وسط بيروت في «الواشنطن بوست»

قبل وقت غير بعيد، كان وسط بيروت التاريخي أرض خراب. فالحرب الأهلية اللبنانية التي انتهت عام 1990، دمّرت منطقة معروفة بمناظرها المتوسطية الخلابة وآثارها الرومانية والمملوكية.

الآن بعد تنفيذ مشروع لإعادة الإعمار بلغت كلفته مليارات الدولارات، بات وسط المدينة يتضمّن شققاً فخمة ومقاهي راقية، ومباني مرمّمة تعود إلى الحقبة العثمانية وبوتيكات “بوربيري” و”فرساتشي”. لكن وسط بيروت يفتقر على ما يبدو إلى عنصر واحد: البشر.
قال محمد يونس، 27 عاماً، فيما كان يحدّق في الطاولات الفارغة في ليلة سبت في مطعم “غراند كافيه” الذي يديره في ساحة النجمة في وسط العاصمة: “حتى الأثرياء لم يعودوا يكترثون للقدوم”. الأعمال التجارية المتواجدة في الساحة التي تتميّز ببرج الساعة المصمم بحسب أسلوب “الآرت ديكو” مع كلمة “رولكس” في قرص الساعة، تنتقل إلى مناطق أخرى أو تشهر إفلاسها.
يعاني وسط بيروت الجديد والمتوهّج من الصعوبات لأسباب متعددة. فعلى الرغم من انتهاء الحرب الأهلية، لا يزال العنف يضرب البلاد. عام 2006، اندلعت حرب مع إسرائيل، ما ألحق أضراراً بالاقتصاد اللبناني وفرغت المتاجر والمطاعم من الزبائن. علاوةً على ذلك، ونتيجة النعرات الطائفية، شهد وسط بيروت تفجيرات وتظاهرات. وفي الآونة الأخيرة، شنّ المقاتلون في الحرب الأهلية السورية هجمات عبر الحدود في الأراضي اللبنانية.
في ظل هذه الاضطرابات، لم يعد السياح يتوجّهون من الدول العربية الغنية بالنفط إلى المدينة الأنيقة بدافع التسوق وارتياد المطاعم الفاخرة.
لكن لبنانيين كثراً يقولون إن هناك مشكلة أخرى: لقد تسبّب مشروع إعادة الإعمار بتدمير مبانٍ تراثية فيما امتلأ وسط بيروت بشقق فخمة ومتاجر راقية. أما المتنزهات أو المساحات العامة الأخرى فعددها ضئيل جداً.
تعلّق المهندسة المعمارية منى حلاق، وهي ناشطة في حماية الأبنية التراثية: “يجب أن يكون لوسط المدينة روح. يجب أن يكون حياً. لكننا أمام مدينة أشباح خالية من الثقافة ومخصصة للأثرياء”.
قبل الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً، كان وسط المدينة يعج بالحركة، فكان أكثر اغبراراً وأقرب إلى الطابع الشرق الأوسطي. كان الناس ذوو مستويات الدخل المختلفة يتجمّعون في المساجد والكنائس ويشترون الخضار والحلويات من الأسواق. وكانت المسارح تقدّم عروضاً لكبار المغنّين العرب مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.
لكن العامل اللبناني العادي يتقاضى أقل من 10000 دولار في السنة، ولا يمكنه شراء الشقق التي يصل سعرها إلى ملايين الدولارات أو المنتجات الباهظة الثمن التي تعرضها بوتيكات “إرمينيغيلدو زينيا” أو “شواروفسكي”.
يقول محمد حشاش، وهو طبيب نفسي في الثامنة والثلاثين من العمر قصد وسط بيروت في عطلة نهاية الأسبوع مع زوجته وابنه الصغير لأول مرة منذ أشهر للصلاة في الجامع العمري الكبير الذي يعود إلى القرن الثاني عشر: “هذا ليس وسطاً تجارياً. إنه استثمار للأثرياء”. وقد ألقى حشاش جزءاً من اللوم على الرجل المسؤول عن إعادة إعمار وسط المدينة: رفيق الحريري، رئيس الوزراء الأسبق الذي كان أيضاً رجل أعمال من أصحاب المليارات.
بعد الحرب الأهلية، أنشأ الحريري شركة “سوليدير” التابعة للدولة التي قادت مجهود إعادة الإعمار وتدير الآن وسط بيروت وكأنه بلدية. وقد اتهم مهندسون معماريون ومنظمات تعنى بحماية التراث ومواطنون لبنانيون الشركة التي رفضت الإجابة عن أسئلتنا، بطرد المالكين الأصليين في وسط بيروت والتدمير العشوائي للمباني التراثية.
كان الحريري الذي اغتيل عام 2005، يعتبر أنه من الضروري تطبيق استراتيجيا شاملة وقوية لإعادة الإعمار كي تستعيد بيروت دورها وتصبح من جديد مركزاً مالياً وسياحياً يربط الشرق بالغرب، كما يقول وزير سابق قبل أن يردف أن تلك الاستراتيجيا كانت تتوقّف على الهدوء السياسي الذي أمل عدد كبير من اللبنانيين بأن يتحقق من خلال التوصل إلى اتفاق سلام إقليمي مع إسرائيل. لكن هذا الاتفاق لم يبصر النور، ولا يزال النزاع العربي-الإسرائيلي يتسبّب بزعزعة الاستقرار في لبنان.
فضلاً عن ذلك، بحلول نهاية الحرب الأهلية، كانت أماكن مثل دبي والبحرين قد تفوّقت على لبنان وانتزعت منه الريادة التجارية والمصرفية في المنطقة.
قال الوزير السابق الذي طلب عدم الكشف عن هويته: “من وجهة نظر اقتصادية، ليس منطقياً أن يضم وسط بيروت ناطحات سحاب ومباني شديدة الفخامة والترف. عوامل الجذب في بيروت هي تاريخها وجبالها وخطها الساحلي”.
في المقابل، يدافع البعض عن الجهود الدؤوبة التي بذلها الحريري من أجل تغيير ملامح وسط العاصمة. يقول المهندس عبد حلباوي، 66 عاماً، الذي اشترى شقة من ثلاث غرف نوم في وسط بيروت عام 2009، إن المكان يحتاج فقط إلى مزيد من الوقت كي ينمو ويتوسّع: “لا يمكن أن يصبح وسط المدينة نابضاً بالحياة في غضون بضع سنوات فقط. فهو يحتاج إلى مئة عام كي ينمو ويتطوّر”.
تشكّل شقته في وسط بيروت استثماراً مالياً جيداً. لكن عائلته ترفض الانتقال إليها، وتفضّل الأمان في المنزل الآخر الذي تملكه في دبي، كما يقول. ويشير الظلام المخيف الذي يُخيِّم على الجزء الأكبر من المكان في المساء، إلى أن عدداً كبيراً من مالكي الشقق الآخرين يقيم أيضاً في الخارج.
يقول الناشطون الذين يدافعون عن حماية التراث وكذلك عدد كبير من سكان بيروت إنه ثمة حاجة ماسة إلى إعادة النظر في تصميم وسط المدينة. تعتبر حلاق، المهندسة المعمارية، أنه من شأن الأعمال التجارية أن تفيد من تنفيذ عدد أكبر من المشاريع الثقافية وإنشاء مزيد من المساحات العامة، أي إنشاء متنزهات لاستقطاب العائلات والتضحية ببعض الأرباح حفاظاً على التراث، كما تقول. مثلاً يمكن تحويل المبنى الذي كان يضم سينما أوبرا الشهيرة مركزاً ثقافياً، بحسب حلاق، مع العلم بأن متاجر “فرجين ميغاستور” تشغله حالياً.
في مطعم “غراند كافيه”، ليس لدى يونس ما يقوله عن مشروع إعادة الإعمار وكيف كان يمكن أن يُنفَّذ بطريقة مختلفة، فهمومه تكفيه وما يقض مضجعه الآن هو كيف سيؤمّن المال لتسديد بدل الإيجار الشهري وقدره 25000 دولار أميركي. يقول إن عدد الزبائن قليل جداً، وليس واضحاً إذا كان المطعم سيتمكّن من الاستمرار: “المكان جميل. لكن هل هذا المطعم قابل للاستمرارية؟
لا أدري”.

السابق
المذهبية الشيعية في الليالي الميلادية
التالي
الثلوج تعزل بعض قرى العرقوب