حدود الإساءة إلى الأنبياء؟

محمد علي مقلد

المجزرة هزت العالم. الملايين احتشدت في شوارع فرنسا تعبيرا عن الوحدة والتضامن ودفاعا عن الجمهورية. ما لا يحصى من التصريحات والمقالات في كل اللغات استنكارا. المؤسسات والهيئات الدينية أجمعت على شجب بالجريمة، حتى الحركات السلفية والأصولية نددت. إلا بعض اليسار القومي شاح نظره في هذا الخضم، فلم تقع عينه إلا على مشهد جزئي ظهر فيه نتنياهو متصدرا مع رؤساء من العالم مظاهرة الرد السياسي الحضاري على العنف الديني.

لا شك في أن شخصية نتنياهو تمثل ذروة الوحشية في المشروع الصهيوني في فلسطين، وفي أن ضحايا المجازرالتي ارتكبها هو ومن سبقه من حكام اسرائيل تعد بالألاف والملايين، مقابل بضع عشرة ضحية في مجزرة شارلي إبدو، ولا شك في أن حضوره مع الرؤساء شكل إساءة لمظاهرة الاستنكارالعارمة.

ومما لا شك فيه أيضا أن العلمانية الفرنسية تناصب الدين العداء، في إعلامها، من المكان الغلط، بالهجوم على المقدسات وبنقد اللاهوت الديني، مع أن مواجهة المشروع الديني تقع على حلبة السياسة  لا في ميدان الفقه وفلسفة الدين، وينبغي أن تطال تسييس الدين لا الإيمان والمقدسات.

اليساري القومي، الذي قد يصيب في تشخيصه أو في توصيفه الأزمة، كان يمكن أن يبدأ بالتنديد كما فعل سواه، ثم يسوق المشهد مكتفيا بالإشارة إليه، من غير أن يجعله أساساً لموقف سلبي من التظاهرة، على غرار ما فعل كثيرون مشوا واستنكروا وجود مجرمين في صفوفها، لكنه  أخطأ مرتين، في التوقيت وفي رسم حدود الخطر.

الأولى حين راح يضبط ساعته على إيقاع ذاكرة دموية تبدأ بالنكبة أو بما قبلها بالاستعمار الفرنسي في الجزائر وأفريقيا، ثم يصوّب تلميحاً أو تصريحاً على الغرب الرأسمالي، فيرمي بتهمة صناعة العنف الديني، ويراه “السبّاق” إلى تصديره والمسؤول عن صناعة أدواته المحلية وتمويلها وتسليحها، وينتهي باعتبار الجريمة عملا مخابراتيا، فرنسيا يريد اختلاق ذريعة للحرب على التنظيمات الأصولية، أو صهيونيا لأكثر من غاية في نفس اسرائيل.

التوقيت اليساري يفضح ذاكرته حين يغفل كل حوادث العنف السابقة على النكبة والمعاصرة لها والمستمرة بعدها، من الصناعة المحلية الناجمة عن الاستبداد، الديني والسياسي، التي ذهب ضحيتها مفكرون وكتاب وسياسيون ومواطنون وسياح أجانب، والتي انتشرت في بلاد الله الواسعة وبلغت من بلاد الهند والسند والقاعدة  وسائر حركات الاسلام السياسي في آسيا والعالم العربي ، إلى بوكو حرام في أفريقيا والحادي عشر من أيلول في أميركا وما يوازيه أو يشبهه في أوروبا وسواها في كل القارات من أحداث العنف الديني( أو باسم الدين) ، والتي لوثت تاريخ ثورة الجزائر وحطمت تماثيل الحضارة البوذية في أفغانستان وأعادت البلاد إلى جاهليتها الأولى، والتي دمرت السياحة في مصر وجعلت الصومال بلادا جرداء إلا من عصابات النهب في البر والبحر، وصولا إلى دولة الخلافة الاسلامية التي عملت على تطويع شعوب وقبائل أو على أسلمتها ، وإلا فعلى إبادتها.

والتوقيت اليساري، مربوطاً بساعة الصراع العربي الصهيوني وحدها، لا يعرف فارق التوقيت بين الشعوب والأوطان. لا يعرف أن العدوان على صحيفة شارلي إبدو هو، في نظر الفرنسيين وشعوب العالم المتقدم، عدوان على الجمهورية وعلى الأسس التي قامت عليها وعلى الدور التاريخي الذي لعبته فرنسا وثورتها في نهوض البشرية من سبات الاستبداد الديني والسياسي، وعدوان على الدستور والقانون ، وعدوان على الحريات العامة والخاصة، وعلى حضارة بكاملها كان لفرنسا فضل الريادة في نشرها على العالم.

والتوقيت اليساري لا يريد أن يعرف أن إسرائيل، الدولة العنصرية التي تصرفت بوحشية غير مسبوقة مع الفلسطينيين وسواهم من الشعوب العربية هي، في نظر الغرب، الواحة الوحيدة للديمقراطية في هذا الشرق المحكوم بأنظمة الاستبداد، وأنها ، بمعنى من المعاني وللأسف، أقل وحشية من الحكام العرب، وبالتأكيد أقل وحشية من الأصولية الاسلامية في التعامل مع شعوب المنطقة وخصوصا في العراق وسوريا وفلسطين. يسار”النكاية” هذا يرمي نفسه في تهلكة الممانعة ليؤكد أن منبع الأصولية واحد وهو الاستبداد.

أما رسم حدود الخطر فمسألة أكثر تعقيدا، لأن المعايير في عقول الاستبداد هي غيرها في العقل الديمقراطي. فمن ذا الذي يحدد الإساءة إلى الدين والمقدسات والقيم والأخلاق. هل يترك للجهلة ولحثالة من البشر يتلطون خلف الإيمان ويصنفون الفنون والعلوم وكل ما يبدعه العقل البشري بمسطرة تخلفهم ؟ هل يترك للمجرم الذي حاول اغتيال نجيب محفوظ بشبهة كتاب لم يطلع عليه، أم للذين تولوا مهمة تنفيذ الفتوى بحق سلمان رشدي من غير أن يقرأوا روايته أو أي كتاب سواها، أم للغوغاء الذين أحرقوا كنيسة في الأشرفية (لبنان) ردا على رسم كاريكاتوري في صحيفة دنماركية، أم للدهماء من المسلمين الذين لا يرقى إلى يقينهم شك في أن الاسلام هو الحل وأن إقامة الدولة الاسلامية العالمية ليست سوى مسألة وقت، بانتظار ظهور المهدي أو قرار من الخليفة؟

في التوقيت الديمقراطي لم يعد رسم حدود الخطر في عهدة المشعوذين وجهلة الدين، بل في عهدة  القانون، وحين تثبت الإساءة يكون الاحتكام إلى القضاء، وفي عهدة الكنيسة إذا كان الأمر يتعلق بشأن ديني. لكن الاعتراف بدور الكنيسة هذا حصل بعد أن توصلت، طوعا أو كرها، إلى اتخاذ قرارها التاريخي بالانسحاب من ميدان السياسة أو “بسحب الدين من بطن السياسة” لكي تحمي المقدس من دنس المصالح الدنيوية ، فأخلت ساحة العمل العام للدولة ومؤسساتها، وحصرت همها بالتربية الروحية للمؤمنين، وحرصت على اختيار البابا من بين الأكثر ثقافة وعلما لا في اللاهوت فحسب بل في الفلسفة والعلوم الوضعية والدراسات الجامعية.

هل ننتظر من الكنيسة الاسلامية ثورة إصلاحية تعيد الإيمان من الطقوس إلى القلوب، وهل ننتظر من الكنيسة اليسارية القومية أن تخرج من حلف الأصوليات فيتضاءل منسوب التزمت ويتخلص شرقنا من الاستبداد وتصبح أنظمتنا السياسية، وكذلك أنظمة تفكيرنا، جزءا لا يتجزأ من القرن الحادي والعشرين؟

السابق
السعودية تخطط لبناء حائط بطول 1000 كلم على حدودها الشمالية
التالي
جريح في حادث سير على اوتوستراد ابو الاسود في صور