شيخ لاهث وراء اللحظة التلفزيونية    

وسام المصري

الشيخ وسام المصري اخطأ في النبرة وفي المنبر. اخطأ حتى في تقاطيع الوجه، وفي تراقص اللحية. بدا بالنبرة العالية وكأنه صاحب الشروط، او على الاقل لكأنه تماهى مع اصحابها. على الاقل اكثر، والاكثر غرابة، ان اللهجة التي استخدمها عكست اقتناعه بصدقية الشروط وبكونه حقق «معجزة تفاوضية» عجزت عن تحقيقها الدول…

اما المنبر فكان خيمة ذوي العسكريين الاسرى. لا نعتقد ان الخاطفين اختاروا المكان. الشيخ المصري هو الذي فعل ذلك. هذه الفانتازيا التلفزيونية التي باتت هاجس طراز معين من رجال الدين الذين لم يسقطوا حديثا في لعبة البروباغندا. اتقنوها من زمان داخل المساجد، وقد نجحوا في تحويلها الى دكاكين لبضاعتهم الشخصية (عودوا الى بيان الشيخ مالك جديدة) بدل ان تكون بيوت الله ولتسويق ثقافة الله…

المكان مثالي للحالة. الشيخ خبير في سيكولوجيا الاستقطاب. هنا في الخيمة بين الوجوه المعذبة، والوجوه المحطمة، يكون الشخص الذي يتكلم اكثر تأثيرا في الناس، وفي السلطة، وقد يجتذب الى موقعه الاهالي الذين يبحثون عن اي بارقة حتى ولو في عيني الشيخ اللتين كانتا تبرقان بطريقة اخرى وفي اتجاه آخر…

كلنا سقطنا في «لعبة الشيخ»، لهشنا وراءه للاستحصال على مزيد من الكلام. كان واضحا انه يعتبر شروط التنظيم منطقية كما لو انه لا يطلب شيئا، اي شيء، مقابل تخلية العسكريين. انتقى اللغة التي تصور «داعش» على انه فريق من الملائكة يفاوض فريقا من العتاة…

الشيخ الذي يتقن التأويل، ولو كان التأويل المسرحي، قارب الشروط من زاويته الخاصة. ولعله عاد من الجرود مفتونا بالذي سمعه هناك، حتى انه لم يلاحظ ان ثمة شرطا قد يكون سقط سهوا وهو الطلب من الدولة اللبنانية مبايعة دولة الخلافة. لو كان للبنان ان يأخذ بالشروط لكان اول دولة في العالم تعترف بالدولة الاسلامية وعلى اراضيها كما على اراضي الدول الاخرى…

بمعزل عن البعد الدرامي في المشهد، دأبنا على القول، وفي هذه الزاوية، ان المعتقلين الاسلاميين في السجون اللبنانية لا يعنون التنظيم الذي لا يكترث بالروح البشرية. رؤيته للخلاص، من خلال الانتحار او الموت العشوائي، اقرب ما تكون الى الزخرف الايديولوجي. الزخرفة بالاسود كما لو انه ينقصنا اسودادا وسوداوية في هذا العالم.

كانت لهم غايتهم الاخرى. تكريس وجودهم في هذه المنطقة، بتضاريسها الجغرافية (والبشرية) المعقدة، لكي يثبتوا، بالدرجة الاولى، انهم ليسوا موجودين في العراق وسوريا فحسب بل وفي لبنان ايضا.

اذا تسنى لاحدكم ان يقف في الجرود يلاحظ بانوراميا ذلك المدى من البلدات والقرى في البقاع الشمالي كما في البقاع الشرقي، كما يلاحظ ان الطريق الى الشمال ليس بالطريق المستحيل. ضفاف المتوسط هي حلم ذلك العراقي الذي لقبه ابو بكر البغدادي. الجرود هي نقطة انطلاق مثالية. الشروط ان فهمها الشيخ المصري، ودون الحاجة الى التأويل، تعني كل ذلك بل واكثر من ذلك بكثير…

وحتى من حيث الشكل، هل بدا الشيخ، اللاهث وراء اللحظة التلفزيونية، وبتقاطيع الوجه إياها، الوسيط المثالي لمهمة تقتضي الحد الاقصى من السرية ومن الحنكة ومن الابتعاد (الصوفي) عن الضوء…

الشيخ المصري لم يكن الوحيد الذي تبهره الكاميرات. شيوخ اخرون فعلوا فعلته، وتكلموا باللهجة ذاتها (بالعصا لا بالقفازات الحريرية)، وان كان الثابت ان من ادبيات التنظيمات الارهابية التفاوض عبر الشاشات. الاعلام خُطف ايضا. نحن اسرى خاطفي العسكريين الاسرى…

لن نسأل لماذا اختاروه هو بالذات ليكون وسيطا. لكننا نسأل ما اذا كان صاحب الفضيلة قد نظر في الشروط مليا حين حاول اقناعنا بأنها شروط «عادلة»وبأن حرب «داعش» هي حرب ضد «حزب الله» باعتبار ان بيار جعجع او جورج خوري او سيف ذبيان او ابراهيم المغيط او حتى الشهيد البطل علي السيد اعضاء في «حزب الله».

من البداية، كان واضحا ان الخليفة يريد ثمنا استراتيجيا للرهائن الذين بين يديه، بعدما حاول زيادة العدد بعمليات لم تكلل بالنجاح. لعب بالوزراء ولعب بالاهالي الذين ندرك مدى لوعتهم، فهل الذي اتضح من كلام الشيخ لا يكفي للوصول الى القناعة الحاسمة بأن المفاوضات المثلى هي مفاوضات الميدان؟

براغماتيا ايهما الاسهل، الاعتراف بالتنظيم فوق ارضنا ام الاعتراف بالنظام فوق ارضه. بالتالي التنسيق مع الجيش السوري للاطباق على تلك الظاهرة البربرية؟ مثلما حان وقت السؤال، حان وقت الجواب…

السابق
كيف تحرقين الدهون؟
التالي
احتفال تكريمي لطلاب محو الأمية في ميس الجبل