بقايا الحرب في الشيّاح

لو أنتَ نظرتَ إلى أساساته لتهاوى على نفسه. ليس مبنىً تمامًا، بل «فزّاعة» الطريق ضدّ جيلٍ لا يدري معنى الحرب، اقتصر تماسه معها على صور الشهداء والمفقودين. لم يبق من تلك الحقبة ما يفسّرها سوى شبح المتاريس التي كانتها الأبنية منذ وقتٍ قريب. اختفت أكياس الرمل، سكتت المدافع، وبقيت تلك الجدران الخرساء كلافتاتٍ تحذيريّة تراقب الطريق، وتنقل بشاعةً صامتة، لا ينقصها سوى أصوات القذائف، أو صرخة الضحيّة في اللحظة الأخيرة. عشبٌ ينبت في الشقوق، وأروقةٌ مقفلةٌ على ماضٍ غارقٍ في كآبته، هذا ما تبقّى من المنازل.

طبقتان لا أكثر، يرتفع خلفهما مبنىً عملاق، شيّدته «حداثة» ما بعد الحرب. لو نظرت قليلًا إلى المبنى الأوّل، لرأيت بقايا المعارك على الجدران، ولوجدت ثياباً تتدلّى من الشرفة: ثمّة حياةٌ وسط هذا الموت الكثيف، وإن بدت دخيلةً على المشهد. من الثياب التي تتوزّع على الحبال، تفهم أنّ هناك من سيرتديها صباحًا. وربّما تميّز وجوه ناسها المختبئين في الداخل. أعرف هذه المنازل جيّداً، وأعرف أنّ ثمّة أطفالاً هناك، يضيفون روحًا إلى الغرف المعتمة.
لا روح للمبنى الحديث في الخلفية. حياده يحيلك إلى الموت. أين يخبّئ السكّان حياتهم؟ أيّ تلك الطبقات يعجّ بالحياة، وأيّها المقفر؟ لا فرق يذكر بين الشرفات التي رُصفت فوق بعضها بكلاسكيّة مفرطة. الشغور والحياة، يمتلكان الحظوظ ذاتها من تلك الشقق، لا يغلب أحدهما على الآخر. حتّى لو تطفّلت بعينيك بحثاً عن الإجابة، سيمنعك الزجاج الذي يعرض انعكاساً دائماً للسماء من حسم الخيار. ثمّ ماذا عن الأطفال، هل يلعبون مع جيرانهم، سكّان «الأسفل»، هل يتقاذفون طابةً واحدةً في البورة القريبة أم أنّهم لا يخالطون أحدًا؟ أظنّهم اكتفوا من هذا الحيّ بنظرةٍ خاطفةٍ من خلف المرايا التي تنتصب في الواجهة، يسيّجون حياتهم بهذه الزرقة الكثيفة.
كلّ ذلك التباين لا يحدث صدفةً، كالحرب وما تلاها. الصدف لا تتدخّل في تفاصيل الحكاية. حتّى الزجاج الذي يلمع في المبنى الحديث، ليس بريئًا كما يبدو، ولم يستوِ في الواجهة على سبيل الترف. والشرفات التي أقفلها أصحابها فشوّهوها، وعطّلوا وظيفتها الأولى: الوقوف فوق المدينة. كلّ ذلك لم يقع صدفة. يحلو لي القول انّهم فعلوا ذلك عمدًا ليغذّوا ذلك التباين الفاقع، وليجعلوا النوافذ المجاورة تعلن فقرها على الملأ، فتستسلم لعيون العابرين التي تُصوّب إليها. لا زجاج يغطّي النوافذ المتآكلة. الـ«نايلون» هو البديل الوحيد عن العراء.
لو حرّرنا المخيّلة قليلًا، ربّما أمكننا القول إنّ لهذا المنزل الكئيب، عصرا ذهبيّا. وذكرى تخلو من البشاعة. كان لشرفاته نبض، وكانت تفرح وتحزن، ويمكنك أن تلقي السلام على زهور الأحواض التي تصطفّ برهافة فوق «دربزينات» الحديد. يبدو كلامًا لطيفًا، مشبّعًا بـ«كليشيهات» الحنين. حنينٌ إلى واقعٍ سابق، لم ندركه نحن، «جيل ما بعد الحرب»، الذي فتح عينيه على الحداثة المصطنعة وقد غزت الأمكنة. يسمّونها «إعادة الإعمار»، ويحيلك الاسم، فوراً إلى مقاولين شرهين، عبثوا بملامح المدينة، وأنتجوا المزيد من الفوضى. أبنيةٌ تطول وتتكدّس جنباً إلى جنبٍ بلا روح. ولكن، وعلى الرغم من ذلك، نجا الشيّاح ولو بنسبةٍ طفيفة من التنميط الظالم، ولم يتنازل عن ألفته لأحد.
على أرضٍ واحدة تستلقي «المتاريس المتقاعدة»، بجوار المباني الفارهة التي «دُقّت» على عجلٍ في أرض المدينة. تفصل بينهما أمتارٌ ضيّقة، وهوّة زمنيّة تتّسع مع اتّساع الشارع الذي نال حصّته من القذائف في سنين خلت. الشارع الذي أصبح، فيما بعد، متحفاً ضخماً لعيون الراحلين. إن كان للمحتربين ذاكرة، سيجدونها في «طريق صيدا القديمة»، في هذا المبنى المتداعي تحديداً. هنا حيث تبدّلت المعالم كثيراً، وأعيد بناء الشارع بالكامل بعد أن زالت المتاريس، وانزوى القنّاصون في بيوتهم. ركامٌ فوق ركام تشكّلت المنطقة على مدى خمسة عشر عامًا. طمست رائحة الماضي، وتنفّس الشيّاح باروداً كريهاً أعاد تشكيل الأحياء على نحوٍ مشوّه. لكنّ ذلك لا يمنع أنّ لتلك المنطقة، كما لغيرها، ذاكرة جميلة، وهذا المبنى جزءٌ منها.
في الشيّاح، ما زالت السماء متاحةً للجميع. لم يحجبها شره المال بعد. سماء لم يشترها أحد. هاربةً من ماضٍ إلى آخر. باستطاعتك رؤية التاريخ العالق على الجدران، و«ألبوم» الصور المفتوح في الأزقّة، وستطالعك، حتمًا، الوجوه التي تحمل ندمًا عميقًا على ذنوب لم تقترفها.

السابق
15 ألف ألماني يشاركون في تظاهرة ضد الإسلام
التالي
تييري هنري يترك كرة القدم