هزيمة «داعش» لن تغير من الأمر شيئاً!

تقول التجربة إن الحروب الأميركية قد تكون أكبر مصادر الخطر على حلفاء أميركا. هذه حقيقة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. يعرف الكوريون والفيتناميون والأفغان ذلك جيداً. الآن هناك حرب جديدة على تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، مضى عليها أكثر من خمسة أشهر، ولم يتضح شيء في شأنها بعد. لا أحد يعرف شيئاً عن هدفها الاستراتيجي، ولا إن كانت حرباً على «داعش»؟ أم على الإرهاب؟ والمربك في ذلك أنه من الممكن جداً هزيمة هذا التنظيم، خصوصاً أمام تحالف يضم أكثر من 30 دولة بقيادة أميركا. فهذا تنظيم معادٍ للجميع تقريباً: للعرب، وللغرب. ومعادٍ لغالبية المسلمين سنّة وشيعة، وللمسيحيين، والإزيديين، وغيرهم، الأمر الذي يجعل أو يفترض أن يجعل مهمة تقليص وجوده ودوره وصولاً إلى تدميره، كما يقول الرئيس الأميركي أوباما، في متناول اليد. لكن تجربة الحرب على «القاعدة» تؤشر إلى أن الأمر ليس بالسهولة التي قد تبدو عليها. فبعد أكثر من 13 عاماً لا يزال تنظيم «القاعدة» نشطاً في اليمن، والعراق، وسورية، والمغرب العربي. ضعف تنظيماً وإمكانات، لكنه ضعف لم يؤذن بنهاية التنظيم، ونهاية الإرهاب. على العكس، تبيّن الآن أن ضعف «القاعدة» كان إيذاناً بموجة إرهابية جديدة أعتى وأكثر خطورة.
يأتي تنظيم «داعش» على رأس هذه الموجة، وهي موجة دشنت أكبر وأخطر حرب أهلية على أسس مذهبية في التاريخ الحديث للمنطقة العربية. أميركا هي المسؤول الأول عن إطلاق هذه الموجة، لأنها بدأت من العراق تحت الاحتلال الأميركي. آنذاك سلمت واشنطن الحكم ومسؤولية إعادة بناء الدولة ليس للعراقيين كمواطنين، وإنما للقوى الشيعية التي تعاونت معها في الاجتياح كمعارضة للنظام السابق. وبالتوازي مع ذلك سمحت وبشكل لافت بتنامي النفوذ الإيراني داخل مؤسسات الدولة الوليدة. ووصل الأمر إلى أن النفوذ الأميركي يتراجع أحياناً أمام النفوذ الإيراني. واتضح ذلك في حال رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. كانت إدارة أوباما تفضّل إياد علاوي لرئاسة الحكومة بعد فوزه في انتخابات 2010. لكن علاوي بالنسبة إلى طهران خط أحمر، لذلك كان من نوادر التقاليد الأميركية في السياسة الخارجية أن تذعن، وهي الدولة المحتلة، لخيار تولي المالكي رئاسة الحكومة على رغم خسارته الانتخابات، وعلى رغم أنه خيار إيران، الدولة التي ليست لها علاقات ديبلوماسية مع واشنطن، بل هي في حال عداء معها.
هنا تكمن خطورة السياسة الأميركية. وهذا واضح في أن إدارة أوباما الحالية بعد انسحابها من العراق ترهن سياستها في المنطقة، وتحديداً في العراق وسورية والخليج العربي، بالاتفاق النووي مع طهران، وما يمكن أن يفضي إليه من تفاهمات إقليمية معها. في السياق نفسه، يتعامل أوباما مع الحرب على الإرهاب في المنطقة، وعلى «داعش» تحديداً، انطلاقاً من الارتهان نفسه، أي أنه لا يريد أن يلزم نفسه بخطة واضحة الأهداف في هذه الحرب قبل أن تتضح معالم مستقبل علاقته مع إيران. الأكثر من ذلك أن التحالف الدولي ضد «داعش» سمح لإيران بالمشاركة في هذه الحرب، من دون أن تكون عضواً رسمياً في التحالف، لكنها عملياً وبمشاركتها عضو فيه (انظر صحيفة الـ«نيويورك تايمز»، 3 كانون الأول / ديسمبر الجاري). وإذا أخذنا الاختلافات بين أميركا وحلفائها العرب حول العراق وسورية وإيران، أمكن القول بأن التحالف ضد «داعش» يتشكل عملياً من دول لا يجمع بينها إلا أمر واحد، وهو هزيمة «داعش». ما عدا ذلك تبدو صورة الوضع غامضة إلى حد الإرباك. وهنا مكمن الخطر. على خلفية ذلك، لم يعد من الممكن وضع خطة أو استراتيجية واضحة تكون الحرب على «داعش» جزءاً منها، وتكون هزيمة هذا التنظيم أحد أهدافها وليست هدفها الوحيد. لذلك ظلت هذه الحرب وقد مضى عليها أكثر من خمسة أشهر الآن غامضة، وتثير الكثير من الأسئلة التي لا يجد أحد جواباً عليها. مثلاً، ما هو الهدف من هزيمة «داعش»؟ سيقال أن هزيمة «داعش» هزيمة للإرهاب. لكن هذا يختزل الإرهاب في تنظيم واحد. ثم إن مثال تنظيم «القاعدة» وما آلت إليه الحرب عليه يقول عكس ذلك. ضَعُف تنظيم «القاعدة»، ولم ينهزم الإرهاب ولم يضعف، بل تفاقم. الآن إلى جانب «القاعدة» هناك مئات، بل ربما آلاف الميليشيات الإرهابية. السؤال الثاني: ماذا بعد هزيمة «داعش»؟ ما الذي ينبغي فعله بعد ذلك؟ بعبارة أخرى، ما هو الهدف التالي لهزيمة «داعش»؟ لا أحد يعرف إجابة على هذا السؤال. ما هي علاقة «داعش» وظاهرة الإرهاب في العراق تحديداً بالاجتياح الأميركي لهذا البلد، وبالدور الإيراني في هذا الاجتياح، وبالطريقة التي تمت بها عملية إعادة بناء الدولة العراقية بعد تدميرها على يد الاحتلال؟ ثم ما هي علاقة الإرهاب الذي بدأ في العراق بالحرب الأهلية في سورية؟ تفضّل إدارة أوباما الفصل بين الحالين، وهي تعرف أنهما غير قابلتين للفصل. يكفي أن إيران و«داعش» وأخواته، والميليشيات الشيعية عامل مشترك بين ما يجري في العراق، وما يجري في سورية. لكن كيف يمكن تفادي هذا التخبط من دون خطة، ومن دون استراتيجية؟ سؤال ثالث: لماذا يسمح بمشاركة ميليشيات شيعية عراقية وغيرها في الحرب على «داعش»؟ هذا يؤجج الشحن الطائفي، ويزيد أوار حرب طائفية يراد إخمادها. ثم إن السماح بمشاركة هذه الميليشيات يضع شبهة لا حاجة لأحد بها، وهي أن الحرب على «داعش» هي أيضاً حرب على فريق مذهبي بعينه من فرق الإرهاب. وهذا ما تتردد أصداؤه الآن في المنطقة، ويمثل خطورة على الجميع. والسماح بمشاركة ميليشيات هي في الواقع إرهابية يجعل منها عملياً حليفاً لدول تحارب الإرهاب في المنطقة.
بقاء هذه الأسئلة من دون إجابات يؤكد المؤكد، وهو أنه ليست هناك خطة، أو استراتيجية لمحاربة الإرهاب، بما في ذلك «داعش». كما ذكرت هزيمة «داعش» ممكنة جداً، لكنها لن تكون نهاية للمشكلة، بل قد تؤدي إلى استئناف جديد لها. ما لم تكن الحرب على الإرهاب حرباً عليه كمفهوم، وسلوك، وقيم وسياسات، وتنظيمات، فإنها ستكون من الحروب التي تلد إحداها الأخرى. وتاريخ حروب أميركا لا يطمئن كثيراً. نجحت في عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، وفي كوسوفو إلى حد ما. لكنها فشلت في كوريا، وفيتنام، وأفغانستان، والعراق. وأهم ما يميز حروب واشنطن الفاشلة أنها كانت من دون استراتيجية واضحة. وافتقار الحرب على «داعش» لخطة واضحة هو ما سمح لإيران بأن تكون طرفاً مشاركاً فيها، وهي الدولة الطائفية، التي تنشئ وتتبنى ظاهرة الميليشيات الإرهابية كأداة لدورها الإقليمي في المنطقة. تمثل مشاركة إيران أحد العوائق الآن أمام وضع خطط سياسية وفكرية وتربوية ضد الإرهاب كمفهوم، وكظاهرة تهدد الجميع. ولأن الإرهاب في مرحلته الحالية ينطلق من الطائفية، وإيران لا تستطيع محاربة الطائفية لأن نظامها السياسي تأسس عليها، وتعتاش منها في سياستها الإقليمية، فكيف يمكن وضع خطة في هذه الحال؟ المدهش أن الدول العربية المشاركة في التحالف قبلت أولاً بحرب من دون خطة واضحة بمراحلها وأهدافها، وقبلت ثانياً، أو لم تعترض على مشاركة إيران في هذه الحرب وفقاً لأجندتها هي، وليس أجندة أحد آخر. هل يعني هذا ضرورة مقاطعة إيران؟ ليس بالضرورة. لو كانت للتحالف استراتيجية واضحة مشتركة، لكانت مشاركة إيران في إطار هذه الاستراتيجية، وليس خارجها. لكن ليس هذا ما تريده واشنطن الآن. وكثير مما لم ترده واشنطن في حروبها السابقة تسبب في إرباكها، وإرباك حلفائها، وأخيراً تسبب بفشل حروبها السابقة. هل سيكون هذا مآل الحرب الحالية على «داعش»؟ إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، لا ينبغي استبعاد ذلك.

السابق
سنة على غياب رمز الإعتدال محمد شطح
التالي
٢٠١٤ عام «داعش» و… الخلل الذي أصاب العالم