البصّارون، ملح اليأس اللبناني من المستقبل

يفيض الأثير بالبصارين والبصارات. على الشاشة البيتية، التلفزيون، حيث أصبح لكل قناة بصارها(تها)، يظهر دوريا، كل شهر، كل سنة، على رأسها خصوصاً. في الاذاعة، يومياً أحيانا، وبأوقات محددة غالباً، ليس عن الأبراج «الكلاسيكية»، التي بهتت، بل عن توقعات جبارة، تبنى على اسم السائل عنها واسم أمه: اسمي كذا واسمي كيت، هل تكون علاقاتي مع حبيبي(تي) بخاتمة سعيدة؟ فتجيب البصارة كلا أو نعم، وغالباً كلا ونعم مع بعضهما، لكي يصحّ التوقع…

لكن النجاح والرواج الأكبر هو من حظ أولئك البصارين الذين يظهرون على الشاشة البيتية، على وقع إعلانات تسبقها، وموسيقى تصويرية، و»محاورين» بغاية الجدية والنباهة، يستبقون أي شك بعرض مشغول، أقرب الى المفبرك، حول التوقعات السابقة للبصار(ة)، ثم أسئلة يطرحونها على قارئ المستقبل، فيجيب بكلمات زائغة، بلغة أجهزة المخابرات، بديماغوجية الباحثين عن حب الجماهير، المدغدغة لعواطفهم، المتلاعبة بهواجسهم الأمنية. والأمر لم يعد يقتصر على الشاشة، بل طال أكثر الصحف «رصانة»، وقد نشرت إحداها، بمناسبة نهاية السنة، على صفحتها الالكترونية، شريط يوتيوب لبصارة نجمة إحدى الأقنية، تتوقع فيه ما سيحصل في العام المقبل من أحداث، تطال العالم كله!

الآن، عندما يحيّرك الموضوع، وتبحث عن مدى تجاوب اللبنانيين مع البصارين والبصارات، تجده في الحجة التي يرفعها المتحمسون لبرامجهم؛ وقوامها ان هذه البرامج هي أكثر ما يدرّ على القناة وعلى الصحيفة «الرصينة». والإعلانات هي الأداة التي نقيس بها، وبالأرقام، نسبة المشاهدة والإقبال. ومع البصارين، الصفقة مصدر ثروة، من دون أدنى شك. إذن، اللبنانيون يحبون البصارين، وقد أوصلهم أصحاب المصلحة الى قلب بيوتهم، «دلفري«، لا حاجة لهم للتنقل وتعذيب أنفسهم بزحمة السير والمال الكثير و»نظرة المجتمع» اليهم، إذا أمسك أحدهم وهو يدخل منزل البصار. يجلسون على كنباتهم الوثيرة، وثياب النوم وفنجان القهوة أو كأس العرق… يستعمون الى مستقبلهم من دون أي عناء! اللبنانيون إذن يتلذذون بالبرامج التي تتوقع مستقبلهم.

بالأمس، كان المقتدرون من بينهم، او المهووسون بما سيحصل لهم في المستقبل، أو المختبئون خلف فضولهم، كانوا يسرقون النظر والوقت، مرة أو مرتين في عمرهم، ليستمعوا الى بصار(ة) يبلسم قلقهم، او يخفف عنهم ضغط مخيلتهم، أو يشجعهم على خطوة مصيرية الخ. لكن الآن، تغيرت الأمور، وأصبح البصار(ة) شخصية دورية، وتوقعاته تجارية، تدخل الى بيتهم، يتابعونه، يستمعون الى كل كلمة من كلماته، يحفظونها لبضعة أيام، يعلقون عليها بين اقرانهم، ثم ينسونه لبرهة، ليعودوا فيستهلكوا توقعات جديدة، فنهاية الأسبوع، أو الشهر، أو السنة، عند كل طلّة بهية من طلّات البصار.

إذن هناك مفارقة عجيبة في حياتهم، أولئك اللبنانيين: فهم لا يفكرون بالمستقبل إلا اذا أوشك ان يصبح حاضراً، لا يخططون له، يعيشون «كل يوم بيومه»، يتجنبون حلّ مشكلاتهم اليومية أو السلوكية أو الحياتية أو أية مشكلة أخرى… إلى حدّ أن المستقبل عندهم اقتصر على اسم تيار سياسي. أما في حيثياته، أو متطلباته، أو ترتيباته، أو إرثه، أو أي شيء آخر يتعلق به، فيوضع المستقبل على الرفّ، يصبح من الذخيرة الغامضة، المهدِّدة، المخيفة، الواجب نسيانها، التي لا تُصاغ، لا كلمات تصفها، أو تمنحها شيئاً من الاعتبار؛ المستقبل عند اللبناني، في حياته الشخصية خصوصاً، في مصيره، غير وارد في مخيلته، إلا سواداً تاماً… لذلك يتجنب البحث به، بالوضوح اللازم، وإلا فقد صوابه. ولكنه في المقابل، يعشق البصارين، يستهلك من البصارين كما يستهلك النجوم وبرامج الألعاب، أو أية بضاعة أخرى يروجها الاعلام المرئي والإذاعي، وحتى المكتوب. يسكت عن مستقبله «الواقعي»، ويهرب منه نحو مستقبله الافتراضي، الذي ينذره به بصارون أصبحوا نجوماً محميين، معصومين، محصنين، لا يطالهم غيب ولا سحر؛ فما بالك بالمساءلة او السؤال أو التدقيق؟!

ماذا يقف خلف هذه المفارقة؟ أن يخفي اللبناني رأسه مثل النعامة أمام مستقبله ومستقبل بلاده، ثم يعود فيرفعه مبتهجاً هانئا راضيا، يحضر سهرة البصار بشوق من حرم من هذا المستقبل؟

اولاً، «إهمال» اللبنانيين لمستقبلهم الواقعي لا يقوم على أساس منطقي. فهم في الواقع أيضا يعيشون، مثلهم مثل الشعوب المجاورة لهم، أكثر لحظات في تاريخهم يتغلب فيها الحظ أو القدر على مسار حياتهم الخاصة والعامة. ولذلك، فهم مهما أمعنوا في الاهمال، يعود المستقبل فيفرض نفسه عليهم، في مخيلتهم الصامتة على الأقل. وعندما يقدم لهم الاعلام مادة تتوقّع مستقبلهم، تكون وجبة دسمة لمخيلتهم المشلولة هذه، فيستهلكونها بشعور قوي بأنهم بذلك إنما يعوّضون عن إهمالهم الواقعي بالمستقبل بالانكباب على الافتراضي منه. مشاهدتهم الحثيثة للبصار(ة) ومتابعتهم الشغوفة لتنبؤاته هما بمثابة الفعل «النضالي» الوحيد الذي بوسعهم ان يخصصونه لمستقبلهم. وكما يحصل مع مواقع التواصل الاجتماعي وأفلام الأبعاد الثلاثة (T.D.)، يصبح الافتراضي هذا من صميم الحياة الداخلية، النابضة بالطلب، التي تعطيها معنى…

تكفيراً عن عدم التفكير الواقعي بالمستقبل أو العمل من أجله، يكون البصار(ة) هو المرشد الروحي الذي سيدير مستقبلنا بتوقعاته، ونحن نفعل معه، لأننا تابعناه بلهفة ودقة. هكذا يتصور اللبناني، ولو للحظات، ممتعة على كل حال، بأنه، باستهلاكه برامج البصار(ة)، انه شارك في صياغة المستقبل، كما يشارك الناشط الفايسبوكي في هذه القضية او تلك؛ انه تابع وعلق على أقوال البصار(ة) اذن هو «بحث» في هذا المستقبل الذي يرفسه برجله في كل لحظة من لحظات حياته الواقعية.

وفي كل الحالات، يعني هذا الإقبال على المنجمين رغبة عارمة بنسيان المستقبل الواقعي الذي لا ينذر بغير السوء، مقابل استهلاك هذا المستقبل أمام التلفزيون أو الإذاعة أو الصحيفة «الرصينة». وهذا ما يدعو الى مناقشة التنبؤات نفسها. فاذا كانت طيبة، نريد ان نصدقها في لحظة صدورها، على ان ننتظر لاحقاً تحقيقها. وإذا كانت تنبؤات سيئة، سوف نمر بلحظات قلقة، بانتظار تحققها ايضا، من دون ان نقوم بشيء لصدّها… هذا إذا تذكرنا الواحدة منها، نظراً لزحمة المنجمين، وزحمة توقعاتهم؛ توقعات غارقة في بحر الاثير، ليته يسعهم.

وفي الحالتين، فان هذه المغالاة في استهلاك منتج البصارين هي شلل لرؤانا، تقترن بالشلل السياسي بصورة رائعة؛ شلل حاضرنا الذي هو مستقبلنا القريب، والذي لا يمكن إلا ان يكون حاملا في بواطنه أصول المستقبل. لذلك فنحن لسنا بحاجة الى البصارين؛ ليس فقط لأنهم بهدلوا وسخفوا المنجمين الكبار، الذين اشتغلوا في السر، واعتمدوا الشعر، امعاناً في اعطاء المعاني اللامتناهية لتوقعاتهم، فكانوا شخصيات علمية فلسفية، متأملة في الكون والموت، غارقة في الحسابات الفلكية وحركة النجوم الخ. ليس فقط لأنهم حولوا التنجيم الى مادة إعلانية إعلامية، قابلة للاستهلاك، مثلها مثل مسلسلات الدراما، او برامج المسابقات «الفنية»… إنما لأن عقولاً صدئة هي تلك التي تنتجها، وتستهلكها، وتربح الواحدة الملايين، وتخسر الاخرى عقلها.

http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=645618

السابق
عملية مداهمة في سجن رومية في مبان لم يكن بالامكان الدخول
التالي
جريمة «شارلي إيبدو»: الرابحون والخاسرون ـ جردة أولية