رحيل معن عرب عاشق صُور ومؤرّخها

رحل أمس الأول معن عرب: عاشق صور ومؤرخها، شوهد يحتضن الشاطئ في معانقة صليبية فظُنَّ انه، على عادته، إنما يهدئ جراحه بالعبق المتبقي من أمجادها المتهافت على الرمل والأعمدة المحكمة، وبقايا الصخور. إلا أن جراحه، على ما يبدو، غلبته هذه المرة، فسافر فيها ولم يعد.

ولم يكن عشق معن عرب لبلده صور عشق الابن المدلل في الحضن، ولا الضال العائد إليه، وإنما ما يشبه الوجد الصوفي بالمكان المنارة والحصن المنيع، بصور الحاضرة الفينيقية والشراع الذي أوقد كثيراً من شعلات الحضارة في العالم القديم على شواطئ المتوسط، والصخرة التي أذلّت، عبر قرون طويلة، كل جبار عنيد جاءها غازياً، والموئل الذي صنع العظام في الحرب والشعر والفلسفة والحكم والقانون. وقد مَلَكَ هذا العشق على معن عرب حياته وفكره فاختزلهما في استجلاء لا يملّ ولا يكلّ، لوجه ومعالم وآثار تلك الحاضرة، وفي تقصٍ دؤوب منفتح لما كتب عن أيامها، ومساحب بصماتها التي لا تُمحى على شواطئ المتوسط وثغوره. وفي تصدٍّ، بالأنين حيناً، وبالصراخ والأظافر أحياناً أخرى، للأيدي الهمجية التي طالما عبثت وما تزال، بتقاطيع وجهها الأزلية. وجاء كتابه في تاريخها: «صور: حاضرة فينيقيا» ثمرة هذا الوجد، وهو بشهادة العارفين بالأمر، أدقّ وأغنى ما كُتب حديثاً بالعربية عن تاريخ صور وحضارتها، وأول مَن عاد إلى المصادر الألمانية، وفرَّق ما بين الأسطوري من المرويَّات عنه، وبين ما أثبتته الآثار، والمكتشفات، والدراسات. وكان معن عرب يوم وفاته يُدقق في حقيقة «هوية» الجماعات التي تحدث عنها وليم الصوري ابن صور الآخر وأسقفها، ومؤرخ الحروب الصليبية في كتابه عن الدويلات الصليبية، والتي عاشت في إقليم صور واغتالت خناجر فدائييها فيها كونرد دو مونتفيرا: أمير مملكة القدس الصليبية، وهل كانت فعلاً، كما هو متعارف عليه، إسماعيلية نزاريّة أم وجهاً من صراعات الصليبيين أنفسهم؟ وقد استطاع معن عرب في كتابه أن يزيل كثيراً من اللبس المتراكم حول قضايا شائكة في تاريخ صور كمثل تنازل صلاح الدين عنها للفرنجة في صلحه معهم. ورفعه حصاره عنها مع الظرف المتاح بربح المعركة. كما أبرز في كتابه الدور الحضاري للحاضرة، ولم يكتفِ بتاريخ الرجال، والسيف، والدم، والتجارة، كما رواه المنتصرون عبر الأيام. وأثار معتمداً على الأبحاث والمعطيات الآثارية الحديثة التي كشفت عن هزالة الروايات التي يُراد لها ان تكون تاريخاً ثابتاً أبدياً، والتي تتكلم عن بناء هيكل سليمان ودور الصوريين فيه، مما لم يقم عليه أي دليل علمي بعد.
برحيل معن عرب تفقد الثقافة باحثاً تاريخياً مدققاً وأديباً ذواقة. وتفقد بلده صور ابناً فذاً مميزاً أعطاها كل ما لديه، وقد رفض في ساعات سوداء مهينة أن يستقبل في بيته بعضاً ممن كتب من الإسرائيليين عن تاريخها، عندما جاء بهم إليه عملاؤهم من «ضباط الشرف في الجيش الإسرائيلي» حينما كانت المدينة الجريح تئن تحت نير احتلالهم. أما أصدقاؤه ورفاقه فيفتقدون قامة عالية، ولو منعزلة، وجبيناً مشرقاً صلباً، ولو خجولاً، وعقلاً فذاً شجاعاً، وابتسامة تتدافع فيها العذوبة والسخرية من دون مداهنة أو قسوة، وثقافة واسعة مستزيدة متواضعة، وخُلُقاً يذوب رقة وتهذيباً ووفاءً، في زمن كثر فيه الاجلاف والعلوج والزعران…
وكنت عليه احذر الموت وحده/ فلم يبق لي شيء عليه أحاذر/ لئن عمرت دور بمن لا أوده/ فقد عمرت ممن أحب المقابر

السابق
ذبح مسؤول في «شرطة» داعش في دير الزور
التالي
المسيحيون في لبنان: مواطنون درجة أولى