموصل حتى اطراف بغداد.

اما إختزال مشكلة داعش بانها جزء من انقلاب الجهادية السنية على مشغليها السابقين الاميركيين والاتراك والخليجيين، فهذا الامر حصل، يا سيد، في اليوم التالي لهجمات 11 ايلول 2001، ولم يعد اي تركي او باكستاني او اي خليجي طبعا يجروء أن يلعب بهذه الورقة بأي شكل من الاشكال. افغانستان كانت درسا قاسياً للجميع وهو درس مستمر كل يوم. لم يوحِ السيد أنه يعرف أن داعش هو امتداد طبيعي للقاعدة ومخلفاتها العراقية العديدة التي تهاوت الواحدة تلو الاخرى طوال السنوات العشر الماضية، وهو إنشقاق او حتى انقلاب على قيادة الدكتور ايمن الظواهري، وقد سطع نجمه فقط عندما نجح في سد الفراغ المتعمد الذي خلفه النظامان العراقي والسوري عن سابق تصور وتصميم.

اما تحليل الوضع في اليمن وتدحرج سيطرة الحوثيين على صنعاء وبقية المدن اليمنية الكبرى، فلم يقع السيد فقط في تبسيط غريب للازمة اليمنية، بل دخل في تعارض مع ما ذكره الحوثي نفسه ومع ما أوردته طهران علنا، وفي تجاهل للفخ الذي تنصبه السعودية للجانبين معا.. وهو تحليل يشبه الى حد بعيد تقدير السيد لعظمة ايران وديموقراطيتها وقوة دورها السياسي والعسكري ومناعتها الاقتصادية. وهو ما يتنافى مع ما يقوله الايرانيون انفسهم هذه الايام عن بلدهم، والمحافظون منهم قبل الاصلاحيين.

لعل ازمة البحرين هي الوحيدة التي قاربها السيد بقدر معقول من الدقة، سواء في رفض النظام للحوار والاصلاح او في سلمية المعارضة او في مشكلة التجنيس او حتى في معضلة الهوية. لكن ما كان قد قاله قبل ايام كان مفجعاً، لا سيما في تشبيه النظام البحريني باسرائيل او في الايحاء بان الحزب عرض السلاح والرجال على البحرينيين.. وهو في الحالتين عمق الازمة البحرينية وأكسبها بعدا مذهبيا اضافيا بالغ الخطورة.

كان يمكن للسيد ان يكتفي بالحوار مع تيار المستقبل، الذي كان حتى الامس القريب في نظر الحزب وجمهوره البيئة الحاضنة للارهاب السني، مع انه لا يستطيع ان يحتضن قيادته نفسها.. وان يعتصم بالاشارة الى أن اميركا أربكت العالم كله. لا احد يعرف في اي خندق تقف واي قتال تخوض واي نهج تعتمد.. هي خصم هنا وشريك هناك وحليف هنالك، لكنها عدو دائم الى ان تقضي على داعش وتجلس مع خامنئي وبشار.

  http://www.almodon.com/opinion/0cebd8e9-fcce-48fd-a091-8736f9288a3a

السابق
افتتاح مركز للدفاع المدني في الضاحية بدعم كويتي
التالي
الإرهاب بين العرب والجهاديين وأميركا!