أميركا وأسئلة الفردية والوطن والسلطة (1)

يأتي هذا المقال بعد زيارة لولايتي واشنطن ونيويورك إثر مشاركة مديرة تحرير الموقع جنى الحسن في برنامج International Visitor Leadership Program والذي تمركز موضوعه الرئيسي حول المرأة في السياسة والحياة العامّة. وينشر على عدة أجزاء، هنا الحلقة الأولى منها.

عندما تنطلق الطائرة عادةً من مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت إلى أيّ بلادٍ أخرى، أجد نفسي محكومة بالفرح. ليست حقيبتي الّتي أطويها في اليوم الّذي يسبق السفر، هي نفسي. لا أشغل نفسي كثيراً بما يجب أن آخذ معي منها، ليس هناك دائماً متّسع من الوقت للتأمّل وتكاد لحظات الهدوء في حياتنا، وسط هذه الحداثة التي تبتلعنا، معدومة.

طائرة
هناك دائماً، في المقعد المجاور للنافذة داخل الناقلة، لسبب ما لا أعرفه، تحديق إلى الماضي. على علوّ شاهق وبعيد، تبدو الطفلة التي كنتها يوماً عصيّة على الالتقاط كصورة مشهدية عنّي. لكن يوجد دائماً صور أختلقها وتجعلني أرغب بالضحك لأنّي أصدّقها. وبين شقوق الماضي ومسألة ما إن كان بإمكاننا تعويضه بالوهم، يغيب عن البال سؤال الوطن. يعود ربما في طريق العودة، فأمسك الهاتف وأكتب: “لا أعرف إن كنت أحتاج وطناً”.
هذه هي الخلاصة والتي لا أزال غير متأكّدة منها، وهي مثلي، مفتوحة دائماً على آفاق جديدة قد تختلف. لكن في الرحلة الراهنة. هذه تفاصيل الخلاصة. الرجل القصير القامة، الكبير في السن، في مطار واشنطن دالاس الدولي ينتظرنا. يلبس بنطالاً يصل إلى فوق الكاحل بقليل، وحذاءً ضخماً نسبة إلى بنيته الصغيرة. يبدو بهندامه أميركياً بامتياز. يبتسم ويرافقنا حتّى يسلّمنا بأمانة إلى مسؤولة العلاقات التي رافقتنا خلال ما تبقّى من الرحلة. يلوّح لنا وهو يبتعد، بينما ننهمك نحن بالتقاط صور “السلفي”، على الرغم ما أفسدت الرحلة الطويلة من شكلنا الخارجي.امريكا
درب الوصول ليس طويلاً، لكنّي أستسلم إلى نومٍ عميق. لم أنم على متن الطائرة. شاهدت فيلمين أو أكثر وقرأت رواية “دروز بلغراد” للكاتب اللبناني ربيع جابر، رواية ممتعة كنت أؤجل قراءتها منذ مدّة. الانطباع الأوّل عند الوصول إلى قلب واشنطن، هو أنّها تشبه قليلاً وسط بيروت، مع اختلاف عمرانيّ، فالشوارع هنا أوسع والمساحات أكبر. ربما هذا ما دفعني لاحقاً للتفكير بالشهيد رفيق الحريري. ربما حلم يوماً ما بأن يحوّل لبنان إلى وطن حضاريّ وحقيقي. يبدو الوطن مغتالاً مرّة أخرى. يأتي هذه المرة على صورة مكان مجهض لم يسعه رحم الصراعات الإقليمية والنزاعات الوطنية وامتداداتها الدوليّة.
السؤال الآخر الذي يلحّ عليّ الآن، أثناء الكتابة، هو: ماذا أريد أن أشارك الآخرين من هذه التجربة، ومن هم هؤلاء الآخرون؟ من هم اللّبنانيون؟ هل أنا منهم؟ هل هناك أقليّة ما تشكّل رواية هذا الوطن، أقليّة لا تأبه بالحروب العبثية وتحلم بمجتمع مدنيّ ونظام ودولة وأمن واستقرار ومياه نظيفة وكهرباء على مدى الأربع وعشرين ساعة. أقليّة لا تأبه بالخطابات الوطنية التي تسترسل بها طبقة سياسية فاسدة، أقليّة تصمّ آذانها للترهات عن الوحدة الوطنية والعيش المشترك والتكاذب.
لبناننا، نحن من نريد أن نعيش ومن ندرك أنّ الحياة أقصر من أن نمضيها في النزاعات المقيتة، هو ذلك المتعلّق بالتفاصيل اليومية والحياتية، بحفظ جماله وتطوير إرثه الثقافي والحضاري. وربما يتعارض ما أذكره هنا عن خلاصتي بأنّني لا أحتاج وطناً. لكن لديّ تفسير لاحق لذلك. وما أريد أن أبدأ به هو الكتابة عن أميركا وسؤال الفردية ومفهوم السلطة، وفقاً لمشاهدات قليلة خلال الأسبوع الذي قضيته هناك.
يتبع…

السابق
اشادة فرنسية بالاتفاق الثنائي بين الجيش وفرنسا
التالي
واشنطن على علاتها تُمسِك مجدّداً بأوراق المنطقة