طرابلس تودّع الصابونجي

لم يكن طه الصابونجي مفتياً لطرابلس فحسب، بل كان صمام أمان للعاصمة الثانية التي أحبّ، وتسلم سدة الإفتاء فيها في أصعب الظروف وأقساها أمنياً وحياتياً، فكسر الحواجز وجمع القلوب، وأزال العراقيل وكان في مقدمة الذين عبروا بالمدينة من الحرب إلى السلم.

كان الصابونجي مفتياً استثنائياً، فنظرته للدين والدنيا جعلته يتجاوز لبنان ليكون متقدماً بين أعلام الفكر الإسلامي في العالم، من دون تطرف وتعصب وانغلاق وتكفير وتنفير.
شكلت مسيرة المفتي الصابونجي مدرسة واضحة المبادئ والمنهج، فالدين لله وتطبيقه سهل من دون وسيط ومن دون تكلف ومقدمات. أما عنوانه فهو السماحة والصدق وقبول الآخر والاعتراف به واحترام معتقداته، ومحاورته للتوصل إلى القيم المشتركة التي تخدم الإنسان الذي هو الأساس في كل شيء.
أما في السياسة فكان الصابونجي صاحب ذكاء حاد، وأفق واسع، وخبرة في العلاقات العربية والدولية، وقدرة على تطويع الكلمات للإقناع وخدمة المدينة والوطن، فكان المستشار الدائم لرجالات الدولة وفي مقدمهم الرئيسان الشهيدان رشيد كرامي ورفيق الحريري.
تحمّل المفتي الصابونجي في حياته ما لا يُطاق، وواجه كثيراً من الأهوال التي تعاطى فيها بحكمة وحنكة من اغتيال نسيبه العلامة الشيخ صبحي الصالح، إلى اغتيال توأمه الروحي الرئيس رشيد كرامي، وصديقه مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد، فكان سداً منيعاً في وجه المؤامرات والفتن، ونجح في كثير من الأحيان في عزل كل المتربصين شراً بالمدينة.
بالأمس فقدت طرابلس ومعها لبنان علماً من أعلام الفكر الإسلامي هو المفتي الشيخ الدكتور طه الصابونجي الذي بقي عالماً عاملاً حتى أنفاسه الأخيرة، فبالرغم من تقدّمه في السن والتعب الذي نال من جسده، بقي الصابونجي خطيباً مفوّهاً يمتّع السامع بكلماته وعباراته التي يصوغها بأرقى أساليب اللغة من دون تحضير مسبق، وبقي سريع البديهة يعطي لكل مقام مقالاً.
في إطلالته الأخيرة في حفل تأبين شريكة عمره وحياته الراحلة صباحات الأصلح الصابونجي وقف المفتي على المنبر متحدثاً لأكثر من 45 دقيقة عن أوضاع المرأة والمجتمع والحوار والمدينة، فكانت كلماته وصايا لنظام حياة جديد كان سماحته يتطلع إليه دوماً من أجل الخير العميم.
أيّها المفتي الصابر.. ستفقدك طرابلس محباً وصديقاً وحاضناً وعالماً وشيخاً جليلاً، وسيذكر الطرابلسيون كلما رفع الأذان، أنه مرّ في تاريخ مدينتهم سماحة دين وفكر وأخلاق وكلمة طيبة اسمها طه الصابونجي.
وشيّعت طرابلس المفـــــتي الصابونجي يوم أمس في مأتم حاشد شارك فيه الشيخ ناصر الصالح ممثلاً مفتي الجمهورية، وممثلون عن الرؤساء نجيب ميقاتي، سعد الحريري وفؤاد السنيورة.

السابق
الجذور العميقة لمجزرة «شارلي إيبدو»
التالي
أنجيلينا جولي تضم طفلا سورياً إلى أطفالها بالتبني