اتفاق الطائف مظلوماً بين طائفتين على غير ما يُرام

يقول أندره مارلو في مقدمة كتابه “المذكرات المضادَّة” Les Anti-Mémoires ما مفادُه أن كاتب المذكرات الشخصية لا يقول شيئاً سوى التباهي والنرجسيَّة إن هو لم يجلس على كرسيّ الاعتراف أثناء عملية البوح هذه!

تلك النقطة “الأخلاقية”، التي وضعها مارلو شرطاً على أية مراجعة منصفة، تَصْدُق في الأخص على أي متحدّث من موقع المسؤولية العامة في تقييمه لما سلف من حوادث وتجارب. ولئن كان هذا الموقع يحث صاحبه، مبدئياً، على الصدق، إلا أنه كثيراً ما يُغريه بالمكابرة أو المواربة، خشية أن ينال اعترافُه من شأنيّة موقعه في عيون التابعين. هكذا تُساهم المكابرة أو المواربة في التأسيس لثقافة الكذب، وتمجيدها باسم المصلحة العليا للقطيع! وهكذا يضحي الكذب ملح الرجال لدى زعماء القطعان المستنفَرة!
في عملية مراجعة ذاتية واعتراف، قلَّما تحدث لدى شخصيات لبنانية مرموقة، ونادراً ما تحدث لدى أولئك الذين درجنا على الإشارة إليهم بوصفهم “مرجعيات روحية أو سياسية”، جلس رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، على كرسيّ وصاياه الأخيرة، قبل أيام قلائل من وفاته في العاشر من كانون الثاني 2001، ليقول عن اتفاق الطائف: “… ولا ننسى أن هذه الصيغة التي اعتبرها البعض موقتة – ونحن اعتبرناها موقتة، أعتقد، في حينه، عندما أُعلن الاتفاق ووُوجِهَ بمعارضة كبيرة داخل الطائفة الشيعية: أنا رفعتُ شعار أنه اتفاق الضرورة – والآن أقول: هو ليس اتفاق الضرورة، بل هو اتفاق الاختيار، وهو اتفاقٌ مناسب لطبيعة لبنان، لأنه يوافق ويحقّق جميع الوسائل الممكنة للاستقرار والتقدم والازدهار… والحمد لله ربّ العالمين” (الوصايا، ص 35).
أما في معرض كلامه على تجربة الشيعة اللبنانيين منذ العهد العثماني حتى مرحلة الاستقلال وصولاً إلى اتفاق الطائف، فيعبّر الشيخ شمس الدين عن “امتنانٍ شيعي كبير” للصيغة اللبنانية وما آلت إليه بموجب هذا الاتفاق. وهو يعرض تجربتهم “باعتبارهم – كما قال – نموذجاً للنجاح الوحيد الذي تحقّق في العصر الحديث لتصحيح وضع الشيعة في مجتمع متنوّع” (الوصايا ص 20).
بالدرجة نفسها من مقتضى الإنصاف والشهادة للحقيقة، قال المجمع البطريركي الماروني في نصوصه الصادرة عن كرسي بكركي في العاشر من آذار 2006: “… ونظرت الكنيسة إلى هذا الاتفاق على أنه مدخلٌ لطيّ صفحة الصراعات الماضية بين من كان يطالب باسم العدالة بتحسين شروط مشاركته في الدولة، وبين من كان يسعى، باسم الحرية، إلى حماية الكيان وتثبيت نهائيته. ورأت الكنيسة كذلك أن هذا الاتفاق يثبّت أولوية العيش المشترك على كل ما عداه، ويجعل منها أساساً للشرعية” (ص 714). وأضاف المجمع: “… إن الدستور الحالي، المعدّل وفقاً لاتفاق الطائف، قد لقي قبولاً من الكنيسة المارونية، بوصفه مدخلاً إلى حياة سلمية جديدة في البلاد، مع التزام لا يقبل الجدل لقيم البلاد الأساسية وتفعيلها بشكل يتلاءم مع هويتها التاريخية ومتطلباتها” (ص 728). وفي مكان آخر اشارت نصوص المجمع بشجاعة لافتة إلى أن المسيحيين اللبنانيين، لو كانوا ارتضوا إحداث مشاركة متوازنة في الدولة قبل الحرب، على غرار ما سيقترحه اتفاق الطائف، لكانوا ساهموا بذلك مساهمة اساسية في تجنيب لبنان تجربة الحرب الدامية (اعتذر عن عدم تمكّني في هذه العجالة من توثيق الاقتباس الأخير بنصّه الحرفي).
لعلَّ النصّ، الأكثر شجاعة في تاريخ الكنيسة المارونية، في خصوص طبيعة الكيان اللبناني الذي نشدته الكنيسة وكان لها اليد الطولى في تأسيسه في العام 1920، هو ذاك الذي قرأه البطريرك الياس الحويك في العام 1919 أمام مؤتمر السلام في باريس، بُعيد الحرب العالمية الأولى وبالتزامن مع سقوط الامبراطورية العثمانية، حيث قال مخاطباً رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك جورج كليمنصو: “… اسمحوا لي، سيادة الرئيس، بأن ألفت عنايتكم إلى ميزة يتفرّد بها مطلبنا هذا؛ وهي أنه للمرة الأولى في الشرق هناك من يريد إحلال “الوطنية السياسية” محلَّ “الوطنية الدينية”. وهذا أمرٌ عظيم الشأن سوف تترتَّب عليه نتائج بالغة الأهمية، كما لا يخفى على جنابكم. وعليه فإن لبنان المنشود يمتلك شخصية خاصة لا يجوز – ومن منظور الحضارة نفسها – التضحيةُ بها لأية اعتبارات مادية” (وثائق البطريرك الحويك السياسية، بعناية الخوري اسطفان ابرهيم الخوري، الوثيقة 108 بالفرنسية، ص 118، منشورات المركز الماروني للتوثيق والأبحاث، الطبعة الأولى 2013).
هناك نصّ ثالث، شجاعٌ أكثر مما يتصوّر البعض، وعلى خط التأسيس الأول أكثر مما يتصوّر البعض، ورؤيويّ أكثر مما يتصوّر البعض، هو نصّ اتفاق الطائف 1989 الذي احتلَّ مقدمة الدستور الجديد، متضمّناً آيتين هما أمُّ الكتاب اللبناني: “لبنان وطنٌ نهائي لجميع أبنائه” و”لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”. هذا تقرير صادق لطبيعة العقد الوطني اللبناني، ولما ينبغي أن يكون على الدوام. بيد أن مأثرة اتفاق الطائف – وأكاد أقول عبقريته – إنما تكمن في توصُّله إلى التقاط معنى “الدولة المدنية” في مجتمع تعدّدي شديد التنوع، كما هي حال المجتمع اللبناني؛ وذلك بدعوته إلى التوفيق بين “حقوق” المواطن و”ضمانات” الجماعات الأهلية، من خلال إنشاء مجلسين: مجلس نواب محرّر من القيد الطائفي (يستجيب حق المواطنة، في إطار “وطنيةٍ سياسية لا دينية” – بحسب عبارة البطريرك الحويك)، ومجلس شيوخ مقيّد بالتمثيل الطائفي (يستجيب مطلب ضمانات الجماعات). في تقديرنا أن هذه هي المعادلة الصحيحة والدقيقة لفكرة الدولة المدنية في الواقع اللبناني، خلافاً للخطأ العلماني الشائع الذي لا يرى في “المدنية” سوى إدارة الظهر لكل ما يتعدّى مفهوم “الفرد”. مع وجود المجلسين المذكورين، وفق اقتراح الطائف، تغدو “الطائفية السياسية” غير ذات موضوع. من مميزات اتفاق الطائف الأساسية أنه من الرهافة والحقَّانية بحيث “يحتاج تطبيقُه إلى درجة عالية من الفضيلة الوطنية، وبحيث لا يجوز أن يُترك للسياسيين وحدهم” – على قول المؤرخ كمال الصليبي – فكيف إذا كان هذا الاتفاق قد وُضع ابتداءً وإلى ما شاء الله في يد “وصاية سورية” تبيَّن بالوجه الشرعي أنها تحقد على كل ما هو جميل في الفكرة اللبنانية؟!
إن تلك النصوص الشيعية والمارونية، الصادرة عن المواقع الأسمى للمسؤولية في الجماعتين – فضلاً بطبيعة الحال عن مقدمة الدستور اللبناني – تشهد أن اتفاق الطائف مظلومٌ ومقهورٌ حتى العظم من الطبقة السياسية الطائفية المتسيّدة على الجماعتين منذ ما بعد الطائف حتى هذه اللحظة التي نُعاين فيها جمهوريةً بلا رأس، وقد خرج من أحشائها انكشاريةٌ تقاتل أهل بلدٍ شقيق! وإذا كنا ههنا سنكتفي بالإشارة إلى هاتين الطائفتين “الكريميتن” – كما يُقال في دارج النفاق اللبناني- فليس ذلك من قبيل استصغار الفضائل و/ أو الرذائل في القبائل الأخرى، وإنما لأن هاتين الطائفتين – والمقصود قيادة الشأن العام والخيارات الكبرى فيهما – تتحملان في تقديرنا المسؤولية الكبرى عن محنة العقد الوطني اللبناني مجسَّداً في اتفاق الطائف. ذلك أنهما دلّلتا على امتلاك كلٍّ منهما مخزوناً هائلاً ومتنافر التكوين، من ألمعيَّةٍ حضارية إلى جانب تخلّفٍ رعوي هكسوسيّ في آن واحد!
في العودة إلى كلام البطريرك الحويك، التأسيسي بامتياز، والمتقدّم على زمنه الشرقيّ آنذاك، أعترف بأني فرحتُ برؤيويته كثيراً إلى درجة “الحسد الطائفي”، إذا جاز لأمثالي أن يكون لديهم طرفٌ من حسد طائفي. غير أني – وبصراحة – غضبتُ في الوقت نفسه: غضبت أولاً، إذ بدا لي كأن كلام البطريرك قد “خُبّئ” عنّي طوال سبع وستين سنة من عمري، وسحابة نحو قرن من عمر الزمن (نُشر للمرة الأولى السنة الفائتة!). ثم غضبتُ ثانياً وخصوصاً لما أجريتُ مقارنة خاطفة بين صعودٍ تاريخي مبهر لحيوية مسيحية واثقة وشجاعة، ساهمت في إنتاج تجربة فذة من التفاعل الإنساني، وبين واقع حالنا في السنوات الأخيرة حيث لم نعد نسمع سوى كِرازةٍ بالخوف وانقطاع الرجاء، وبصخب أحياناً: “نحن المسيحيين قلقون على مصيرنا من وعود هذا “الربيع العربي”، ونفضّل استبداداً موصوفاً عرفناه على استبداد مضمر في أحشاء هذا الربيع! نحن في لبنان ضقنا ذرعاً يشراكة غير منصفة في صيغة عيشنا، ونريد تغيير ملامح هذا الوجه الذي اخترعناه: نريد انتخاب نوابنا بأنفسنا وحصرياً، وانتخاب رئيس الجمهورية من قبلنا أولاً ليصادق عليه المسلمون، وبالتالي نريد عقداً وطنياً جديداً يلاقي فكرة “المثالثة الشيعية – السنية – المسيحية” بدلاً من “المناصفة المسيحية – الاسلامية” المعمول بها حالياً. أخيراً وليس آخراً، نريد حماية دولية للأقلية المسيحية في لبنان والمنطقة العربية، في وجه إرهابٍ عجائبي البطش والقدرات، وما هو في الحقيقة سوى إرهاب إسلامي، وسنّي تحديداً، كما أخبرنا جميع أصدقائنا في المنطقة الذين يرشّحون أنفسهم لحمايتنا مشكورين…”!
بصراحة ايضاً، صُدمت بهذه المقارنة السريعة: صُدمت أولاً إذ رأيت إخواني المسيحيين، في تصورهم لأنفسهم، كيف انتقلوا من دينامية تاريخية فاعلة إلى حالة منفعلة متلقّية، تتقلّب على سطح صفيح ساخن! وصُدمتُ ثانياً إذ رأيتُ أنهم لم يُصغوا جيداً إلى تعاليم كنيستهم التي بذلت الجهد الأوفى في التجدُّد – وأكثر من “كنيسة” إخوتي المسلمين – كما في التوجيه والموعظة الحسنة، منذ الفاتيكان الثاني 1965 حتى زيارة البابا فرنسيس الشجاعة إلى القدس، وما بين ذاك وهذه! وصُدمتُ ثالثاً إذ رأيتهم يتحفَّزون لسحب ملحهم من عجينتي اللبنانية والمشرقية، فقلت: بماذا أملّح إذاً؟!
أما إخوتي الشيعة – والمقصود كما قلنا قيادة الشأن العام والخيارات الكبرى في الطائفة – فيبدو أن “فائض القوة” لديهم يُغريهم باستكبار لا أساس متيناً له، بل أساسُه رمال متحركة، وعُدَّتُه مغامرات بائسة، وقِبْلتُه سراب. إذ كيف لجماعة قليلة، مُغلقةٍ على نفسها ومثالها، أن تحلم بتغيير منطقة مترامية الأطراف، وأن تُعيد رسم هذه المنطقة على صورة الطائفة ومثالها، وخصوصاً إذا كانت هذه الطائفة مجرَّد لاعبٍ حديث العهد ومبتدئ بين لاعبين كبار لا تُعْوزهم الخبرة والشوكة والمكيدة، فضلاً عن العُدَّة؟! ولئن كانت آفةُ “الانسحابية” المارونية التي أشرنا إليها سابقاً تكمن في ما يمكن أن نسمّيه عقدةَ رجلٍ يحسب نفسه حبَّة قمح فيخاف أن تأكله الدجاجة في أية لحظة، فإن آفة أصحابنا الشيعة تكمن في ما حكاه لنا السيد لافونتين – سلام الله عليه – عن ذاك الضفدع الذي انتفخ حتى حسب نفسه ثوراً! على كل حال، إن قسماً كبيراً مما يبدو “فائض قوة” لدى أصحابنا إنما يحتاج إلى “تبييض”، لئلا يبقى انكشارياً، أي مجنَّداً لدى “بابٍ عالٍ” غير عثماني هذه المرَّةَ!
إذاً، تعالوا جميعاً إلى كلمة سواء، تُدعى “اتفاق الطائف” الذي يبدو أكثر رفقاً بالطوائف من رفقها بأنفسها. تعالوا جميعاً، شيعةً وموارنة، إلى ما ينقذكم من أنفسكم!

السابق
محنة لبنان: الثنائيات الخانقة والتسويات الهشّة
التالي
سيارة هامر عسكرية تقطر مدفعا نقلت جثمان كرامي إلى الجامع المنصوري