رسالة إلى مهدي عامل: فشلنا يا رفيق بسبب تخاذلنا

تصوّر يا رفيق أنّه، وبما يُشبه الحلم، قام شاب تونسي يدعى "محمد البوعزيزي" في أواخر العام 2010 بإحراق نفسه احتجاجاً على الوضع المعيشي المأساوي والمهين الذي يعانيه، واندلع الربيع العربي.حاولنا أن نفعل كل ما باستطاعتنا، نحن الشيوعيون في سوريا ولبنان، المؤمنين بالثورة، والمدركين أنّها لن تنتظرنا، لكن لم ننجح، فالإستقطاب الطائفي كان أكبر من قدرتنا على مواجهته، وتخاذل "رفاقنا" مؤيّدي الأنظمة، أعطى لشعوبنا انطبعاً بعدم جدوى ما نحمل في جماجمنا من وعي، اعتبر في مرحلة لاحقة أنّه وعي معادٍ لحرية الشعوب المقهورة.

تحية عربية وبعد:
الرفيق العزيز حسن عبدالله حمدان
تردّدت كثيراً قبل كتابة هذه الرسالة، لأن ما أريد إخبارك به كثير، معقّد، ومتشعّب، وسأحاول الإيجاز، لعلي في رسائل قادمة أوضّح كل ما يجب توضيحه. لدي الكثير من الحب، واللوم، والغضب، وعليك أن تتحمّل فمآسينا أصبحت أكثر مما كانت عليه عشية رحيلك منذ ما يقرب من (30 عاماً).
انتهت الحرب الأهلية اللبنانية بعد رحيلك بسنوات قليلة. أُعيد إنتاج النظام الطائفي الذي حذّرت منه مراراً وتكراراً، وعملت عليه تحليلاً، وتفكيكاً، وتعريفاً. وبعدها بسنوات قليلة تغيّرت المعادلات في المنطقة، فحلّت محل “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” تنظيمات طائفية، تذيّلها “الشيوعيون” في مرحلة لاحقة.
في العام 1993، وقّع في أوسلو اتّفاقاً “تاريخياً” بين الفلسطينيين و “الإسرائيليين” كان من المتأمّل أن يفتح صفحة جديدة للعلاقات بين الطرفين، وفي العام التالي التقى ياسر عرفات بإسحق رابين في “كامب ديفيد” برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون معتقدين أنّهما أنهيا مرحلة كاملة من الصراع وفتحا أخرى. وهو ما لم يتم على كل حال. إلا أن ما يجب إخبارك به، هو أن المقاومة الفلسطينية ولأسباب يطول شرحها في هذه العجالة، أصبحت ذات لون ديني واضح، ومتركّزة في منطقة واحدة تقريباً، هي قطاع غزّة.
تصوّر يا رفيق أنّه، وبما يُشبه الحلم، قام شاب تونسي يدعى “محمد البوعزيزي” في أواخر العام 2010 بإحراق نفسه احتجاجاً على الوضع المعيشي المأساوي والمهين الذي يعانيه، لكنها لم تكن حادثة عابرة، ولا ردّة فعل بلا نتائج، لأنها تحوّلت إلى ما يشبه كرة النار، لتطيح بالرئيس التونسي بعدها بـ (33 يوماً) فقط! ثم تدحرجت لتضرب عدّة دول منها مصر، واليمن، والبحرين، وليبيا، ووصلت ارتداداتها لبعض الدول الأخرى كالأردن، والجزائر، وبعض دول الخليج، لا بل كانت هناك محاولة في لبنان لإسقاط النظام الطائفي الذي لطالما حلمت بإسقاطه، لكنها سرعان ما فشلت، وغالباً أُفشلت.
لكن الأهم في هذه المعمعة، أن رياح الثورة وصلت إلى سوريا في ربيع العام 2011، واجهها النظام بضراوة مسبوقة بحادثة تعرفها جيّداً، أقصد مجزرة حماه 1982، لكنها هذه المرّة كانت بشكل أبشع، وأكثر ضراوة. كانت ارتدادات الثورة السورية كارثية، ليس فقط لحجم المآسي التي خلّفتها، قتلاً، واعتقالاً، وتشريداً، واستدعاء للميليشيات الطائفية من كل حدب وصوب لتصفية قضية هذا الشعب، بل لأنّنا اكتشفنا أن قسماً لا بأس به من رفاقك دافعوا عن هذا النظام، متغافلين تماماً عن الكارثة العظيمة التي حلّت بهذا الشعب، واستخدمت فلسطين كشمّاعة، يعلّقون عليها جرائمهم وذرائعهم، ويبرّرون للنظام السوري جرائمه، في حين منذ ذلك الوقت، لم تطلق رصاصة واحدة على “اسرائيل”، كل الرصاص يطلق على الشعب السوري، تماماً كما غدروا بك، غدروا بهذا الشعب.

اكتشفنا بعدها أنه، وعلى خلاف ما قلت في مرّات سابقة عن مسألة “الطبقة الوسطى” وخطأ الإصطلاح، أو بأحسن الأحوال عدم دقته في مؤلّفك الرائع “مقدّمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرّر الوطني” الذي لا أكف عن قراءته بشكل دائم. اكتشفنا يا رفيق أن أغلب الأحزاب “الشيوعية” في مشرقنا الحزين، هي أحزاب طبقات وسطى، دافعت، وفي أحسن الأحوال سكتت عن ضيم الأنظمة باعتبار أن ثورات الشعوب مؤامرات إمبريالية على أنظمة تقدّمية ستحرّر فلسطين، لكنهم لم يحدّدوا لنا دور الشعبوب في المعركة، ولا توقيتها، ولا كيفيتها. كل ما حدّدوه، أن الأحزاب الطائفية التي حيّدتم عن الجبهة (أعتقد أن من اغتالوك من بينهم)، هي نفسها من سيحرّر فلسطين. هذا الكلام صحيح، أنا لا أمزح، وتستطيع التأكّد منه بالطريقة التي ترتأيها.

حاولنا أن نفعل كل ما باستطاعتنا، نحن الشيوعيون في سوريا ولبنان، المؤمنين بالثورة، والمدركين أنّها لن تنتظرنا، بل قد تتفجّر في وقت معاكس لحساباتنا، وعلينا أن نكون جاهزين لأخذ دورنا، ولحجز مقعدنا في المجتمعات الجديدة بعد انهيار الأنظمة التي حنّطتنا طوال كل هذه العقود، إلا أنّه ولأسباب كثيرة، لم ننجح، فالإستقطاب الطائفي كان أكبر من قدرتنا على مواجهته، وتخاذل “رفاقنا” مؤيّدي الأنظمة، أعطى لشعوبنا انطبعاً بعدم جدوى ما نحمل في جماجمنا من وعي، اعتبر في مرحلة لاحقة أنّه وعي معادٍ لحرية الشعوب المقهورة.
في النهاية، ما عادت “دار الفارابي” تعيد طبع مؤلّفاتك بالوتيرة ذاتها، إلى أن أصبحت هذه المؤلّفات من ذكريات الماضي السحيق.
تحية لروحك الطيّبة .. وللحديث صلة
رفيقك المُحب فيكتوريوس بيان شمس
القاهرة/ 26/ كانون الأول/2014

السابق
جعجع: معمل الاسمنت في زحلة لن ينشأ
التالي
نقابة المحررين: لتسديد الاشتراكات قبل 31 الحالي