بيعات العشائر لـ«داعش»: تخبط بين الولاء لـ «الدم» و «الولاء والبراء»

حرص تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) منذ سيطرته على المناطق الشرقية في سوريا وشرق حلب ذات التركيبة العشائريَّة إظهار ولاء هذه العشائر له ليثبت وجود شعبية له، غير أنّ تركيبة المجتمع السوري تغيرت. يقول المحامي محمود من ريف حلب الشرقي: «غاب عن التنظيم أنَّ الانتماء العشائري لم يعد له ذلك الوجود القوي في المجتمع السوري بسبب تغير طبيعة الحياة أولاً، وبسبب حكم البعث خمسين عاماً من ناحية ثانية، اذ عمل نظام البعث على تهميش أي دور للانتماء العشائري، بل عمل النظام السوري على شراء شيوخ العشائر بالمال تارة فربطهم معه بمافيا قذرة، وبالسلطة تارة عبر مناصب شكليّة (مجلس الشعب)، ما أفقدهم أية صدقية عند أبناء العشيرة، فلم تعد كلمة شيخ العشيرة مسموعة إلا من جانب الدائرة الضيقة به والمنتفعة منه».

وحاول «داعش» ألا يقع في خطأ النظام نفسه فعمل على جذب القاعدة والقمة معاً، فنظم لقاءات جماهيرية أشبه بالمهرجانات فبايعته أكثر من عشرين عشيرة في الرقة، وعشرات أخرى في ريف حلب الشرقي بعدما فرض سيطرته، واللافت أنّ هذه المبايعات لا تتم بشكل جماهيري (كرنفالي) إلا بعد السيطرة العسكرية الشاملة، ويقول أبو حسن ممن حضروا اجتماع العشائر في سد تشرين قرب منبج: «المبايعات أقرب الى عقد مصالحة منها إلى بيعة، فالبيعة للتنظيم كانت بحكم الأمر الواقع الذي لا مفر منه، فأنت أمام المبايعة والحصول على حقوقك، أو الدخول في حرب طاحنة مع التنظيم، فالبيعات كانت سلطة أمر واقع، وأي عشيرة تعادي التنظيم قد تُفنى وتُهَجَّر كما حصل مع الشعيطات الذين وقفوا في وجه التنظيم».

ولعب التنظيم على استثمار أخطاء الأسد مع العشائر فقرّب بداية العشائر التي أهملها نظام الأسد. ووجدت هذه العشائر في التنظيم فرصة للحصول على جاه حرمها الأسدان منه عقوداً مثل عشيرة البريج في الرقة، كما لعب على وتر الصراعات والمنافسات داخل العشيرة نفسها. فقد بايع محمود المطر الماشي من قرية الماشي التنظيم وهو مرشح سابق لمجلس الشعب والإدارة المحلية، وكان ينافس أولاد عمّه محمد خير ومحمد صالح الماشي من أجل عضوية مجلس الشعب، علماً أنّ محمد خير ومحمد صالح ما زالا عضوين في مجلس الشعب.

واستثمر التنظيم إهمال الأسد للمناطق الشرقية من ناحية المشاريع الإنمائية على رغم أنها تمثل الخزان الاقتصادي حيث الثروات النفطية والخزان المائي الذي يحوي حوالى 60 في المئة من مصادر المياه، والخزان الغذائي والزراعي حيث القمح والذهب الأبيض (القطن)، اذ لم يقدم الأسد لهذه المناطق شيئاً يذكر، لا سيما أثناء موجات الجفاف، والمشاريع الإنمائية إن أنشئت كآبار النفط والسدود فالمستفيد منها أبناء الساحل لا المنطقة، ما هيّأ نوعاً من الحاضنة الرافضة للنظام، يقول المحامي محمود: «التنظيم استثمر حال حقد العشائر على النظام والمناطق الفقيرة بشكل عام وحاول أن يستثمر رد فعلها تجاه النظام بكونه عدو النظام كما يدعي ومخلص الناس من استبداده وقد نجح إلى حد ما في البداية، ولكن بعد سياسته الديكتاتورية وعقليته انسحب الناس من تحت عباءته».

غير أنَّ الوتر الذي أجاد التنظيم العزف عليه هو وتر الانتماء السنّي للعشائر السورية، لا سيما إذا علمنا أنّ إيران، بالتعاون مع الأسد، عملت على نشر التشيع، وذلك من خلال تشييع شيوخ العشائر وبناء الحسينيات وشراء الذمم.

يقول الشيخ أبو أحمد من عشيرة الناصر من محافظة الرقة: «بُنيت عشرات الحسينيات والمقامات التي تدعو الى التشيع كمقام التابعي أويس القرني في الرقة على رغم عدم وجود شيعة في هذه المناطق، في الوقت الذي حورب فيه مشايخ الدعوة السلفية وزج بهم في السجون» فظهر التنظيم كناصر ومعين لأهل السنّة وعقد الملتقى العشائري السادس الضخم لعشائر أهل السنّة في ولاية حلب وذلك في ربوع قاطع منبج على ضفاف نهر الفرات في سد الفاروق (تشرين). ووصف العشائر بأهل السنّة من جانب التنظيم يوضح هذا الأمر. وقال مسؤول شؤون العشائر في ولاية حلب في هذا المؤتمر: «بيعة الخليفة واجب شرعي في عنق كل مسلم تحت سلطان الدولة الإسلامية وهي في عنق الوجهاء والشيوخ والعرفاء أولى». وبيَّنَ أنّ التنظيم جاء لحمايتهم فقال: «الثغور ثغوركم والأرض أرضكم والنصر نصركم والنفع لكم والخير عائد عليكم والعز منكم ولكم والمجد لأبنائكم. فلماذا بعد ذا تتأخرون؟! ولمصلحة من عنا ترغبون؟! فما لكم كيف تحكمون؟!».

ومن وسائل التنظيم في تثبيت حكمه على الأرض ضرب العشائر بالعشائر على الأرض بشكل غير مباشر، وكان طبيعياً أن تنهزم العشائر المعارضة لأنّ التنظيم قدم للعشائر الموالية كل دعم. يقول المدرس حسن من ريف دير الزور: «انقسم ولاء العشائر بين النصرة والتنظيم، ولعب النفط دوراً في هذا الانقسام، فالعشيرة لا تدافع عن الجهة الموالية فحسب، بل تدافع عن مصالحها المادية (النفطية)، ناهيك بإحياء الصراعات القديمة».

ويؤكد المتابعون أنّ هذه البيعات آنية ولن تؤثر في تغيير نهج أبناء العشيرة وعاداتهم، فما زال المجتمع العشائري رافضاً لممارسات التنظيم، والاشتباكات التي حصلت بين أهالي صبيخان في ريف دير الزور والتنظيم تأتي في هذا السياق، وما زالت حال الاحتقان في المجتمع العشائري في ازدياد، ويقول المدرس حسن: «ثار شباب صبيخان حمية لإحدى نسائهم فمنعوا رجال التنظيم من اعتقالها بدعوى أنها لا تضع نقاباً، وهذه الثورة تعطي انطباعاً واضحاً عن رفض المجتمع سلوك التنظيم الذي يعمل من دون أن يدري على زيادة الحقد عليه. وما أحداث الشعيطات إلا مثال على ذلك».

ويعتقد أن غالبية البيعات التي حصلت في دير الزور خصوصاً هي مصالحة مع التنظيم وحماية للمدنيين، وهذا ما تثبته المصالحات الأخيرة بين الشعيطات وتنظيم الدولة، إذ عاد قسم من الشعيطات الى بيوتهم بعد الموافقة على شروط التنظيم تسليم كل بيت بارودة وذخيرة، وهذا ما حصل في معظم ريف دير الزور، ولكن من دون شروط سوى الطاعة. ويقول أبو أحمد العجيل من دير الزور إن «ما قامت به الشعيطات ليس مبايعة وإنما صلح وكذلك فعلت عشائر دير الزور كلها، وكل ما أثير عن مبايعة نواف البشير أو أولاده للتنظيم هو افتراء».

وتصطدم بيعات العشائر بولاء الدم. ويتنافى هذا الولاء مع مفهوم الولاء عند التنظيم، فالتنظيم يقر مفهوم الولاء والبراء على أساس الدين، أي تقسيم المجتمع إلى مؤمن وكافر ولا مكان للمنطقة الرمادية أو ولاءات الدم والوطنية والقومية والعرق. يقول الأربعيني عبدالعزير من دير الزور: «ما زال الولاء للدم متجذراً في نفوس أبناء العشائر ولم يفلح التنظيم في نزع هذا الولاء، ومشكلة التنظيم في فشله في تحقيق التوافق والانسجام بين الولاءين كما حدث في التاريخ الإسلامي». ولم يستثمر التنظيم ولاء الدم ليسخّره في خدمة الولاء للدين.

ويستبعد الناشطون أن يكون لهذه البيعات دور في مسار الثورة السورية، فالعشيرة مكون اجتماعي لا سياسي وعسكري، فأغلب العشائر منقسمة سياسياً، ولم يعد شيخ العشيرة صاحب كلمة مسموعة. يقول الناشط أبو أحمد الديري: «على رغم ولاء معظم شيوخ العشائر لنظام الأسد، وارتباط مصالحهم المادية والسياسية به، إلا أنّ هذا لم يؤثر في أبناء العشائر الذين ثاروا على الاثنين معاً، ولا يختلف الأمر مع التنظيم»، فشيوخ العشائر فقدوا تأثيرهم حينما قدموا مصالحهم الشخصية على مصلحة المجموع». ويضيف: «لم يبق لشيخ العشيرة تأثير لاختلاف الأنماط الاقتصادية، واختلاط الناس مع بعضهم بعضاً وتحول القرى الى مدن».

بيعات العشائر فقاعة إعلامية أكثر منها حقيقة مؤثرة على الأرض، فمعظم شيوخ العشائر يميلون مع الأقوى، بل منهم من حالف فرنسا أيام الاحتلال وتعاون معها ودعمها، وبيعات كهذه يُعتقد انه لن يكتب لها النجاح.

السابق
نصف معلومات «ذا دكتورز» غير صحيحة
التالي
معلومة غريبة جدًا عن «كأس»النبيذ!