الأمة المفجوعة: العرب وزمن الخسائر

يحار المرء كيف يصف أحوال العرب في زمنهم الراهن، وسط انسداد لا يشي بأي بارقة أمل مع كل الخراب المحيط بهم. ما عاد لهم هوية عروبية جامعة ومشروع سياسي قومي مشترك؛ خسروا قضاياهم الكبرى بعدما ضحوا بقضيتهم الأم فلسطين على مذبح الرهانات الخاسرة. أفاقوا إثر ثورات ربيعية مخطوفة على مآزق متجذرة في المجتمع والسياسة والدين. فجر الحراك الاحتجاجي المكبوت التاريخي، فظهرت المذهبيات والسلفيات والإقصاء السياسي والعفن المتراكم منذ عقود. لم تستطع بنى الاستبداد السياسي والديني والمجتمعي إخفاء الفشل، فتحولت إلى حاضنة للطغيان.

على مدار خريطة العالم العربي لا شيء يستدعي التفاؤل؛ تصاعد غير مسبوق للعنف في العراق وسوريا واليمن وليبيا ودول أخرى، ودعوات إلى الانفصال ورجحان كفة التفكك والتجزئة. حال الإسلام ليس أفضل من عروبتهم، هو على صورتهم تطحنه الأصوليات والجماعات المذهبية الرافضة للعيش والتعايش مع الآخر، والمحكومة بدورها بخط التصدع المشتعل في الإقليم. هذا عن الإسلام العربي. فماذا عن الاستقرار السياسي والأمني في ديار العرب؟
في تقرير نشرته «مؤسسة مابلكروفت» (Maplecroft) البريطانية العام 2013 بناءً على تقويم درجة المخاطر في 197 دولة، وذلك بالقياس على خمسين مؤشراً مثل: سيادة القانون، والعنف السياسي بما في ذلك الإرهاب، وبيئة الاقتصاد الكلي، ونزع الملكية، وتأميم الموارد واستقرار النظام، والتنوع الاقتصادي، وحقوق الإنسان، وأمن الموارد، تحتل الدول العربية أرقاماً قياسية لجهة عدم الاستقرار السياسي والأمني. بينت النتائج أنه لا يوجد دولة عربية واحدة تدخل ضمن الدولة المستقرة؛ تسع دول تقع ضمن الدول متوسطة الاستقرار، واللافت أن هذه الدول باستثناء دولتين (المغرب والسعودية) تقع ضمن الدول الصغرى، ويشكل مجموع سكانها 24 في المئة من مجموع سكان الوطن العربي. ذلك يعني أن 76 في المئة من العرب يعيشون في دول تُعد غير مستقرة بنسبة عالية أو عالية جداً، وحيث أن عوامل عدم الاستقرار هي عوامل هيكلية، لا يمكن التخلص منها في فترات زمنية قصيرة، فإن عدم الاستقرار سيتواصل وبأشكال مختلفة، ويمكن أن يمتد من الدول العالية أو العالية جداً إلى الدول المتوسطة بفعل عوامل الاستطراق (أي الانتشار) السياسي والاجتماعي والاقتصادي. مؤشرات التقرير المذكور حول توصيف عدم الاستقرار ترواحت بين متوسط، وعالٍ، وعالٍ جداً، وقد طاولت الدول العربية كلها، من بينها على سبيل المثال: الأردن متوسط الترتيب الدولي بين 197 دولة في عدم الاستقرار (99)، البحرين متوسط الترتيب (86)، تونس متوسط ترتيبها (93)، سوريا عالٍ جداً ترتيبها (9)، السعودية متوسط ترتيبها (89)، السودان عالٍ جداً ترتيبها (3)، العراق عالٍ جداً في المرتبة السابعة، لبنان عالٍ في المرتبة (42)، ليبيا عالٍ جداً في المرتبة السادسة، مصر عالٍ في المرتبة (27)، موريتانيا عالٍ في المرتبة (98)، اليمن عالٍ جداً في المرتبة العاشرة (الوطن العربي مزيد من التفكك، وليد عبدالحي، موقع الجزيرة للدراسات، 13 كانون الثاني، 2014).
تبرهن المؤشرات أعلاه على وضع أمني خطر جداً، وتؤشر إلى أزمة عميقة في هيكلية الأنظمة العربية، هي نتاج التداعيات الكارثية لفشل مشروع بناء دولة الحداثة بعد حقبة الاستقلالات، والتي تنهض ركائزها على المواطنَة، وسيادة القانون، ومكافحة الفقر والأمية، وحماية الحريات، وحقوق الإنسان، واحترام التعددية، وحق المعرفة، والفصل بين الديني والسياسي، والمحاسبة السياسية، والديموقراطية، وشفافية الانتخابات.
تفاعل الفشل السياسي في السنوات التي أعقبت حركات الاحتجاج العربي، فطفت على السطح كل العوامل التاريخية المسببة للعجز عن إدارة شؤون الدولة والمجتمع. الدول التي شهدت «ثورات ربيعية»، تشتد قبضتها الأمنية عمّا كانت عليه في السابق، فأصبحت كلها في مواجهة فوبيا الإرهاب، وقد انتقلت عدوة الأمن العسكري القابض إلى دول كانت بمنأى عن حركات الاحتجاج، وإن عرفت هي الأخرى حراكاً للمعارضة بشكل مستور قابله قمع شديد، حاولت السلطات القائمة هضمه عبر اجراءات إصلاحية مبتورة لا تصل إلى مستوى التحديات الداخلية ومتطلبات الإصلاح السياسي.
يطرح المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889 ـ 1975) أنموذج التحدي والاستجابة في تشريحه لانهيار الحضارات. يضعنا فشل العرب وأنظمتهم والأزمات الهيكلية المتراكمة أمام مشهد درامي: أمة عربية مفجوعة، دخلت في حداد عام قبل حقبة التفكك.
آلت «الثورات العربية» والاضطرابات الأمنية المصاحبة لها إلى توطيد النزعات الانفصالية على المستويين المذهبي والإثني. طرحت القضية الكردية بشكل أعمق بعدما أصبح لها كيان شبه منفصل في كردستان العراق، تعزز حضوره إثر سيطرة ما يسمى «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» على أجزاء من الأراضي العراقية، من دون أن ننسى الانفصال التام لجنوب السودان وإعلان استقلاله الكامل كدولة في 9 تموز 2011. إلى ذلك يحمل التوتر المتصاعد السُنّي الشيعي (بين النواصب والروافض) نزعات انفصالية كيانية أعمق، يرافقه انزلاق جارف نحو «عسكرة الطوائف» تبدَّى بصوره الأشد صلابة ودموية في العراق وسوريا، خصوصاً بعد تفجر الصاعق الجهادي الداعشي التكفيري.
يرسم الدين وحروبه خريطة العالم العربي؛ لم يكنْ إسلام العرب على هذا المستوى من التخندق المذهبي في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم. عاشت المجتمعات في إطار إسلام شعبي، مسالم ومحافظ، من دون غلو في مظاهر التعبد والإيمان، وإقصاء للآخر وتكفيره بدعوى أحقية النطق باسم المقدس. تدهور حال المسلمين العرب، وطبعت الحركات الأصولية في إيديولوجياتها مجمل أفراد المجتمع، فأسست بمنظورها لخزعبلات يؤخذ بها الجمهور الذي تنتشر فيه الأمية الثقافية. ليس الموروث الديني والثقافي وحده المسؤول، وطد الاستبداد السياسي، والخسائر القومية، والفساد، والطغيان، وغياب العدالة الاجتماعية، الضعف في البنيان كله.
العرب في حقبة العدمية السياسية. عالم خارج حركة التاريخ، ميؤوس منه. كل شيء يدور حولنا يدفع إلى القول إن «أمة العرب» تسير بخطى متسارعة نحو الانتحار الحضاري، أمة قضمها عسكريون وإسلاميون متطرفون، وطغاة مقنعون، ودعاة الإيديولوجيات الهدامة، يديرون شؤون الدولة والمجتمع بعقلية القبائل والعشائر والطوائف. فهل تقوم لنا قائمة؟

http://assafir.com/Article/18/389056

السابق
بالفيديو: أكثر من 800 ألف مشاهدة لطفلة تمنع أمها من النوم بطرق غريبة!
التالي
3419 مهاجرا قضوا في البحر المتوسط عام 2014