عنصرية هناك، «داعشية» هنا

ما هو الرابط بين العنصرية في أميركا، التي تتجلى في قتل البوليس لشبان سود من دون مبرر، وبين التعذيب الذي تمارسه قوى أمنية أميركية من الـ «سي. آي. أي» والجيش في الخارج. في الداخل عنصرية، وفي الخارج تعذيب، وفي كلتا الحالتين يصرخ الأميركيون الليبراليون، ويقولون: أهذا نحن؟ أهذا ما نعتقد أننا يجب أن نكون عليه؟ يؤكدون على استثنائيتهم وتميزهم عن بقية العالم ثم يناقضون أنفسهم بالتساؤل والاحتجاجات التي يعتبرونها مخالفة لخصائص وطنهم أو أمتهم.

لا يدركون أن هذه المعتقدات بذاتها هي مصدر العنف غير المبرر. الاعتقاد بأنهم متفوقون على العالم الآخر، وكل ما هو خارج أميركا هو في عداد «الآخر»، وأن هذا التفوق الأخلاقي والمعنوي هو ما يجعلهم مختلفين وهو ما يضعهم على «قمة الجبل» بالنسبة للآخرين، حسب التعبير الذي استخدمه أول خطيب قاد جماعة من المهاجرين البريطانيين إلى شمال أميركا، وذلك في عشرينيات القرن الـ 17. تراكمت فوق هذه الميثولوجيا شرائح من إيديولوجيا التفوق حيث يسود الاعتقاد عن الذات بأنها الأكثر حرية والأكثر أخلاقية والأكثر صواباً في هذا العالم. ويعتقدون بالتالي أنهم الأفضل في هذا العالم، وبناء عليه فهم يحق لهم التصرف في كل بلد آخر في العالم. جيوشهم منتشرة في كل أنحاء العالم. وزارة الدفاع عندهم تقسم العالم إلى 7 مناطق، في كل منطقة قسم من الجيش الأميركي وقيادة تقرر السياسة الخارجية الأميركية بغض النظر عن وزارة الخارجية. بالمناسبة، لعبة الفوتبول الأميركية لا يمارسها غيرهم، لكن البطولة في كل عام يسمونها بطولة العالم. كل ما يحدث في العالم، حتى في الأماكن الأكثر نأياً يمس المصالح الأميركية في العالم.
ربما استطعنا تفسير العنصرية والتعذيب عندهم بالقوة. هم الأقوى في هذا العالم، وبالتالي يستطيعون أن يتصرفوا بشعبهم وبشعوب العالم كما يشاؤون. أما نحن في لبنان وغيره من الأقطار العربية، فإن العنصرية عندنا، كما الاستبداد والتعذيب وشتى أنواع الممارسات اللاإنسانية، فهي ربما تفوق ما عند الأميركيين. يستطيعون انتخاب رئيس من غير أبناء جلدة الأكثرية عندهم، أما نحن فلا نستطيع انتخاب رئيس من أي نوع كان. والسبب هو العجز. الضعف مصدر عنصريتنا والقوة مصدر عنصريتهم. فهل تتساوى هذه وتلك؟ من ساواك بنفسه فما ظلم. لكن علينا أن نقسو على أنفسنا، وأن نظلم أنفسنا بالبحث والسؤال عن مصادر العنصرية والتعذيب في مجتمعنا. قضى الأميركيون وقتاً طويلاً في تطهير أنفسهم وهماً بأن مساوئ الجنس البشري تقع على عاتق الآخرين، وهم بالتالي غير مسؤولين إلا عن إصلاح هذا العالم ولو بالحرب والتدمير وتحويل أقطار بأكملها إلى صحراء مجدبة.
لدينا «داعش» وأخواته. والعيب ليس فيه وحده. في كل طائفة «داعش»، وفي كل ذات منا «داعش» صغير. تأسس «داعش» و «القاعدة»، وغيرهما، على الاعتقاد بأن ما يقولونه هو كلام الله، وبأن ما يمارسونه هو شريعة الله. صحيح أنهم يستخدمون تكنولوجيا الغرب، ويأكلون منتجات الغرب، ويوصون الواقعين تحت سلطتهم بأنظمة غذائية مستوردة. لكن الاعتقاد بامتلاك الحقيقة ـ وأسوأ الاعتقادات أن الحقيقة التي لدينا هي الحقيقة الإلهية ـ هو شيء نابع من مجتمعنا ومن تراثنا. المذابح التي ترتكب لا تقتصر عليهم ولا على المرحلة الراهنة. في كل مراحل تاريخنا، ارتكبت مذابح مشابهة؛ ولم تكن جميعها دفاعاً عن النفس.
مشكلة الأميركيين أنهم لم يتفوقوا على أنفسهم. قضى نظامهم بالتفوق على العالم. مشكلتنا في هذا المجال أكبر. لا نستطيع التفوق على أنفسنا إلا بالنقد الجذري لمجتمعنا. ذلك يقتضي أن لا تقتصر السياسة على السطح الاجتماعي السياسي وعلى الصراع من أجل السلطة. السياسة هي فن التسوية، والدولة إطار ناظم للمجتمع ولتراكم التسويات. نزلت الجماهير العربية إلى الميادين لممارسة السياسة، لكننا حتى الآن ألقينا الملامة على الاستبداد. ولم نستطع الدخول إلى غور المجتمع لممارسة السياسة الأعمق والتي تتعلق بالمجتمع وممارسته تجاه نفسه.
عنصريتهم مصدرها القوة. «داعشيتنا» مصدرها الضعف. والتعذيب واحد.

السابق
ماذا كتب جعجع لإليسا؟
التالي
تداوُرٌ قد يكون ضاراً