الاستحالة الفلسفية للربيع العربي

إنّها لغاية الغرابة أن ينشأ في العالم العربيّ ربيعٌ يعتريه هذا القدرُ الهائل من الالتباس والتشوّه. وليس بغريب عن أهل الاطّلاع القولُ بأنّ هذا الربيع العربيّ بات مبعثًا للخشية والاسترهاب. الدليل على ذلك واضحٌ للعيان. فلئن أجمع الناسُ على القول بتفوّرٍ وانتفاضٍ وتوثّبٍ، فإنّ هذا كلّه لا يرقى إلى مقام التغيير الجذريّ العميق الأثر في الذهنيّات والتقاليد والبنى. لذلك ينبغي للمتبصّر في أحوال الربيع العربيّ أن يعتصم بقدرٍ عظيم من الاتّضاع والفطنة حتّى تنجلي أمامه الصورةُ الحقيقيّة لمثل هذا الواقع العربيّ المتشنّج. وما من تبصّر أشدّ إدراكًا لواقع التأزّم العربيّ الراهن من النظر الفلسفيّ النقديّ الموضوعيّ. ذلك أنّ الفكر الفلسفيّ هو الفكر الوحيد الخليق بصفة الانعتاق من الأسر الإيديولوجيّ، ولئن استند في أصوله ومفترضاته إلى بعض المكتسبات المعرفيّة النظريّة التي لا يستقيم النظرُ السياسيّ من دونها.

من أشدّ المناهج تطلُّبًا لحقيقة هذا الواقع الاعتمادُ على المعاينة التاريخيّة والنظر في طبائع الأقوام والتأمّل في تشابك العوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة. وحين يفوز المرءُ بمثل هذه الإطلالة المعرفيّة الرصينة، يتهيّأ له أن يستخرج الثوابت النسبيّة التي تطبع المسرى التاريخيّ في الواقع العربيّ. من الفرضيّات التي ينتهجها هذا البحثُ في مقاربة الربيع العربيّ القولُ باستحالةٍ تكاد أن تكون بنيويّة تمنع على المجتمعات العربيّة أن تحظى بثورةٍ نهضويّة إصلاحيّة تجديديّة تصيب جميعَ مفاصل الوجود العربيّ التاريخيّ. لهذه الاستحالة وجوهٌ شتّى. فالاستحالة هي أوّلاً تاريخيّةٌ، دليلُها ما فُطِرت عليه المجتمعات العربيّة من قصورٍ ملازم لها في التفاعل الجدليّ الذاتيّ الواعد. الاستحالة هي ثانيًا اجتماعيّةٌ، وبيانُها ما نشأت عليه الذهنيّةُ العربيّة من قوام ائتماريّ وثوقيّ لصيق بطبيعتها ومسلكها. والاستحالة هي ثالثًا ثقافيّةٌ، وأصلُها ناشبٌ في طبيعة الأنظومة الدينيّة التي يستلهمها أغلبُ العرب في ترسُّم هويّة الإنسان.

1 – الاستحالة الأولى: الانغلاق التاريخيّ العربيّ
من ينظر في تاريخ العالم العربيّ، قديمه ووسيطه وحديثه، لا يعاين البتّة نمطًا من الانتفاض الاجتماعيّ السياسيّ يرمي إلى تغيير البنى والذهنيّات تغييرًا يصيب منه الإنسانُ الفردُ أعظمَ قدر من الكرامة والحرّيّة والعدل. وطالما أنّ الموضوعيّة العلميّة تقتضي أن يُنصف المرءُ قرائن الأزمنة ويتناولها في سياق أفقها التاريخيّ الخاصّ، فإنّ الانتفاضات التي اختبرها العالم العربيّ في الزمن القديم والزمن الوسيط تنسلك في نطاق التشنّجات القبيليّة والعشيريّة والجهويّة والمذهبيّة والطائفيّة والدينيّة. قلَّ في تاريخ العرب الوسيط أن نشأت ثورةٌ اجتماعيّةٌ ناضلت في سبيل الحقوق الأساسيّة للإنسان العربيّ. أمّا في العصر الحديث والمعاصر، فإنّ الانتفاضات العربيّة انتظمت في مطالب الدفاع عن القوم (حركات الانعتاق العربيّة في زمن الاستبداد العثمانيّ، حركات الاستقلال العربيّة في زمن الاستعمار الغربيّ، حركات الحشد القوميّ في زمن الاستقطاب الأميركيّ السوفياتيّ)، والذود عن الأرض (حركات الكفاح المسلَّح في زمن العدوان الصهيونيّ)، والانتصار للدين (حركات الصحوة الدينيّة في السعوديّة وإيران والسودان ومصر والجزائر)، والتحزّب الإيديولوجيّ (حركات اليسار واليمين في زمن التناحر الكونيّ على مصادر الطاقة ومكانز الأرض من الموادّ الأوّليّة).
مدلول هذه المعاينة التاريخيّة أنّ العرب ما ثاروا قطّ لنصرة الإنسان الفرد. جلُّ انتفاضاتهم انضوت تحت لواء المضامين الإيديولوجيّة التي هيمنت على الإنسان الفرد وسحقته سحقًا. ومع أنّ معظم المنظِّرين لهذه الانتفاضات استماتوا في ادّعاء إعلاء مصالح الإنسان العربيّ في مناصرة مثل هذه الثورات، إلاّ أنّ تفاقم التخلّف في وعي الإنسان العربيّ الفرديّ والجماعيّ هو الدليل التاريخيّ القاطع على قصور هذه الانتفاضات واعتوارها البنيويّ. فالأرض أساسٌ في بناء إنسانيّة الإنسان، إلاّ أنّها لا تنوب مناب الإنسان الفرد ولا تتصدّر عليه. والشعب (القوم) عنصرٌ حاسمٌ في تكوّن الإنسان، إلاّ أنّه لا يقوم مقام الإنسان الفرد ولا يتقدّم عليه. والدين عاملٌ فاعلٌ في تهذيب الأخلاق، إلاّ أنّه لا يحلّ محلّ الإنسان الفرد ولا يتجاوزه ويتعالى عليه. والمحازبة الإيديولوجيّة، على تنوّع مطالبها، حاجةٌ في مسلك الإنسان الاجتماعيّ، إلاّ أنّها لا تستقيم من دون خضوعها لسلطة العقل الحرّ ولملكة النقد الذاتيّ المنبثقة منه.
ممّا لا ريب فيه أنّ التاريخ العربيّ نشط في سياق هو غير سياق التاريخ الغربيّ، الأوروبّيّ منه والأميركيّ. ولا يجوز للمرء أن يتصوّر ربيعًا عربيًّا مشابهًا في بعض وجوهه للثورات الغربيّة الحديثة طالما أنّ التاريخ العربيّ لم يأتِ إلى الآن بحالةٍ انقلابيّة تحمل في مطاويها بعضًا ممّا تعتمده شرعةُ حقوق الإنسان الكونيّة من أصول ومبادئ وقيَم تُعزّز في الإنسان الفرد ذاتيّتَه المطلقة وكرامتَه وحرّيّتَه. فالإنسان، فردًا وجماعةً، لا بدّ له من أن يأتي من أفق إدراكيّ اختباريّ يمهره مهرًا ويعيّن له مسالك إقباله إلى الوجود. وما أفق التاريخ العربيّ سوى أفق الائتمار بالمضامين الساحقة للفرديّة العربيّة.
قد يعيب بعضٌ منّا على مثل هذه المقاربة خضوعَها السابق لفلسفة الشرعة الكونيّة لحقوق الإنسان وائتمارَها بتصوّرات الغرب للكون وللإنسان وللتاريخ. غير أنّ العيب لا محلَّ له في الإعراب الفكريّ الراهن. ذلك أنّ الناس لا يجوز فيهم أن يختلفوا على المبادئ العظمى التي تنطوي عليها مثلُ هذه الشرعة الشريفة. ولا يصحّ القول بأنّ لكلّ حضارة شرعتها ولكلّ متّحد إنسانيّ حقوقه. فالإنسان واحدٌ، ولئن تباينت التصوّرات والتقاليد والنظُم والأعراف والاختبارات. ولا يستقيم النظرُ في الربيع العربيّ إلاّ إذا قاسه المرءُ بمقياس الاستلهام الأمين لهذه الشرعة. وبما أنّ التاريخ العربيّ لم يُفرج عن وعي فكريّ عميق بضرورة الإتيان بثورة تُحلّ شرعةَ حقوق الإنسان محلَّ التصوّرات الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة السائدة في مجتمعات العالم العربيّ، فإنّه من العُسر المطلق أن يركن العالم العربيّ إلى ربيع نهضويّ مناصر لشرعة حقوق الإنسان. فالطفرات النوعيّة الجسيمة نادرةُ الحدوث في مسرى الأمم التاريخيّ. فالشعوب تنضح بما تختزنه من رواسب سحيقة من الاقتناع الجماعيّ المهيمن.
ومن ثمّ، فإنّ التاريخ العربيّ لا يُنبئ عن ربيع ديموقراطيّ سليم القوام، كامل العدّة، مديد البقاء. وقد يكون لمثل هذا الامتناع أسبابٌ شتّى اجتهد في معالجتها أهلُ النهضة العربيّة منذ أن أكبّوا على مقارنة تخلّف العالم العربيّ بتقدّم العالم الغربيّ. إلاّ أنّ المعالجة نادرًا ما أتت في صورة الكشف عن العلل الكامنة في صميم الذات العربيّة. وفي جميع الأحوال، كانت المقاربات لا تكفّ عن الاعتصام بقسط كبير من التفاؤل يملي على أهل التفكّر النهضويّ ارتقابًا صادقًا لانبلاج فجر الديموقراطيّة الحقّة في العالم العربيّ. وقلَّ من أدرك أنّ التاريخ العقيم لا ينجب ثمار الإحياء.
العقم العربيّ قد يحمله المرءُ في هذا المقام على وجوه شتّى. غير أنّ الحصيلة هي هي. وعنوانُها الأعرض أنّ العالم العربيّ لا يستطيب الإقامة في أرض الديموقراطيّة المعترفة بأصالة الوجود الفرديّ. وقد ينبثق من هذا التاريخ ربيعٌ هو في صميمه من صنع عربيّ محض، تغلب عليه سماتُ العقليّة العربيّة والذهنيّة العربيّة والتركيبة العربيّة. وعليه، يليق الاستفسارُ في هذا الموضع من البحث عن طبيعة هذه البنية الثقافيّة الضابطة للوجود العربيّ برمّته. فإذا كان التاريخ العربيّ عقيمًا في محمولاته أو قلْ في قابليّاته الديموقراطيّة، فالسبب في ذلك لا يمكن أن يُنسب إلى التاريخ عينه، بل إلى ما استقرّ في ثنايا هذا التاريخ من بنية ثقافيّة مانعة. ولا بدّ للنظر في هذه البنية من استجلاء وجوه التفاعل الجدليّ بين طبيعة البنية وإفرازات التاريخ العربيّ. فإذا كانت المقاربة جوهرانيّةً في مقاصدها، أثبتت أنّ البنية أصيلةٌ في الكيان الإنسانيّ العربيّ، تهبط عليه من موضع يعلو على تمخّضات التاريخ. وإذا كانت المقاربة تاريخانيّةً في مطالبها، أبانت أنّ البنية وليدة التفاعل التاريخيّ عينه وأنّ التاريخ الذي يُنجبها خليقٌ بإنجاب غيرها.الربيع العربي
بيد أنّ هذا التباين في المقاربة قد يعطّل البحث تعطيلاً فادحًا. ذلك أنّ الوجود الإنسانيّ هو حصيلة التفاعل التاريخيّ. والتفاعل التاريخيّ لا يستقيم إلاّ بوجود كيانات قائمةٍ في ذاتها، مكتملةٍ في أساسيّات عدّتها، مستقلّة بعض الاستقلال عن ديناميّات التاريخ. فمن أين يتأتّى للباحث أن يبتّ الأمر ويقضي إمّا بصدارة التفاعل التاريخيّ على الكيانات، وإمّا بصدارة الكيانات على التفاعل التاريخيّ؟ أمّا السبيل الأضمن والأشدّ استثارةً للتحرّي المعرفيّ الرصين، فهو القول بالتلازم الجدليّ بين الطرفين، ولئن كانت مستقرّات التاريخ العربيّ تبنئ عن تصلّب منيع في الإعراض عن الزمن الديموقراطيّ الكونيّ. قد يكون من إرباكات هذا التحرّي المعرفيّ الفوزُ الأمينُ بإدراك خلفيّات الحراك الشعبيّ في المجتمعات العربيّة التي أصابها شيءٌ من هذا الربيع. أفتكون المطالبةُ بتغيير الحكم مطالبةً بتغيير النظام السياسيّ؟ والمطالبةُ بتغيير النظام السياسيّ مطالبةً بتغيير الأنظومة الثقافيّة المهيمنة؟ والمطالبةُ بتغيير الأنظومة الثقافيّة المهيمنة مطالبةً بتغيير التصوّر الأنتروبولوجيّ للإنسان وللكون وللتاريخ؟ والمطالبةُ بتغيير التصوّر الأنتروبولوجيّ مطالبةً بتغيير التصوّر الدينيّ الأرحب السائد في العالم العربيّ؟
لا جرم أنّ الإجابة عن مثل هذه الأسئلة لا تتأتّى للباحث من مجرّد تحليل الحوادث التاريخيّة التي ألمّت بالعالم العربيّ في غضون السنوات الخمس الأخيرة. فالتناقضات التي تنتاب هذه الحوادث هي على قدرٍ عظيم من الشدّة بحيث يستحيل على المرء أن يستنجد بأمثولاتها حتّى يدرك معاني التعابير الجماهيريّة التي صاحبتها. والحوادث والتعابير كتلةٌ من المستجدّات الطارئة تستدعي التفطُّن للخلفيّات التي انبثقت منها وللعوامل الخارجيّة التي استثارتها وللارتدادات الداخليّة التي احتضنتها واستثمرتها وأوشكت أن تستنفدها.

2 – الاستحالة الثانية: البنية الذهنيّة العربيّة الدينيّة التقليديّة
إذا كان الأمر على هذا النحو، فإنّ من مُستتليات الفرضيّة التي يقوم عليها هذا البحثُ القولَ بأنّ عقم التاريخ العربيّ مقترنٌ بطبيعة البنية الذهنيّة العربيّة الدينيّة التقليديّة. وما من منهج أشدّ إبرازًا لمثل هذا الاقتران من منهج المقارنة الحضاريّة. فإذا ما قورن الربيع العربيّ بالثورات الغربيّة الحديثة، ومن أعظمها الثورة البريطانيّة والثورة الأميركيّة والثورة الفرنسيّة، وفي مقدار أقلّ الثورة الروسيّة والثورة الصينيّة، أو قورن بالانقلابات السياسيّة الملتوية التي ابتليت بها بعضُ مجتمعات العالم الثالث في أميركا الجنوبيّة وأفريقيا والعالم العربيّ، وجد أنّ مواضع التشابه نادرةٌ في المقارنة الأولى ووافرةٌ في المقارنة الثانية. ذلك أنّ ثورات الربيع العربيّ المتفاوتة في سياقاتها وفي مقاديرها بين مجتمع ومجتمع هي أشبه بانتفاضة الفقراء المظلومين المسحوقين يطالبون بقسط من العدل والمساواة. لكنّهم لا يملكون أن ينعتقوا من البنى الذهنيّة والثقافيّة التي برّرت للمتسلّطين تسلّطَهم وللمتجبّرين تجبّرَهم. والحال أنّ الثورة إمّا أن تكون ثورةً على هذه البنى، وإمّا أن تنكفئ إلى مستوى التظلّم الظرفيّ من حاكم مستبدّ أو قانون جائر أو نظام سياسيّ انتفاعيّ.
ظاهر الأمور في حال هذه “الثويرات” العربيّة أنّ بعض الناس أضحوا يظنّون بها خيرًا، فيعاينون نسمة الحريّة قد انبثّت في التربة الذهنيّة العربيّة وجرت في الأصول الثقافيّة العربيّة وسرت في البيئة العربيّة الدينيّة والاجتماعيّة. والحال أنّ العقل العربيّ المعاصر، أو قل التملّك العربيّ على العقل الإنسانيّ، ما فتئ أسير الجمود المعرفيّ. لستُ في سبيل البحث المستفيض في علل هذا الجمود المحزن. غير أنّ اليقين الفكريّ عندي يُملي عليّ القول باستحالة الربيع العربيّ بمعزل عن تحديث العقل العربيّ، أي بمعزل عن تحديث كيفيّات التملُّك العربيّ على العقل الإنسانيّ. فالنظر الناقد المبتكر في بنية العقل الإنسانيّ هو الذي يُتيح للمجتمعات الإنسانيّة أن تتجاوز معاثر التاريخ ومظالمه ومساوئه، على نحو ما حدث في الثورات الغربيّة الثلاث التي اجترأت على مناهضة بديهيّات العقل المتواترة من القرون الوسطى. فانبثّت مكاسبُ هذا التحديث الغربيّ في حضارات الأمم الأوروبّيّة والأميركيّة وثقافات شعوبها فكرًا نيّرًا لا ينطفئ، وفنًّا راقيًا لا يبلى، وفلسفةً متطلّبةً لا تبطل، ونظامًا سياسيًّا واجتماعيًّا لا يفسد، وعلمًا كشّافًا لا يذهب. وأتت الانتفاضةُ الاجتماعيّة الثقافيّة في العقلَين الروسيّ والصينيّ على قدر الاستعدادات التاريخيّة التي تحتملها قرائنُ الاجتماع البشريّ في هاتَين البيئتين الثقافيّتَين.
لا بدّ للمرء المتأمّل في واقع ثورات الربيع العربيّ المتدافعة من أن يُلقي بباله إلى الثورة الإيرانيّة التي تنفرد عن سواها من الثورات الحديثة بإعلائها مقام الدين كحامل لضمانات العدل والمساواة والأخوّة والخلاص الشامل للاجتماع الإنسانيّ. وممّا يقابل هذه الثورةَ الدينيّةَ المنحى الصحواتُ الإسلاميّة التي تحمل لواءها حركاتُ العودة إلى الأصول في العالم الإسلاميّ. ربّ سائل يسأل عن حاجة الاجتماع الإنسانيّ إلى الدين كضامن للانتظام والسلام والإنماء. تتفاقم حدّةُ هذا الاستفسار حين يعاين المرء ما تؤول إليه الثوراتُ الدينيّة في تصوّرها لموقع الأنظومة الدينيّة في ضبط بنية المجتمع البشريّ وحركة العقل الإنسانيّ ومسرى النشاط الاجتماعيّ والفكريّ والسياسيّ والاقتصاديّ.
لذلك كان لا بدّ من النظر الموضوعيّ الرصين في ثورات الربيع العربيّ التي تروم إنقاذ الإنسان العربيّ من مظالم الأنظمة العربيّة. أبسط الأسئلة التي تراود الباحث تتناول مسألة الجدارة في تشخيص الأزمة واقتراح الحلول. فإذا خرج قومٌ من هذه الثورات العربيّة يعيبون على المجتمعات العربيّة إعراضَها عن أصول الدين، كانت الأزمة العربيّة في نظرهم أزمةً دينيّة، وكان الحلُّ هو العودة إلى الأصول الدينيّة الصافية. وإذا نهض قومٌ آخر من هذه الثورات يتبرّم من ظلم الحكّام والأنظمة السياسيّة، كانت الأزمة أزمةً اجتماعيّة وسياسيّة بحتة، وكان الحلّ هو إقامة النظام السياسيّ والاجتماعيّ المنصف. أمّا إذا ذهب قومٌ إلى مساءلة العقل العربيّ في عمق مسلّماته الفكريّة المكتومة، كانت الأزمة أزمةً في بنية العقل العربيّ، وكان الحلّ في تفكيك هذه المسلّمات وإعادة بنائها وفاقًا لمقتضيات النضج الإنسانيّ الكونيّ. والظنّ الأغلب أنّ هذه الثورات العربيّة تتأرجح بين المقاربة الدينيّة والمقاربة السياسيّة، وتُعرض عن المقاربة الثقافيّة البنيويّة الشاملة. يقيني الثابت أنّ امتناع الربيع على الزمن العربيّ الراهن متأتٍّ من تأزّم خطير في بنية العقل العربيّ، أو في تسلّط الذهنيّة العربيّة على حركة العقل الإنسانيّ في الوعي العربيّ الفرديّ والجماعيّ.
وليس أدلّ على ذلك من إقبال أصحاب المقاربة الأولى وأصحاب المقاربة الثانية على استمالة حماسة الشبّان العرب الذين تناصرت جهودُهم في استخدام الشبكة الإلكترونيّة الجبّارة (الفايسبوك أو سِفر الوجوه)، فاستثاروا هذا الدفق الهائل من طاقات الاحتجاج والانتفاض. بيد أنّ هؤلاء الشبّان لا يحملون إلى الاجتماع العربيّ سوى الرغبة في التحرّر والتجديد والابتكار. فلا يستطيعون أن يكتفوا بالآلة التقنيّة للفوز بمساءلة عميقة لمسلّمات العقل العربيّ. ذلك أنّ خلفيّات الآلة التقنيّة التي تستثير الاحتشاد العربيّ تنتمي إلى فلسفة العولمة. وفلسفة العولمة لا تحمل إلى الحضارات الإنسانيّة سوى الرغبة في التواصل. غير أنّ التواصل ينبغي أن ينشط بين تصوّرات للكون وللإنسان وللحياة تتباين شرعًا، لكنّها تتزاحم على المساهمة في إكمال إنسانيّة الإنسان والارتقاء بها إلى أعلى مراتب حقيقتها.
إذا كان الأمر على هذا النحو، كانت جرأة أهل الربيع العربيّ تحتاج إلى بصيرة الفكر الناقد البنّاء. ومن عناصر هذا الفكر النظرُ في طبيعة الاجتماع العربيّ المنتفض على ذاته. والواقع أنّ أزمة العالم العربيّ ليست أزمةً لاهوتيّةً بين المسيحيّة والإسلام، وليست هي أزمةً سياسيّة بين تكتّل حزبيّ مُدبر وتكتّل آخر مُقبل، بل هي أزمةُ رقيّ إنسانيّ بنيويّ في الاجتماع البشريّ. فالإنسان العربيّ ابتلاه الدهرُ بأمراض شتّى. وأخطر هذه الأمراض تَسلُّطُ الغيبيّات على وعيه الباطنيّ. فإذا تعافى الإنسان العربي من أمراضه تعافت العلاقات الإنسانيّة التي ينسجها في داخل مجتمعاته وفي خارجها. والسؤال الأخطر الذي يحار علماء الأنتروبولوجيا وعلماء الاجتماع في التصدّي له ومعالجته هو هل يكون الرقيّ الإنسانيّ مقترنًا بفلاح الغيبيّات الإلهيّة التي يقول بها، على سبيل المثال، الدينُ الإسلاميّ، وهو الدين الأوسع انتشارًا في العالم العربيّ؟ وهل يستطيع التديّن في الإسلام، على نحو ما تمارسه المجتمعاتُ العربيّة في قرائن الزمن المعاصر، أن ينقلب فعلاً حضاريًّا قابلاً لتحرير العقل العربيّ وإطلاق الفكر العربيّ الباحث الناقد البنّاء، وتعزيز الحرّيّة الفرديّة العربيّة، وضمان حسّ المسؤوليّة الأخلاقيّة الإبداعيّة العربيّة، مسؤوليّة المشاركة العربيّة في صون الكون والأرض والبشريّة؟
ثمّة سؤالٌ آخر ينحجب من وراء هذا السؤال ويتناول معايير الرقيّ الإنسانيّ. فهل يقبل الإنسان العربيّ أن تكون شرعةُ حقوق الإنسان العالميّة، وهي الشرعة التي انبثقت من أشدّ الثورات الغربيّة تطلّبًا لكرامة الإنسان، أن تكون هي المرجع التاريخيّ الأضمن لبناء إنسانيّة الإنسان العربيّ في ما يهيّئ للمجتمعات العربيّة الانسلاكَ في سياق الرقي الإنسانيّ المبنيّ على احترام كرامة الإنسان وحرّيّته وحسّه الفرديّ بالمسؤوليّة الأخلاقيّة؟ وإذا تبيّن أنّ الإسلام لا يعترف إلاّ بشرعة إسلاميّة، فهل تضمن هذه الشرعة للإنسان العربيّ النضج والسعادة والاكتمال بما يلائم المقتضيات الفكريّة التي تجمع عليها أممُ الأرض؟ وينبغي أيضًا التحرّي عن وضعيّة الإنسان العربيّ هل يُسعَد بما ينبسط لديه من اختبار للسعادة الإنسانيّة؟ وهل يجوز الفصل بين الاختبار العربيّ الناقص والمثال الإسلاميّ المضيء؟ فإذا كان الاختبار العربيّ هو على هذه الحال منذ زمن بعيد، فهل يعني هذا الواقع أنّ المثال الإسلاميّ يعتريه النقص والتقصير، أم أنّ هذا الواقع يخضع لضرورات تتجاوز قدرة المثال الإسلاميّ على تقويمه وإنضاجه وإكماله. بتعبير آخر، هل يصحّ على الدوام القول بمثاليّة المثال وبانعطاب الممارسة التاريخيّة، ممّا يبرّئ المثال الإسلاميّ من مواطن النقص والتقصير ويكبّل الممارسة التاريخيّة بتُهم التقصير؟
الواضح أنّ الإنسان العربيّ واحدٌ في معاناته الإنسانيّة. لكنّه مختلفٌ في انتماءاته الدينيّة والفكريّة ومصادر إلهامه ومرجعيّات قيَمه. فإذا ثبت أنّ البؤس العربيّ ناشئٌ من التخلّف السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والاقتصاديّ، وجب النضالُ من أجل تغيير هذا الواقع. ولا بدّ للنضال من أن يكون مشتركًا بين المسيحيّين والمسلمين والعَلمانيّين العرب. غير أنّ هذا النضال يُعوزه تفكّرٌ عميق في بنية العقل العربيّ الغيبيّ. فإذا ثبت أنّ البؤس العربيّ ناشئ من هيمنة التصوّر الدينيّ الغيبيّ المخالف لتطلّعات الإنسان ومطامحه الشرعيّة في الحرّيّة والمساواة والإنصاف والأخوّة الطيّبة، وجب النظر الناقد في مسلّمات الأنظومة الدينيّة التي يسكت عنها الفكرُ الدينيّ الرسميّ، والتي تفعل فعلها السلبيّ الكابح في الوعي الدينيّ الفرديّ والجماعيّ. من ثمّ، لا يجوز لأصحاب الربيع العربيّ في الميادين الجماهيريّة أن يتغافلوا عن هذه الأسئلة الخطيرة. غير أنّهم أحرارٌ في استنباط الحلول التي تناسب مطامحهم وتطلّعاتهم. وقد يعمدون إلى مقاربة أخرى لهذه المسائل تتجاوز قدرة النخبة الفكريّة العربيّة على تصوّر مسالك الحلول. لكنّهم، في جميع الأحوال، ينبغي لهم أن يتصدّوا لهذه المشكلات. فالابتكار الربيعيّ الميدانيّ في تجديد المقاربة والمباغتة في استنباط الحلول الخلاّقة لا يُعفي من مواجهة الحال العربيّة البائسة.
الصواب الخلاصيّ في هذا كلّه أنّ الإنسان العربي لا يجوز له أن يتغاضى عن أسباب بؤسه، وحجّتُه في ذلك أنّ الغيبيّات تزوّده المعنى الروحيّ الذي يحتاج إليه في بناء إنسانيّته. ولا يجوز له أن يتغاضى عن أسباب بؤسه، وحجّته في ذلك صراعُه المرير مع الصهيونيّة الغاصبة، أو اشمئزازه ممّا ينسبه إلى العالم الغربيّ من انحراف في الفكر والأخلاق والسياسة. فالاغتناء بالمعنى الروحيّ يتطلّب صفاءً في الوعي الإنسانيّ وسلامةً في البنية الاجتماعيّة وعدلاً في التدبير السياسيّ حتّى يأتي اختبارُ المعنى بمنأى من تشوّهات الوعي الإنسانيّ في آليّات اقتباله لمثل هذا المعنى الروحيّ. هذا فضلاً عن انحرافات المؤسّسة الدينيّة وميولها المرضيّة إلى التسلّط على الإنسان وعلى وعيه الذاتيّ الحرّ في المجتمعات العربيّة. فإذا كان الإيمان الخالص الحرّ المنعتق من وصاية وساطات النصوص والشرائع والطقوس والمؤسّسات حركةً روحيّةً تروم الارتقاء بالإنسان إلى مثُل الرفعة والتضامن والأخوّة والعدل، فإنّ الأنظومة الدينيّة لا تملك من طبيعتها إلاّ أن تقبض على حركة الحرّيّة التي يستبطنها الإيمانُ لتسلبها القدرة على الغور في صوفيّة الاتّحاد والارتقاء إلى آفاق الإبداع. والغور والارتقاء من أشدّ الأخطار التي تسترهبها السلطةُ الدينيّة.
خلاصة القول أنّ الثورة العربيّة قد تقتصر على ثورة الآلة وتخسر القدرة على ثورة العقل العربيّ نفسه. وممّا يتّضح من سياق التأزّم العربيّ أنّ المجتمعات العربيّة تكبّلها الأنظومةُ الدينيّة. لذلك كان على ثوّار الربيع العربيّ أن يسائلوا اليوم العقل العربيّ عن مسلّماته الغيبيّة التي تمنع عليه التفاعل الخلاّق مع مقتضيات الثورة الغربيّة الحديثة ومقتضيات ثورتهم المشتعلة. ومن صلب استفسارهم أن يسألوا هل تستطيع الأنظومة العقليّة العربيّة الموروثة من القرون الوسطى أن تنعش كيان الإنسان العربيّ في مطمحه الشرعيّ إلى الحرّيّة الإبداعيّة والعدالة المنصفة والسلم البنّاء؟ علاوةً على هذه المساهمة، هل تستطيع هذه الأنظومة العقليّة أن تساعد الأنظومة الدينيّة الإسلاميّة على تجديد عدّتها وتحفيز طاقاتها الابتكاريّة حتّى يتهيّأ لها أن تحاور الأنظومة الدينيّة المسيحيّة والأنظومة الفكريّة العَلمانيّة وتناقشهما في جدارة الخلفيّة الثقافيّة والمعايير الحقوقيّة التي تنتسب إليها شرعةُ حقوق الإنسان الكونيّة؟
في هذا السياق لا بدّ من التذكير بأنّ بعضًا من علماء الاجتماع يذهبون إلى التمييز بين أنظومات دينيّة تعزّز الاستثمار العقليّ لطاقات الإنسان الخلاّقة ولموارد الأرض، وأنظومات دينيّة تُربك العقل وتشلّ الطاقات وتقعد بالمجتمع عن التطوّر الفكريّ والارتقاء الروحيّ الإبداعيّ. ممّا لا شكّ فيه أنّ مثل هذا التمييز يستند إلى قواعد التفكّر في العقل الغربيّ. فكيف يتهيّأ لأهل الربيع العربيّ أن يخرجوا بتصوّر فكريّ جديد يصيب بنية العقل العربيّ في عمق تطلّعه المعرفيّ والوجوديّ؟ ذلك أنّ الثورة في الفهم الكيانيّ هي غير الثورة في الإبلاغ التقنيّ.
من ثمّ، يشتدّ السؤالُ إلحاحًا عن قابليّة العقل العربيّ لاستدخال مقولات الديموقراطيّة الغربيّة في بنيته الذاتيّة. الخلفيّة الناظمة لمثل هذا السؤال تفترض أنّ تملُّك العرب على العقل متمايزٌ عن تملّك الشعوب الأخرى، ومنها الشعوب الغربيّة على وجه التحديد. وبما أنّ الديموقراطيّة انبثقت من اجتهادات العقل الغربيّ ومن اختبارات المجتمعات الغربيّة، فإنّ العقل العربيّ يتناولها من موقع الاختلاف والاغتراب. ومن أشدّ الاختلافات استفزازًا للعقل العربيّ القول الغربيّ بمرجعيّة العقل في ترسّم معنى الوجود وهويّة الإنسان وطبيعة الكون وحراك التاريخ. والحال أنّ الحضارة العربيّة المنتمية في معظمها إلى الاختبار الساميّ الشرقيّ الإسلاميّ تنظر إلى العقل نظرتها إلى مجرّد أداة محايدة للمعرفة لا تقوى من تلقاء ذاتها على صوغ المعنى الأشمل للكون والوجود. وهو المعنى الذي ينزل على العقل العربيّ من وحي التسامي الإلهيّ الأسنى. علاوةً على هذا الاختلاف الخطير، تعمد الحضارةُ العربيّة إلى رفد العقل الإنسانيّ ببنيةٍ من التطلّب الأخلاقيّ تعزّز فيه القدرةَ على التمييز والهداية والإرشاد. فالعقل العربيّ هو عقل التهذيب الأدبيّ قبل أن يكون عقل التحرّي الموضوعيّ. استنادًا إلى هذه البنية، ترتبط مقاصدُ التهذيب بمصالح الجماعة الإنسانيّة حتّى إنّ العقل العربيّ لا يكاد يتصوّر ذاته منعزلاً في صومعة الاجتهاد الفكريّ على غرار العزلة التي أتاحت للفيلسوف الفرنسيّ رينه ديكارت الإمساك بحقائق الوجود من جرّاء الاعتماد على مسلّمات العقل الذاتيّة البديهيّة الأولى.
رأس الكلام في هذا كلّه أنّ مثل هذه البنية الخاصّة لا تُجيز للعقل العربيّ أن يركن ركونًا عفويًّا إلى مقولات الديموقراطيّة والعَلمانيّة التي أفرزتها اجتهاداتُ العقل الغربيّ. ذلك أنّ التباين واضحٌ بين العقلين، ولو أنّ فلسفة الأنوار الغربيّة تنادي بوحدة العقل الإنسانيّ الكونيّ. حجّة الأنوار في ذلك أنّ وحدة الكيان الإنسانيّ تستتلي وحدةً في العقل الإنسانيّ. بيد أنّ منطق التاريخ يستوجب الاعتراف باستحالة العثور على عقل إنسانيّ كونيّ مجرّد. فالعقل الإنسانيّ عقولٌ، واللغة الإنسانيّة لغاتٌ، والاختبار الإنسانيّ اختباراتٌ، والحضارة الإنسانيّة حضاراتٌ. لذلك كان لا بدّ من التبصّر المتأنّي في ثمار التملُّك الغربيّ على العقل، ومنها العَلمانيّة التي قد يستكرهها العقلُ العربيّ حين تصحّ فيه هذه المقاربة التعريفيّة. من أشدّ المسائل خطورةً في هذا المقام الخلط بين العَلمانيّة والتصوّرات الفلسفيّة التي نشطت في الأزمنة الحديثة الغربيّة والتي شيّعت للإنسان تصوّرًا يخالف ما يذهب إليه التفكّرُ العربيّ. فالعَلمانيّة هي أرحب من التصوّرات الفكريّة التي تعاقبت على المجتمعات الغربيّة منذ القرن السابع عشر، ومنها العقلانيّة الغربيّة الملحدة.
يعلم الجميع من أهل الاطّلاع أنّ تطوّر الفكر الغربيّ المعاصر، وهو تطوّرٌ طرأ في غضون الزمن الذي يُدعى اليوم بعصر ما بعد الحداثة، أفضى إلى إعادة النظر في مسائل العقل والحقيقة والإيمان والذات والجماعة والتعدّديّة الكونيّة. وما لبثت العَلمانيّة أن واكبت مثل هذا التطوّر، وهي التي تقوم في جوهرها على الاعتراف الحرّ بما تنطوي عليه إنسانيّة الإنسان من أبعاد التطلّع الفكريّ الأقصى والمسعى الكيانيّ الأبلغ والالتزام الأخلاقيّ الأسنى.
من مكتسبات هذا التطوّر الفكريّ التي اعتنقتها العَلمانيّة، التمييزُ بين المسعى العقليّ والمسعى الإيمانيّ. فالمسعى العقليّ يقوم على استنطاق الوقائع وفاقًا لصيغة المساءلة العلميّة الموضوعيّة والإجابة العلميّة الموضوعيّة، فيما المسعى الإيمانيّ يقوم على استنطاق الوقائع وفاقًا لصيغة المناداة الشخصيّة الفرديّة الذاتيّة والاستجابة الشخصيّة الفرديّة الذاتيّة. في كلتا الحالتَين يفوز الإنسانُ بجواب يناسب منطلقات تفكّره العقليّ ومستندات اختباره الوجوديّ. فالموضوعيّة العلميّة عادت لا تنفصل عن نسبيّة الأصول والمعايير والآليّات والأدوات التي يعتمدها العقلُ في تحرّيه عن الأشياء. والاقتناع الذاتيّ عاد لا ينفصل عن طبيعة الاختبارات الكيانيّة الروحيّة التي يأنس إليها الإنسان في انتمائه إلى بيئته الإيمانيّة ومذهبه الدينيّ.
إذا كان الأمر على هذه الحال، فإنّ العقل المتحرّي غدا يُطيق التنوّع في التحرّي عن حقائق الأشياء، والوجدان الذاتيّ أصبح يحتمل التباين في تلمّس المعنى الروحيّ. وفي كلا الموضعَين ينشأ في الوعي الإنسانيّ المعاصر تصوّرٌ للحقيقة يخالف ما كان يذهب إليه أهلُ الفكر حتّى في الأزمنة الحديثة. فالحقيقة، في الزمن الفكريّ المعاصر، عادت لا تدلّ على تطابق الأشياء والأقوال، أو تناسب الوقائع والأحكام، أو تماهي الفعل والنظر. معنى ذلك أنّ الحقيقة ليست مرتبطةً بالحكم الذهنيّ وقدرته على الإمساك المحكم بالأشياء. الحقيقة، كما يتجّلى مقامُها في أغلب تيّارات الفكر الغربيّ في اليوم الحاضر، تقترن اقترانًا وثيقًا باختبار الوعي الإنسانيّ الذاتيّ، الفرديّ والجماعيّ. بعبارة أخرى، تقترن الحقيقةُ بما يعيه الإنسانُ من انكشاف للأشياء انكشافًا مرتبطًا بأوضاع الكشف وأحوال الوجود وإحساسات المعنى.
لذلك عاد العقلُ الغربيّ لا يُجيز لنفسه أن يدّعي الإمساك بالحقيقة العلميّة وبالحقيقة الكيانيّة، أي بحقيقة الأشياء وبحقيقة المعنى. ذلك أنّ أمرًا خطيرًا قد طرأ على البحث الإنسانيّ عن الحقيقة. وهو تحوّلٌ عميقٌ أخذ يجعل الإنسان يُعرض عن التماس الحقيقة المطلقة ويركن إلى امتداح مثُل التنشئة الذاتيّة والصقل الكيانيّ والانتعاش الوجوديّ. وهذه أمورٌ قد تناسب بنية العقل العربيّ إنْ هو أحسن تأويلها واقتبالها واستدخالها في بنيته الذاتيّة، وخصوصًا عندما يَنشط هذا كلُّه في نطاق اعتراف الفكر المعاصر بانتماء هويّة الذات الفرديّة إلى هويّة الجماعة.
رأس الكلام في هذا كلّه أنّ تطوّر الفكر الغربيّ في مقاربة الحقيقة وفي تحسّس المعنى يستنهض العقل العربيّ لملاقاته ومجاراته ومواكبته ومناصرته. بيد أنّ هذا التعاون لا يستقيم إلاّ إذا رضي العقلُ العربيّ بالخلفيّة الفكريّة التي يقتضيها مثلُ هذا التطوّر، عنيتُ بها الموقف العَلمانيّ الذي يعترف بحرّيّة العقل في الإقبال على الوجود واستبطان معانيه بحسب ما يرتسم أمامه من مسلّمات وقبْليّات وبديهيّات هي من وضع البيئة الثقافيّة التي ينتمي إليها المسعى العقليّ.
فالعَلمانيّة التي ينبغي أن يأتي إليها العقلُ العربيّ حتّى تأتي هي إليه، تقتضي تحوّلاً عظيمًا في مقاربة مسائل الإيمان والدين في المجتمعات العربيّة. فإذا ناصر العقلُ العربيّ مكتسبات الفكر المعاصر، وهي مكتسباتٌ قد تناسب قدرًا لا يُستهان به من بنيته الذاتيّة، كان عليه أن يُقرّ بإيجابيّات النهج العَلمانيّ في تدبّر التنوّع الدينيّ في المجتمعات الإنسانيّة. وليست المجتمعات العربيّة هي التي يعنيها هذا التدبّر وحسب، بل جميع أمم الأرض غدت مستنهضةً إلى مثل هذا التحوّل. فالعَلمانيّة التي ينبغي أن يصبو إليها العقلُ العربيّ هي علمانيّةٌ تهذيبيّة كما ينبغي أن تكون عليه حالُ العقل العربيّ المفطور على تطلّب المثال الأخلاقيّ، وهي علمانيّةٌ نسبيّةٌ كما ينبغي أن تكون عليه حالُ العقل العربيّ حين يعترف بمحدوديّة الأداة العقليّة في التحرّي عن الواقع، وهي علمانيّةٌ منفتحةٌ كما ينبغي أن تكون عليه حالُ العقل العربيّ حين يدرك إدراكًا جديدًا قضيّةَ استنزال المعنى من مصدر التسامي الإلهيّ. والمعلوم أنّ هذه الحرّيّة المعرفيّة في تصوّر مقام العقل لا يمكن المرء إلاّ أن ينسبها إلى مكتسبات الفكر الديموقراطيّ العَلمانيّ الغربيّ الذي يسائل حتّى العقل في قوامه ويستفسر عن طبيعة عمله كوسيلة للمعرفة وكمرجعيّة لوضع الأسُس والأصول والمبادئ والقيَم. وما التأرجح الغربيّ بين هذين المقامَين المنسوبَين إلى العقل الإنسانيّ سوى الدليل على حرّيّة العقل وأصالة سلطته الذاتيّة.
يقيني أنّ مشكلة الربيع العربيّ الفلسفيّة العظمى تكمن في قبول العقل العربيّ لمنحى الانفتاح في العَلمانيّة. ذلك أنّ المنحى التهذيبيّ والمنحى النسبيّ قد يطاوعان العقل العربيّ الذي يأنس في ذاته بعضًا من الانسجام مع مقتضياتهما. وحين أتحدّث عن منحى الانفتاح في العَلمانيّة، أوثر إخراج العقل من حلبة الصراع على مناصرة الحقائق الدينيّة مناصرةَ الحجّة الصارمة والبرهان القاطع والدليل الدامغ. فالحقيقة الدينيّة، بما هي اختبارٌ ذاتيّ فرديّ وجماعيّ للمعنى الروحيّ، لا تقبل الدليل العقليّ على الإطلاق. لذلك لا يمكننا من طريق العقل المحض لا إثبات الحقائق الدينيّة ولا إنكارها. غير أنّ هذا القول لا يعني أنّ العَلمانيّة المنفتحة تشيّع لما يخالف العقل في الاجتماع الإنسانيّ. فلا شكّ في أنّ العمارة الدينيّة، مهما تنوّعت انتماءاتها وتعابيرها، ينبغي أن تتّسم بقسط وافر من المعقوليّة، أي أن تناسب مقتضيات الحدّ العقليّ المشترك ومستلزمات التفكّر المنطقيّ البديهيّ في تصوّر هويّة الكون والوجود والإنسان. والظنّ أنّ هذه المقتضيات والمستلزمات قد انطوت عليها شرعةُ حقوق الإنسان الكونيّة. هنا مكمنُ الإعضال، إذ إنّ الثقافة العربيّة الخاضعة لإملاءات الأنظومة الدينيّة التقليديّة ما فتئت تستكره الاعتراف بصدارة الشرعة الكونيّة لحقوق الإنسان.
أمّا إذا أراد العقلُ العربيّ في ثورته الملتبسة أن يناصر هذا الدين ويؤثِره على غيره من الأديان، فله الحقّ الكامل في انتهاج هذا النمط من التفضيل الوجوديّ، ولكن على شرط أن يراعي ما تحمله إليه مكتسباتُ العَلمانيّة المعاصرة من اعتبارات الاحترام المطلق للوجود الإنسانيّ في تنوّع اختباراته الكيانيّة. من هذه الاعتبارات أنّ العَلمانيّة لا تُبطل رغبة الإنسان الصادقة في الولاء لدين من الأديان، لكنّها تفترض في هذا الولاء أن يلائم مقتضيات الحرّيّة الكيانيّة الفرديّة، وأن يعزّز مكارم الأخلاق في الفرد والجماعة، وأن يصاحب مطامح الإنسان نحو المطلق، وأن يراعي مراعاةً خلاّقة تدابير المعايشة الإنسانيّة الكونيّة الحكيمة بين أهل الأرض المختلفين.
فإذا ما استقامت هذه الاعتبارات الأساسيّة في الاقتناع الدينيّ، كانت مناصرةُ الدين فعلَ إغناء للوجود الإنسانيّ وللحياة الإنسانيّة وللتاريخ الإنسانيّ. وقد يقتصر فعلُ العَلمانيّة في المجتمعات العربيّة على تطلّب مثل التحوّل الفكريّ العميق. وهو تحوّلٌ قد يُطيقه العقلُ العربيّ إنْ هو اتّعظ اتّعاظًا حكيمًا بما يؤول إليه الاحتراب الكونيّ من مظالم ومهالك، وبما تُفضي إليه المعايشة الإنسانيّة الكونيّة من مُنفرجات ومُرتقيات. لا بدّ من التذكير بما يحمله الفكر الفلسفيّ البراغماتيّ من معايير الصحّة في الاعتقاد الإيمانيّ، ومنها الإشراق الداخليّ والسلام الداخليّ والانتعاش الداخليّ في كيان المؤمن، والتماسك المنطقيّ في بناء العمارة الفكريّة الدينيّة، والخصوبة العمليّة الأخلاقيّة في المنفعة والخير اللذين يحصّلهما الناسُ لهم ولنظرائهم في الكون من مناصرتههم الصادقة للحقيقة الدينيّة المتجلّية في نطاق اختبارهم الإيمانيّ.
خلاصة القول أنّ الربيع العربيّ لا يستقيم إلاّ إذا استنهض العقلَ العربيّ إلى ملاقاة الديموقراطيّة والعَلمانيّة في غير تشنّج ولا انقباض ولا استعداء. وإذا ثبت أنّ هذا العقل متأثّر أشدّ التأثّر بأنظومة الدين الإسلاميّ، وبأنّ التلاقح الفلسفيّ الإغريقيّ واللاهوتيّ المسيحيّ ما فعل فيه الفعل التغييريّ البنيويّ، فإنّ ميله المطّرد إلى التديّن قد يحمل إليه بذار الخلاص المنشود، إنْ هو أحسن استثمارَه في تجديد الأنظومة الدينيّة برمّتها، على نحو ما فعل أهلُ الغرب بأنظومتهم الدينيّة. فالاعتقاد الإيمانيّ الإسلاميّ يستحسن الوثوق بالحكمة الإلهيّة. والحكمة الإلهيّة ترعى التنوّع الإنسانيّ وتصونه وتعزّز فيه طاقات الانفتاح على الهداية الروحيّة. فإذا تلاقى مسعى الانفتاح في العَلمانيّة بواجب الانفتاح في الاعتقاد الإيمانيّ، انعتق العقلُ العربيّ من عقدة التملّك على الحقيقة ونضجت فيه قابليّاتُ الاعتراف الهنيّ بتنوّع السبُل والاختبارات والاستخلاصات. في هذا مناط الرجاء الديموقراطيّ في الربيع العربيّ. فإذا كان انعتاق العقل العربيّ لا يستقيم إلاّ من طريق التأمّل في مقاصد الحكمة الإلهيّة الضامنة للتنوّع الأصليّ في الكون وفي فهم حقائق الوجود، فلا ضير في ذلك على الأطلاق لأنّ المقصد الأسمى هو تحرير العقل من أيّ سلطان خارجيّ.
غير أنّ الصعوبة الكأداء ما انفكّت تكمن في قابليّات التاريخ العربيّ لمثل هذه التوبة المعرفيّة الشاملة. فالتاريخ العربيّ عقيمٌ، ويستحيل فيه أن يخرج من عقمه ما لم تصدمه هزّةٌ كيانيّةٌ سحيقةُ الأثر والارتداد. الموضوعيّة التاريخيّة تملي على الباحث أن يعتصم بالواقعيّة، فلا يترقّب من تمخّضات التفاعل التاريخيّ الذاتيّ إلاّ ما اعتاد العربُ استدخالَه واستساغتَه. أمّا تفاعل الوجود العربيّ مع الغيريّات الحضاريّة الغربيّة، فإنّ تمخّضاته لا تُنبئ حتّى الآن بتغيير جذريّ. وقد يكون السببُ في ذلك انعقاد الذهنيّة العربيّة على تصوّر أنتروبولوجيّ استنزلته الأنظومةُ الدينيّةُ الإسلاميّةُ من علياء التاريخ، على نحو ما تستنزل الأنظوماتُ الدينيّة الأخرى تصوّراتها الأنتروبولوجيّة المتّصلة بتعيين هويّة الإنسان.

3 – الاستحالة الثالثة: أنتروبولوجيا الاستخلاف الحكيم والعبوديّة الرضيّة
حين يدور البحث على أصل الاستحالة القصوى للربيع العربيّ، لا بدّ للمرء من التبصّر في هويّة الإنسان التي أورثتها الأنظومةُ الإسلاميّةُ للمجتمعات العربيّة التي نشأت فيها. لا يخفى على أحد أنّ هذه الهويّة تقترن بما ألِفه أهلُ القبائل العربيّة من تصوّرٍ لمقام الفرد الإنسانيّ في نطاق القبيلة والعشيرة. ممّا لا ريب فيه أنّ نشأة هذا التصوّر الأنتروبولوجيّ ممتدّةٌ في شعاب المدى الاجتماعيّ الثقافيّ الذي احتضن القبائل العربيّة في شبه الجزيرة العربيّة. وقد يكون له وصالٌ وثيقٌ ببنية الحضارة الساميّة الشرقيّة. على تعاقب الأزمنة نال هذا التصوّرُ مقام الصدارة حتّى تثبّتت أركانُه في النصّ القرآنيّ. فالإنسان، بحسب العقيدة الإسلاميّة، هو في مقام خليفة الله على الأرض، يعهد الله إليه في الأمانة حتّى يحملها ويضطلع بمسؤوليّة تدبّر شؤون الكون.
ومع أنّ مثل هذا المقام يُضفي على الهويّة الإنسانيّة بُعدًا روحيًّا وأخلاقيًّا رفيعًا، إلاّ أنّ الاستخلاف يجعل الإنسان في موضع الخضوع للمشيئة الإلهيّة. من هنا كانت عبوديّةُ الإنسان لله. وهو الكائن الأسمى الذي يتصوّره الإيمانُ الإسلاميّ خالقًا محبًّا للكون وحاكمًا عادلاً للتاريخ وقاضيًا حكيمًا في جميع شؤون الوجود الإنسانيّ. على ظنّي أنّ مثل هذا التصوّر الإيمانيّ يُبهج كثيرًا من المؤمنين الذين يثقون بسموّ الحكمة الإلهيّة ويوكلون إليها أمورَ حياتهم. لكنّ المسألة تتجاوز هذا المستوى من الهناء الكيانيّ الوجدانيّ حتّى تصيب كيفيّات تدبّر العيش الإنسانيّ في جميع جوانبه.
قبل استخراج العبَر من هذا التصوّر، لا بدّ من التذكير بالصلة الوثيقة التي تنشط بين مقام الإنسان كخليفة الله على الأرض وعبده ومدبِّر مشيئته ومقام الإنسان الفرد في محضن البيئة العربيّة الأصليّة في شبه الجزيرة العربيّة. في كلتا الحالتَين يبدو أنّ الإنسان العربيّ لا يُدرك أصلَه في ذاته، بل في انتمائه إلى الجماعة وفي ائتماره بالهدي الإلهيّ. ثمّة ارتباطٌ عضويٌّ بين البنية الاجتماعيّة لبيئة الجزيرة العربيّة ومضامين الدعوة القرآنيّة التي أُذيعت في تلك البيئة وفي ما جاورها من المجتمعات المتاخمة.
جليٌّ للبيان أنّ الحكم على قيمة المقام الذي تُفرده الأنظومةُ الإسلاميّة للإنسان لا ينتسب إلى حقل الاختصاص الذي ينشط فيه هذا البحث. جلُّ الأمر أنّ الإنسان العربيّ الذي يهنأ في صميم كيانه بمقام الائتمار بالهدي الإلهيّ لا يمكنه أن يثور ثورةً تضعه في مقام الإنسان الممسك بأصل ذاتيّته وباستقلال قراره. فالثورة الديموقراطيّة الحقّة، كما اختبرها أهلُ الغرب، تمنح الإنسانَ موقعَ الصدارة في بناء إنسانيّته وتدبّر شؤون حياته والاضطلاع بمسؤوليّة معاني الوجود القصيّة، وذلك كلُّه بمعزل عن المستندات الغيبيّة الماورائيّة. ذلك أنّ الإنسان المتديِّن لا يثور ولا يناصر إلاّ تديّنَه وما يظنّ فيه ائتمارًا بإرشادات دينه.
ولمّا كان الربيع الديموقراطيّ إعتاقًا للإنسان من جميع أصناف الوصايات، فإنّ مبايعة التصوّر الأنتروبولوجيّ الدينيّ الذي يضع الإنسانَ في مقام الخليفة لا يسوِّغ للإنسان العربيّ المتديِّن أن يطالب بحرّيّة أصليّة في ذاتها، وبذاتيّة مستقلّة في صميمها، وبمرجعيّة قائمةٍ في أصل الكرامة الإنسانيّة الفرديّة. ومع أنّ الأديان تعترف، على وجه العموم، بكرامة الإنسان الأصليّة، إلاّ أنّ هذا الاعتراف يسبقه إقرارٌ بصدارة الأصل الإلهيّ. ومن مُستتليات هذا الإقرار الخضوع للحاكميّة الإلهيّة.
لقد اجتهد كثيرٌ من بين أهل الربيع العربيّ التائقين إلى استعادة الأصول الدينيّة السليمة في تبيان سموّ التدبير الذي تصونه الحاكميّةُ الإلهيّةُ للإنسان العربيّ. غير أنّ اجتهادهم لا ينفصل البتّة عن الائتمار بالمنظوريّة التاريخيّة التي استقرّت عليها أحكامُ الحاكميّة الإلهيّة في تفاسير النصّ الدينيّ وفتاوى المراجع الدينيّة وإطباقات المؤسّسة الدينيّة. فالإنسان الخليفة لا يقوى على معاندة أحكام الحاكميّة الإلهيّة التي تتجلّى، بحسب الأنظومة الإسلاميّة، في ما يُجمع عليه أئمّةُ الدين. وهؤلاء إنّما يستلهمون ما استقرّت عليه الأحاديثُ المتواترة والتفاسيرُ المتعاقبة والاجتهاداتُ المتواصلة. وفي هذا كلِّه مخالفةٌ صريحةٌ لمبدإ الحاكميّة الإنسانيّة الذاتيّة الفرديّة الحرّة المستقلّة المستنيرة بمحض مشيئتها بتوجيهات العقل الإنسانيّ.
خلاصة القول في هذه الاستحالة الثالثة أنّ تصوّر الإنسان في مقام الخليفة لا يسوِّغ للإنسان العربيّ أن يصبو إلى ما هو أبعدُ من هذا المقام الأنتروبولوجيّ. والحال أنّ الديموقراطيّة التي يرنو إليها بعضُ أهل الربيع العربيّ إنّما تضع الإنسانَ أوّلاً في مقام الحرّيّة الأصليّة المبنيّة على المرجعيّة العقليّة الفرديّة الواعيّة المستنيرة. أمّا سائر الاختبارات التذوّقيّة الإيمانيّة والجماليّة والأدبيّة، فإنّها تخضع حكمًا للمقام الأوّل. وهنا بيت القصيد في إظهار الحدود الفاصلة بين مقام ومقام. وطالما أنّ الإنسان العربيّ لا يريد أن ينتقل من مقام الإنسان الخليفة إلى مقام الإنسان الحرّ، أي طالما أنّه لا يضع في موقع الصدارة مقامَ الإنسان الحرّ، فإنّ الربيع الذي يرنو إليه هو ربيع مقام الخليفة، لا ربيع مقام الإنسان الحرّ.
رفعًا لكلّ التباس، ينبغي الأصرارُ على حقّ الإنسان العربيّ في اختبار نمط الربيع الذي يستهويه. غير أنّ الموضوعيّة العلميّة تقضي بالاعتراف الصريح بأنّ الربيع الذي سعت إليه بعضُ المجتمعات العربيّة ليس هو الربيع الذي ينحاز إليه الذهنُ تلقائيًّا حين ينظر في حقائق الربيع الديموقراطيّ الذي ناضلت من أجله المجتمعاتُ الغربيّةُ الديموقراطيّة. لا يكفي رفع الالتباس هذا حتّى يستقيم الحديثُ عن الربيع العربيّ، بل ينبغي الإقرارُ بشيء من الاستحالة الفلسفيّة الخطيرة في إقبال المجتمعات العربيّة إلى مثل هذا الربيع الديموقراطيّ الغربيّ.
ليس من المفيد إطلاقًا أن يجرّم الناسُ المجتمعات الديموقراطيّة الغربيّة ويرشقوها بالفساد الأخلاقيّ والانحلال الاجتماعيّ والرياء الديموقراطيّ في سياساتها الخارجيّة. فالانحراف الإنسانيّ لا يُبطل أحقّيّةَ المبادئ التي تقوم عليها شرعةُ حقوق الإنسان. الجميع يعلم أنّ المجتمعات الغربيّة تقوِّم انحرافَها بما ينعقد في وعي أبنائها من اعتناق صريح لمبادئ هذه الشرعة. فالشرعة هي ضامنةُ الاستقامة، ولئن تواطأت عليها مفاسدُ أهل السياسة. غير أنّ هذا القول لا يصحّ في مقولة الاستخلاف الإلهيّ لأنّ الإنسانَ المستخلَف سبق فتخلّى طوعًا عن حرّيّته ليستعيدها في نطاق الائتمار بالهدي الإلهيّ. وممّا لا شكّ فيه أنّ الفارق العظيم بين المجتمعات الغربيّة الديموقراطيّة والمجتمعات العربيّة يكمن في تدبّر كيفيّات هذين التخلّي والاستعادة.
الأمثولة في هذا كلّه أنّ العرب قد ينعمون بربيع عربيّ يستجيب لمقتضيات التخلّي والاستعادة. غير أنّ هذا الربيع لن يُثمر إلاّ ما زرع فيه العربُ من مطامح ومُرتقيات. والزرع العربيّ المبذور في حقل هذا الربيع المتعثّر لا يحمل في مطاويه إلاّ تكرارًا للنموذج التاريخيّ الثقافيّ الاجتماعيّ الدينيّ الذي سارت عليه المجتمعاتُ العربيّة حتّى الآن. والحال أنّ الربيع الديموقراطيّ الحقّ لا بدّ له من أن يُفضي إلى تصوّرات جديدة ورؤى جديدة وتدابير جديدة. أمّا هذا الربيع الذي نعاينه ونعانيه، فإنّه، على جليل ما خدم به بعضَ المجتمعات العربيّة، ما فتئ يرسّخ في الأذهان صورةَ القديم المتشنّج في سماته، المتصلّب في رسومه، المتهالك في انغلاقاته.

(*) حين يقلّب المرءُ الأبحاث والدراسات والمقالات التي أُنشئت في تدبّر معاني الربيع العربيّ يستوقفه المسرى الوصفيّ للحوادث حيث يندر الفوزُ بمقاربة تستفسر الأصول القصوى للقابليّات البنيويّة التي تحملها الثقافة العربيّة. لذلك كان لا بدّ من هذا النظر الفلسفيّ الذي يروم أن يعاين مقدار نشوب الامتناع الربيعيّ العربيّ في بنية الثقافة العربيّة.

 

السابق
جنبلاط… يستقيل
التالي
وفاة امرأة امام بار في الكسليك