قراءة هادئة في احداث باريس وتداعياتها

تبدو فرنسا اليوم في حالة دفاع عن النفس بعد ان كانت في حالة الهجوم، إذ بعد ان نشرت قواتها في دول إفريقية لحماية مشروعها الاقتصادي والسياسي بدات في نشر قواتها في الداخل الفرنسي لحماية امنها ونظامها واستقرارها…هذا الواقع المستجد يفرض علينا مناقشته بجدية وموضوعية لذا بدايةً لا بد من القول بأن معالجة التطرف والارهاب مسؤولية الغرب اكثر منها مسؤولية العرب والمسلمين، لأن المنطقة العربية والإسلامية وقعت تحت استعمار الغرب الذي اعاد صياغتها وتوجيه ثقافتها وحدد مرجعياتها واطر مؤسساتها منذ العام 1918، أي عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية..؟؟ وبناءً على ما تم الاتفاق عليه بين الدول المستعمرة فيما عرف باسم اتفاقية سايكس – بيكو…وبعضها (أي هذه الدول) كان عرضةً للإستعمار منذ القرن التاسع عشر كالجزائر وغيرها على سبيل المثال..؟؟ إذ منذ ان وقعت أحداث باريس واستهداف الصحيفة الفرنسية التي نشرت الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص) ولمشاعر المسلمين بشكل عام .. ونحن نعيش في حالة اتهام متبادل بين من يؤيد ما جرى ومن يعارض الاعتداء، وجرت وتجري عملية تقييم واسعة النطاق ليس لسلوك من قام بتنفيذ العملية بل حتى للإسلام نفسه، والفكر الإسلامي بتفاصيله، وصولاً لمناقشة مضمون القرآن الكريم، والعقيدة الإسلامية، وهل هي تضمن توجيهات تسمح القيام بما جرى، او ان ما جرى هو تيجة فكر دخيل او عملية تشويه متعمدة وسوى ذلك…. والبعض الآخر اعتبر ان الاعتداء هو استهداف للفكرالتنويري ولحرية الصحافة خاصةً وان باريس هي مدينة الثورة الفرنسية ومنطلق الفلسفة التي قامت عليها الحريات المدنية والفصل بين الدين والدولة…

ولكن مع الأسف لم نقرأ او نسمع أية مناقشة موضوعية لأسباب الحدث ولا حتى محاولة هضم خطورته وتداعياته.. لتجنب تكراره او على الأقل سحب ذرائعه.. فكأن الحادثة كانت مطلباً للبعض للإنقضاض على الشرق وتاريخه ومحاولة إعادة رسم مستقبله إنطلاقاً مما جرى عام 1918..؟؟ وهنا لا بد من الوقوف عند بعض النقاط والأحداث والاسئلة التي لا بد من طرحها أوعرضها:
– ما هي أهمية الاستهزاء بالرموز الدينية بشكل مستفز.. في خدمة الحرية الاعلامية، واغناء الروح الثقافية والمكتبة العلمية او حتى في محاولة مناقشة الفكر الديني..؟ ولكن ما تم نشره قبل الاعتداء وبعد الاعتداء، يؤكد ان الحرب الإعلامية هي على الاسلام نفسه من خلال استهداف رمزه وليس على بعض القوى التي توصف بالمتطرفة او المتشددة..؟؟
– إن العالم الإسلامي اليوم، يعيش حالة من الصحوة الدينية سواء أعجبت البعض ام لم تعجبه، ولكن هذا واقع حقيقي يجب الاعتراف به والتعامل معه بموضوعية، وأحداث أيلول/سبتمبر عام 2001، التي ضربت الولايات المتحدة، تمت خلال فترة لم تكن تلك الصحوة في آوجها كما هي اليوم… ولو اجرينا مقارنة بين واقع ومستوى حضور القوى الإسلامية المعتدلة منها والمتطرفة بين عام 2001، وعام 2015، لوجدنا ان الحضور الإسلامي الديني على مستوى التنظيمات هو اليوم اقوى واكثر تنظيماً وربما اكثر تطرفاً لدى البعض، رغم الحرب التي اعلنتها الولايات المتحدة، ومن يتحالف معها ورغم احتلال افغانستان والعراق، وحصار الجمعيات الإسلامية ومنع الدعم المالي عنها، بل ربما يمكن القول ان هذه الحرب وهذا الاحتلال قد عزز من حضور ودور وقوة القوى الإسلامية وعزز من شعبيتها عندما تصدت للإحتلال؟؟ ولا يمكن تجاهل ان هذا الاحتلال الجديد رغم الغطاء الدولي له وبعضه عربي، قد أعاد الذكريات المؤلمة للإحتلال الغربي للعالم العربي والإسلامي عام 1918….
– إن عدم وجود مرجعيات إسلامية دينية او سياسية مؤثرة على الساحة العربية والإسلامية، نتيجة قمعها او منعها او تحجيمها او اعتقالها او الانقلاب عليها قد سمح بقيام مجموعات لها مرجعياتها الخاصة والتي تتصرف وفق جدولها ورؤيتها ومنظورها وتطلعاتها وفهمها للأحداث من منطلق ديني لا سياسي أو ربما سياسي بتعليل وتفسير وربط ديني….فمن نفذ عملية باريس او غيرها لم يأخذ بعين الاعتبار وجود الجاليات الإسلامية الضخمة في فرنسا او في اوروبا والغرب بشكل عام وما قد يتركه من آثار سلبية عليها في المستقبل…
-كما ان من يمارس سياسة الاستهزاء أو التحريض على المسلمين بشكل عام وليس على التنظيمات الإسلامية فقط،  تماماً كما قامت به المجلة المستهدفة، لم يأخد بعين الاعتبار أهمية الحضور الإسلامي في اوروبا والغرب عموماً… وتأثيرة على الواقع الاجتماعي الإقتصادي هناك ودوره الإيجابي في تمازج الحضارات وتفاعلها، والتعرف عن كثب على بعضها البعض برؤية موضوعية وبتعاون إيجابي… فمن قام بالعملية تماماً كمن نشر الصور المسيئة كليهما لا يمثلان كافة المسلمين كما لا يمثل الآخر كافة الغرب وحضارته؟
كذلك يجب الالتفات إلى أن تجاهل الغرب لمشكلات العالم الإسلامي مع بعض دوله لا يمكن إلا ان تزيد من حدة الانقسام والتباين والصراع ولو ضمن مستويات محدودة أو معارك ذات طابع لا يتجاوز ما جرى في فرنسا او ما قد جرى سابقاً في بريطانيا او الولايات المتحدة… وهنا لا بد من إلقاء بعض الضوء على بعض هذه الاحداث:
– البعض تحدث عن همجية من قام بالعملية وإجرامه بحق مجتمع متمدن مثل فرنسا.. لن ادافع عمن ارتكب العملية بحق الصحيفة، فهي مدانة بطبيع الحال ولا تمثل حلاً موضوعياً لهذا الصراع او التهجم… ولكن ألا يجب ان نسأل فرنسا عن سياستها الخارجية في مالي والنيجر والجزائر وغيرها…ومن استدعاها إلى هناك لقمع تلك الشعوب… وقتل العديد من المواطنين..وهذه كانت سابقة على احداث المجلة….إذ خلال جولته الأفريقية مؤخراً أطلق الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عملية “الهلال الرملي” الرامية إلى الإبقاء على حضور بلاده العسكري في الساحل الأفريقي.. وقال هولاند، أثناء جولته التي شملت ساحل العاج والنيجر، إن توسيع نطاق الحملة الفرنسية على الحركات الجهادية من مالي ليشمل تشاد والنيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا أملاه استمرار “بؤر إرهابية” و”مخاطر متعددة” في المنطقة يستلزم التصدي لها “ردودا سريعة وناجعة”… وبينما ذكرت السلطات الفرنسية أن العملية تقوم على نشر آلاف الجنود والمعدات الحربية في تلك الدول بهدف محاربة “الإرهاب” بالمنطقة، يرى محللون سياسيون فرنسيون أن العملية تستهدف أيضا الحفاظ على مصالح فرنسا الاقتصادية بأفريقيا وصيانة مكانتها كعضو دائم بمجلس الأمن الدولي…
-وهنا لا بد من استذكارالجرائم الفرنسية التي ارتكبت تحت شعار الحرية والمساواة والعدالة ليس ضد المسلمين في الجزائر وغيرها من المستعمرات ذات السكان المسلمين بل في فييتنام ذات الديانة البوذية..حيث حارب الشعب الفيتنامي طوال سنوات لهزيمة الاستعمار الفرنسي إلى ان حقق نصره الكبير على الجيش الفرنسي في معركة (ديان بيان فو) بقيادة الجنرال جياب، عام 1954، واجبر فرنسا على الاستسلام والانسحاب من بلاده.. قبل ان تتولى الولايات المتحدة المرحلة الثانية من الحرب باسم محاربة الشيوعية… أين كان الفكر التنويري في عاصمة النور باريس..؟؟… وهل من المقبول ان ننعت الشعب الفرنسي والفكر والثقافة الفرنسية بما لا يتحمل مسؤوليته…؟؟ ووصفه بما لا يستحق من اتهامات وعبارات وشعارت..؟؟ فمسؤولية الاحتلال والاستعمار والقتل المنهجي في الجزائر بلد المليون شهيد على يد الاستعمار الفرنسي لا يتحمله الشعب الفرنسي برمته بقدر ما تتحمله حكومة فرنسا.. وسياساتها.. فلماذا يرى البعض ان الفرصة مناسبة ليحمل الاسلام وكافة المسلمين وزر ما قام به بعض المسلمين؟ وعندما نعيد قراءة هذه الأحداث لا نسردها بدافع التشجيع على الانتقام بقدر ما نريد ان نؤكد أن ادانة طرف او مجموعة او فريق بسبب حادثة أرتكبها بعضهم، لا يتناسب ابداً مع حجم ما ارتكبه فريق آخر من حوادث وممارسات… والعودة للتاريخ هي للاستنتاج وأخذ العبرة وليس لاحياء هذه الممارست ونكء الجراح والدعوة للإنتقام…
-هل تستطيع فرنسا واوروبا ومن يحب هذه الحضارة والثقافة، ان يتناسى تضحيات الجنود المغارية والجزائريين في هزيمة مشروع هتلر النازي في اوروبا، وحتى نظام الجنرال فرنكو في اسبانيا هزم خصومه بجهود المقاتلين المغارية… فهل كان اسلام من قاتل إلى جانب المستعمر والاستعمار شفافاً وثقافيا وحضارياً وسواهم ليس كذلك.، فهذه المجلة بناءً على هذه المعطيات لم تحترم حتى جهود وتضحيات من قاتل من الجنود المسلمين لتحرير اوروبا وفرنسا بالتحديد من الاحتلال الألماني.
– هل تستطيع المانيا ان تنكر جهود المواطنين الاتراك في إعادة بناء اقتصاد المانيا بعد الحرب العالمية الثانية… كما ان اوروبا والمانيا لا يمكن ان تنكر ان معظم الاسرى الألمان في روسيا وهم بمئات الألوف لم يرجعوا إلى وطنهم الى المانيا عقب انتهاء الحرب…. إذا استخدمهم الاتحاد السوفياتي رائد الفكر الالحادي والعلماني المتطرف في اعمال السخرة حتى افناهم عن بكرة أبيهم كعقابٍ لهم على مشاركتهم في الحرب إلى جانب الحكومة الألمانية… لم نسمع إدانة واحدة…لسياسة الاتحاد السوفياتي وممارساته…
-إذا كانت اوروبا وفرنسا على وجه التحديد تعتبر نفسها مهد الديمقراطية والفكر التنويري فكيف تقبل بأن تكون جزءاً من الحرب المعلنة وغير المعلنة على بعض الدول، سواء بالاحتلال او بالحصار… كما عانى العراق إبان حكم صدام حسين… جراء سياسة الحصار والتجويع والتعذيب والمعاقبة.. وكيف تقبل فرنسا ومثقفيها والعلمانيين فيها بما يجري في فلسطين المحتلة من تهجير وقتل وسجن وتعذيب وحروب…. وبما يجري في سوريا من قتل ونزوح على يد نظامٍ ديكتاتور مجرمٍ… ومع ذلك فقد وجدت فرنسا لنفسها عذراً بالتوجه لدولة مالي والنيجر لحماية مناجم اليورانيوم التي تستثمرها وليس لحماية الشعب من ظلم التنظيمات الاسلامية…. اما في فلسطين وسوريا والعراق وغيرها فلا بأس بانظمة حكم طائفية جائرة وتنظيمات مذهبية مسلحة تقتل على الهوية وتمارس التطهير الديني بكل هدوء بل وبدعمٍ دولي وعربي وإيراني مباشر… ولا تجد فرنسا حرجاً من التعان مع نظام إيران التي يحاصر شعبها في بلاده في حين تتعاون فرنسا والغرب مع حكومته ميليشياتها في العراق…خلافاً لقرارت الحصار ومجلس الأمن الدولي الذي يمنع إيران من تصديرالسلاح إلى خارج إيران..؟ تناقض لا يدل على الالتزام بالثوابت والمفاهيم والافكار والشعارات التي ترفع.
إن الحضور الإسلامي في أوروبا ودول الغرب عموماً أصبح امراً واقعاً وضرورياً لتلك الدول كما بالنسبة للمهاجرين.. المسلمين العرب منهم وغير العرب… وهذا يفرض على الجميع فهماً مشتركا لعقائد بعضهم البعض واحترام ثوابتهم خاصة بالنسبة للمهاجرين الذين خرجوا بسبب الاضطرار وتحت ضغط الظلم الذي تعيشه معظم دولنا، أو رغبة في تحسين ظروف معيشتهم.. ولكن خروج اعداد ضخمة من المقاتلين الاسلاميين من اوروبا والغرب للقتال في سوريا والعراق وغيرها معناه ان المواقف السياسية والانسانية لتلك الدول الغربية تتناقض مع شعاراتها حول حقوق الانسان والديمقراطية والمساواة والحريات العامة والإعلامية، وخاصة فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية التي هي أم المسائل والقضايا، وميزان التقييم وإصدار الاحكام بالنسبة لكل المسلمين فكيف بالنسبة للإسلاميين..؟؟ وما ذكره وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف، الذي قال إن «التجربة التي تمر بها فرنسا تعني ليس فقط أوروبا، بل كل الديمقراطيات.. إن قيمنا وقيم أوروبا والأنظمة الديمقراطية كانت المستهدفة وإن «الإرهاب أصبح معولما بسبب الأحداث في سوريا والعراق، وهو يعني الجميع ولا يميز بين الأمم والقارات». وأن هناك قرارا بمحاربته «معا» وفي إطار «مقاربة شاملة».. وقد أشار خبير أمني فرنسي تعليقاً على هذا الكلام متسائلاً: لماذا تأخرت أوروبا حتى الآن حتى تعي طبيعة الإرهاب والحاجة إلى تدابير جذرية لمقاومته رغم ما حصل في باريس في التسعينات ثم مدريد وبرلين ثم مجددا في باريس؟ وما الذي فعله وزراء الداخلية والخبراء في العشرات من اجتماعاتهم المتنقلة بين عواصم الاتحاد؟……
يجب إعاد النظر في طبيعة العلاقات التي تربط الغرب بالمجتمعات الإسلامية والعودة عن ممارسة سياسة الكيل بمكيالين فحل الازمات المتفاقمة في المنطقة تحت سقف العدالة والمساواة واحترام حرية الشعوب في اختيار انظمتها وحكمها يجب ان يكون اساساً وميزاناً ثابتاً في تحديد هذه العلاقات… فالنظام السوري ومنذ عقود يمارس الارهاب وسياسة الاهاب بحق لبنان وفلسطين ودول الجوار ولم يتحرك المجتمع الدولي لوضع حدٍ له بل على العكس عندما ثار الشعب السوري ضد هذا النظام تجاهل المجتمع الدولي معاناة هذا الشعب بل على العكس وقف يشاهد دعم النظام الإيراني لهذا النظام معتبراً انه يستنفذ طاقات الجميع لخدمة مصالحه…ولكن ما وصل إليه الحال اليوم يؤكد ان سياسة التجاهل وتحين الفرص واستغلال النزاعات والمعاناة وآلام الشعوب لخدمة سياسات إقتصادية او استراتيجيات سياسي او اهداف امنية لا يؤدي إلا إلى تعقيد الامور وخروجها عن السيطرة..وهذا ما نراه اليوم….

السابق
نصر الله يطل الليلة تلفزيونيا
التالي
واشنطن نقلت 4 سجناء من غوانتانامو الى عمان وخامس الى استونيا