عن تجربة سيّدة جنوبية لم تنكسر يوماً الكفيفة سعاد رضا

لا شيء يقف في طريقها، ولا صعاب تمنعها من إتمام المسير، فمهما كان الطريق شاقاً، تتزود (هي) بالصبر، وتتسلح (هي) بالإرادة، تحصل دائماً على كل ما تريد، فقط لأنها صممت على ذلك، تدرك جيداً بأنها إن لم تلعب مع الحياة، فستتلاعب بها دائماً، تنجز أعمالها مهما كانت صغيرة أو كبيرة، بمثابرة وروح عالية.

نعم، الحياة مليئة بالمعاناة، ولكن ثمة دائماً من يقهرونها، هكذا هي (سعاد)، أمثولة في الصبر والإرادة.

شاء القدر أن تخسر سعاد رضا، إبنة مدينة النبطية، صاحبة الخمسة وخمسين عاماً بصرها، عندما كانت طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها الثالثة عشر عاماً.

تتذكر سعاد الحادثة التي قلبتها من حال الى حال: “كنت أجري إمتحاناً مدرسياً، وكنت وقتها في الصف السادس أساسي، وفجأة لم أعد أبصر شيئا سوى الضباب، بدأت بالبكاء حينها، حضر أهلي وأخذوني الى الطبيب، لنعرف بعدها أن المياه السوداء قضت على بصري، وأمسيت كفيفة!”.

وبعد تلك الحادثة، بدأت رحلة سعاد مع العلاج التي إستمرت لسنتين قبل أن تعاود إكمال دراستها في المدرسة اللبنانية للكفيف والأصم في بعبدا عام ثلاثة وسبعين.  تتحدث سعاد عن هذه المرحلة الزمنية فتقول: “لم أشعر يوماً بالإحباط أو اليأس، تابعت حياتي بشكل طبيعي، ورغبت في متابعة دراستي”. وفي عام ستة وثمانين تخرجت سعاد من المدرسة اللبنانية بشهادة سنترال، وقدمت طلباً للعمل في وزارة الصحة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من حياتها.

موظفة رسمية

لم تعتبر سعاد يوماً أنه ليس بمقدورها العمل كأي إنسان آخر، ولم تدع اليأس يدخل الى حياتها، لقد سقطت سعاد حين خسرت بصرها، ولكنها نهضت بعزيمة أكبر، لم تكن عبئاً على أحد، وحتى على نفسها، تقدمت بطلب عمل الى وزارة الصحة، ونجحت في إمتحان مجلس الخدمة المدنية، فقامت الوزارة حينها بتثبيتها، وأوكلت إليها مهمة السنترال، وبعد عشر سنوات تركت الوزارة، لتعمل بنفس الوظيفة في مصلحة البريد في الجنوب.

سعاد والأعمال المنزلية

هل رأيت يوماً وردة أوراقها ناعمة تنبت من بين صخور قاسية؟ أو رأيت طيراً ضاع عن عشه وفقد والدته، وتعلّم لوحده الطيران؟

لسعاد صفات كهذه، لم ترض يوماً بأن ينظر إليها المجتمع نظرة شفقة، ولم تتكل على أحد يوماً بأعمالها المنزلية، التي تقوم بها بنفسها منذ لحظة فقدانها البصر، فتغسل وتتطبخ وتمسح، وتضيف سعاد “كان والديّ يطلبان مساعدتي في الأعمال المنزلية، لأنني وبرغم إعاقتي كنت أقوم بها بالطريقة المناسبة”، وحتى اليوم ما زالت سعاد تعتمد على نفسها بكل الأعمال، وتقوم بواجباتها الإجتماعية كافة مع سكان القرية، الذين” ينظرون اليّ دائماً ويفتخرون بي”، وتستقل سيارة التاكسي الى عملها، وتقطع الشارع بمفردها معتمدة على حاسة السمع لديها.

لسعاد عملها الخاص

ومنذ فترة وجدت سعاد أنه من الضروري أن تعمد الى ملء أوقات فراغها بعمل ما، فقامت بافتتاح كوخ صغير بجانب وزارة الصحة التي كانت تعمل فيها سابقاً،  وتتحدث سعاد عن تجربتها الذاتية هذه فتقول: “فتحت كوخاً صغيراً، أحضرت آلة تصوير، وعمدت الى تصوير المستندات للزبائن، وبيع الطوابع البريدية لهم، وأحضر أيضاً الشاي والقهوة عالفحم وأبيعها للمارة”.

يستغرب زبائن الكوخ الذين يحضرون للمرة الأولى الى سعاد، كيف أنها كفيفة وتقوم بكل هذه الأعمال، فتصور لك أي مستند تريد، تستلم منك مختلف الأوراق النقدية، تتحسسها جيداً لتعرف قيمتها، تقدم لك الشاي والقهوة، فتشعر أنك تتحدث مع أكثر الناس إبصاراً، وتعتبر سعاد أنها “باتت تعرف قيمة النقود ومن أي عملة كانت، تبعاً لحجمها وملمسها الذي إعتادت عليه”.

هاتف ناطق

كثيرون ممن يشاهدون سعاد للمرة الأولى يطرحون عليها تقديم المساعدة، إلا أنهم لا يدركون أن هذه السيدة التي لم تطلب المساعدة يوماً من أحد، حاولت أن تتأقلم مع وضعها الجديد، وأن تعتاد على كل شيء.

ففي منزل سعاد هاتف أرضي ناطق، يقرأ لها رقم المتصل، ويعيد قراءة  الأرقام التي إتصلت بها عندما كانت خارج المنزل، ولهاتفها الخلوي القصة نفسها، حيث تقول سعاد “قمت بتنزيل تطبيق على هاتفي النقال يقرأ لي كل شيء، بما فيه رقم المتصل، والأرقام والكلمات التي أقوم بكتابتها، فهذه المحنة علمتني الصبر وكيف أبحث عن الوسائل التي تتناسب مع احتياجاتي، وحتى ساعتي هي ناطقة لأستطع معرفة الوقت بالتحديد”.

أحرف البرايل

تشكر سعاد ربها دائماً على النعم التي أعطاها لها، وتؤكد أن لا شيء ينقصها، وأنها في أفضل أحوالها، وتقرأ القرآن والصحيفة السجادية بشكل مستمر، حيث تشير بطلة قصتنا الى أنها تحصل على الكتب المكتوبة بخط البرايل من دول كالسعودية، مصر والكويت، فهذه الكتب غير موجودة في لبنان.

وتتابع سعاد: “هذه الأحرف سميت هكذا نسبةً للمخترع الفرنسي لويس برايل، الذي اخترع هذه الاحرف، وأعتمد أنا وغيري من المكفوفين على آلة الدكتيلو للطباعة، والتي تطبع أحرفاً خاصة على ورق من كرتون، والكثير من المكفوفين يقدمون الإمتحانات الرسمية أو اامتحانات الجامعية بهذه الطريقة”.

مشاهد قديمة

تحاول سعاد دائماً أن تسترجع كل المشاهد القديمة التي كانت تعيشها عندما كانت مبصرة، فتتذكر منظر طبيعي هنا، وصورة أشخاص هناك، وتعمد دائماً الى تخيّل الصور التي يجري الحديث عنها، “فلا وجود للعتمة في حياتي، كلها نور”…

جمعية الكفيف

فور تخرّج سعاد من المدرسة اللبنانية للكفيف والأصم، عملت على تأسيس “جمعية الكفيف في الجنوب”، سعيّاً منها الى نقل المعارف التي تعلمتها الى بقية المكفوفين الذين لم يعملوا على تطوير أنفسهم بسبب جهلهم بوجود هكذا مدارس متخصصة، أو بفعل ظروف إجتماعية أخرى، تتحدث سعاد عن هذه التجربة التي أثرت حياتها “قمت أنا وإبنة خالتي الكفيفة أيضاً بتأسيس هذه الجمعية عام ستة وتسعين وحصلنا على علم وخبر، وكنا حينها نعمل في وزارة الصحة، فقام المدير الدكتور علي ديب بالسماح لنا بممارسة نشاط الجمعية من مكتبنا في الوزارة، وبعد وقت استأجرنا مكتب قرب منزلنا في حي البياض في النبطية، وإهتمننا بشؤون المكفوفين في المنطقة وصولا الى المناطق الحدودية، كما نتابع مع بعض المكفوفين في منطقة بيروت”.

وتقوم سعاد عبر جمعية الكفيف بتقديم مساعدات إجتماعية ومادية للمكفوفين، وتقوم بالتعاون مع الأعضاء برحلات ترفيهية، وبزيارات لبيوت المكفوفين، كما تقوم الجمعية بإجتماعات دورية يتم الوقوف فيها على إحتياجات المكفوفين ومشاكلهم، فيتحدث كل مكفوف عما يخالجه، وما يفكر به، وتقوم مؤسسات أجنبية بتمويل هذه الجمعية، إضافة الى تبرعات من أهالي المنطقة الذين يرغبون برؤية المزيد من نجاحات هذه الجمعية.

عن تجربتي

تعبر سعاد بشكل مستمر ولأكثر من مرة خلال اللقاء، أنها سعيدة جداً بحياتها، وأن لا شيء ينقصها، وتوجه كلمة للسلطات اللبنانية التي ما زالت حتى اليوم تقصّر في واجباتها اتجاه أصحاب الاحتياجات الخاصة، وتطالبها بتطبيق القانون الذي ينص على تشغيل خمسة بالمئة من أصحاب هذه الاحتياجات في المؤسسات الرسمية، وتختم سعاد باالقول: “كتّر خيرك يا الله، ما نقصت علييّ شي”.

 

السابق
نساء في مهب التعنيف: لقاءات وحالات
التالي
النيابة العامة التمييزية تصدر بلاغ تحر بحق فيصل القاسم