كيف نخرج من أزمة سوء إدارة المياه في لبنان؟

لم يعد لبنان منبع مياه بلاد الشام. فموسم شتاء العام 2013- 2014 كان من الأكثر جفافاً منذ ما يزيد عن القرن. وبين شهر أيلول من العام الماضي وأيار 2014، بلغ منسوب الأمطار التي هطلت في لبنان حوالي 400 ملليمتر، أي أقل من نصف المعدل الموسمي. لكن أزمة المياه في لبنان لم يتسبّب بها فصل الشتاء الجاف. فقد كشفت ندرة الأمطار عن أبرز أوجه القصور في سياسات إدارة المياه والبنية التحتية في البلاد.

ومن أجل مواجهة أزمة المياه، دعت اللجنة النيابية المعنية بالأشغال العامة الى إعلان حالة الطوارئ في 9 تموز 2014. حيث اقترح مسؤولون حكوميون عدداً من الاستراتيجيات لمعالجة النقص الحالي في المياه. وهي تنطوي على استيراد المياه، وعلى خطوط توجيهية للحد من الاستهلاك، وطفرة في بناء السدود. هذه الاقتراحات مكلفة للغاية، وليس فيها أي بعد نظر، وهي ضارّة بالبيئة. كما أن استيراد المياه بواسطة المراكب المرنة من تركيا ليس مكلفاً وحسب، بل يقضي على أي حافز لإيجاد حل مستدام لهذه المشكلة. ويتضمّن الاقتراح أيضاً فرض تنظيمات حول استخدام المياه بشكل عام، منها خفض الري، وسيطرة الدولة على الآبار غير القانونية، وتنظيم عملية توزيع شاحنات المياه، وتغريم أولئك الذين يفرطون في استعمال المياه (من خلال غسيل السيارات أو تنظيف الأرصفة). وحتى الآن، لم تنفّذ هذه المبادرات التي هي أصلاً ضعيفة وتأتي في وقت متأخر، كما أنها لا تتصدّى للمشكلة الحقيقية المتمثّلة بسوء إدارة مورد وفير في المبدأ.
إن الاستغلال الفعال للمياه الجوفية هو الحل الأكثر فعالية والأقل تكلفة لمشاكل المياه في لبنان، لأن طبقات المياه الجوفية هي خزانات طبيعية مجانية. لكن حالياً يتم استغلال المياه الجوفية في لبنان بشكل مفرط لا مثيل له. مما أدّى إلى استنزاف حاد في منسوب المياه الجوفية، وتسرب المياه المالحة في المناطق الساحلية، فضلاً عن ارتفاع تركيزات الملوثات. وفقاً لوثائق رسمية، يوجد حالياً خمسون ألف بئر خاص لسبر المياه، أي ما يوازي خمسة آبار في الكيلومتر المربع. علماً أن عدد الآبار قُدّر بنحو ثلاثة آلاف في السبعينيات. على النقيض من ذلك، فإن عدد الآبار المأذون بها هو ستمئة وخمسون وهي تهدف إلى التزويد بأغلبية المياه اللازمة على المستوى المحلي. تاريخياً، أتت الزيادة المطردة في عدد الآبار في المقام الأول نتيجةً للرغبة في تحقيق الاكتفاء الذاتي والاستقلالية عن شبكة المياه العامة المتعثّرة. وقد تسارعت هذه العملية خلال الحرب الأهلية، عندما قامت الميليشيات والأحزاب الأخرى بحفر الآبار من أجل خلق وترسيخ التبعية المحلية، عبر تحويل المياه الى خدمة اجتماعية ومجتمعية. ولمعالجة الأزمة الحالية بشكل صحيح، لا بدّ للبنان من التصدّي للإخفاقات في إدارة المياه، هذه الإخفاقات التي تراكمت بشكل مطرد على مدى سنوات.
حماية المياه الجوفية
من أجل معالجة الاستغلال غير المنضبط للمياه الجوفية، يجب على الحكومة المباشرة فوراً بجمع المعلومات حول الآبار لمراقبة عملية استخراج المياه الجوفية. فالإطار القانوني الذي ينظّم استخدام المياه الجوفية في لبنان يعود إلى عهد الإمبراطورية العثمانية والانتداب الفرنسي، ولم يتم تحديثه كي يأخذ في الاعتبار التطورات التكنولوجية والزيادة في الطلب. لا يزال يُعفى الفرد من الترخيص إذا كان يستخرج أقل من مئة ألف ليتر يومياً وإذا كان عمق البئر الذي يستغله دون 150 متراً، وهذه أرقام سخية جداً في ظل المناخ الحالي. يجب على الحكومة أن تحمي الأعداد الكبيرة لخزانات المياه الجوفية الطبيعية والآبار من خلال الوسائل القانونية والتنظيمات الفعالة للسماح بتجددها والحفاظ عليها. وينبغي أن تصحب ذلك آليات تحفيزية توصل المستخدمين الذين يعتمدون على آبار المياه الخاصة بالشبكة العامة.
السدود ليست الحل
لطالما كان بناء السدود محور الرؤية التي وضعتها السلطة المركزية في سبيل تنمية قطاع المياه. وقد كرّرت الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه هذا الموقف مؤخراً في العام 2012. وعليه، فقد تم اقتراح إنشاء مجموعة من السدود عبر مختلف المناطق اللبنانية. في الواقع، هذه سياسة خاطئة لأن بناء السدود ليس مكلفاً وحسب في دولة تفتقر الى السيولة وترزح تحت عبء الديون (تقدّر التكلفة بحوالى 5 الى 7 مليارات دولار)، بل يضرّ أيضاً بالنظم الإيكولوجية المحلية الهشة وهو خطير جداً نظراً للنشاط الزلزالي في لبنان. فضلاً عن ذلك، يعود قرار بناء السدود الى سوء فهم التكوين الجيولوجي للبنان. فوجود المياه الجوفية في لبنان ينبع من تشكّل الحجر الكلسي «كارست». هذا النوع من الصخور الكلسية النفاذية والمسامية يهيمن على ثلثي الجيولوجيا اللبنانية، وهو الأمر الذي لا تأخذه بالاعتبار الدراسات الأولية التي تم إجراؤها حول السدود بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن الماضي ولم تتمّ إعادة النظر فيها منذ ذلك الحين. عوضاً عن بناء السدود، يمكن لسياسات أخرى خاصة بالمياه السطحية أن تستكمل بشكل فعال عملية تحسين إدارة المياه الجوفية. ويكمن أحد الحلول في بناء برك تخزين جماعية حضرية صغيرة ومتوسطة الحجم، يتم ملؤها من الينابيع والمياه الجوفية الخاضعة للمراقبة. هذا الحل أرخص بكثير وصديق للبيئة أكثر من أي خطة مائية وطنية جرى اقتراحها.
إصلاح الإدارات والبنية التحتية
تقدّر خسائر المياه من ضمن شبكة المياه المحلية نتيجة التسرب وغيرها من أشكال الهدر بحوالى 50٪ كمعدّل متوسط يصل إلى 80٪ في بعض المناطق. في إطار برامج التكيف الهيكلي التي تم تنفيذها خلال فترة إعادة الإعمار، لم تتم الاستعاضة عن الموظفين المتقاعدين من مصالح المياه في لبنان، وبقيت نسبة 80٪ من الوظائف شاغرة. كما فشلت محاولات سابقة للتعاقد مع شركات القطاع الخاص للقيام بالتصليحات اللازمة. لا بدّ من إصلاح الشبكة مما يتطلب إعادة توظيف الكوادر الفنية صاحبة الجدارة والكفاءة. فضلاً عن النقص في عدد الموظفين، مسؤوليات السلطات الحكومية المعنية بالمياه في لبنان مجزأة ومتداخلة حالياً. وقد يتفاقم الوضع مع رغبة الحكومة في إنشاء جهة مؤسسية جديدة هي المجلس الوطني للمياه. هذا الاقتراح سيضيف الى العبء التنظيمي لقطاع يعاني من الازدواجية في المسؤوليات ومن سوء الإدارة.
إصلاح نظام التعرفة
لقد دفع نقص المياه بالأسر الى إنفاق مبالغ كبيرة مقابل خدمات المياه الخاصة. وتظهر الدراسات الاستقصائية الأخيرة أن ثلاثة أرباع الميزانية المائية تخصصها الأسر اللبنانية للمزوّدين من القطاع الخاص. هذا بالإضافة إلى الرسم الموحّد وقدره 296 ألف ليرة لبنانية (ارتفع بنسبة 22٪ العام الماضي) الذي يدفعه الأفراد مقابل كمية المياه المفترض بها تغطية احتياجاتهم كافة والتي لم يحصل عليها الكثيرون في الاشهر الاخيرة. بدلاً من الرسم المقطوع، يجب على الحكومة أن تفكّر في وضع العدادات مصحوبة بسلّم للتعرفة. ويمكن استكمال ذلك من خلال اعتماد تعريفة مخفضة تطبّق على أساس حجم الكفاف. وفي حال جرى اعتمادها، ستكون حافزاً هاماً للمحافظة على المياه بشكل أفضل.
الدعم الزراعي
كان استغلال طبقات المياه الجوفية وراء التحول التاريخي الكبير في المشهد المائي الزراعي خلال السنوات الخمسين الماضية، حيث ارتفعت مساحات الري ثلاثة أضعاف في تلك الفترة الزمنية. في الواقع، ينتج لبنان ضعف الكمية اللازمة من الفواكه والخضار المزروعة، مع وجود نظام دعم لتصدير الفائض إلى دول الخليج. وقد استقطبت هذه التدفقات إلى الخارج بين 25٪ و30٪ من المياه العذبة المستخدمة سنوياً في البلاد في السنوات الأخيرة. وعندما ينظر المرء في المسألة عن كثب، يلاحظ أن حفنة صغيرة من أصحاب الأراضي في المناطق وتجار الجملة يستفيدون من هذا الدعم. لذلك، لا بدّ من إعادة تقييم هذا الدعم الحكومي لمصلحة المزيد من المزارعين اللبنانيين ولتبرير الاستهلاك الضخم للموارد المائية في لبنان. ويمكن أن يقترن ذلك بآلية تحفيز تشجّع اعتماد تقنيات الري الأكثر كفاءة والمقتصِدة للمياه.
مياه الصرف الصحي
أدى ارتفاع مستوى التلوث الى جعل العديد من أفضل مصادر المياه غير صالحة للاستعمال. بالكاد ثلث المباني موصول بشبكة الصرف الصحي في لبنان فضلاً عن وجود محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي لم يتم تشغيلها يوماً، مما حوّل طبقات المياه الجوفية والأنهار الى مصبات عشوائية للمياه الآسنة. ووفقاً لأحدث التقارير الرسمية، تجري معالجة 8٪ فقط من مياه الصرف الصحي في لبنان. وإذا كان لنظام فعال للمياه أن يرى النور في لبنان، فيجب على الحكومة ضمان تشغيل محطات معالجة مياه الصرف الصحي جنباً إلى جنب مع بقية التوصيات الواردة في هذه الورقة، بالإضافة إلى مساعدة المناطق الريفية التي تفتقر بشكل كلي تقريباً الى البنية التحتية لمياه الصرف الصحي ومعالجتها.
سوء الإدارة
على الرغم من أن أكثر من ثلاثة مليار دولار صُرفت في قطاع المياه في لبنان منذ العام 1992، بتمويل من قروض تنمية دولية في الأغلب، لم يظهر أي تغيير جوهري واضح في أداء شبكات المياه. ليس من المستغرب أن نرى أن مشاريع غير فعالة استهدفت ببساطة الدوائر الانتخابية الموالية ودائماً بما يخدم النظام الطائفي اللبناني. والسياسات الحالية تعزّز هذه النزعة مع التركيز على مشاريع مكلفة لاحتباس المياه السطحية وزيادة الخصخصة، فيما يتم تجاهل حقيقة القضية: سوء إدارة مصادر المياه المتاحة في لبنان، وبخاصةٍ المياه الجوفية.

السابق
مواقف للسيد نصرالله اليوم
التالي
هل خسِر المتشددون المتطرفون في إيران؟