ملاجئ السوريين.. من المخيّمات إلى الكاريبي

تجوب سيارة المحامي بعض شوارع العاصمة دمشق، بعد الثانية عشرة من منتصف الليل بقليل. نبض السهر ما زال مسموعا في هذا الجانب من المدينة. مقاهي طريق مدفّأة، ومطاعم بواجهات بلّورية يحدق منها الساهرون بالسيارات العابرة، ويبادلهم المارون النظرات.

أغنية نصري شمس الدين في مذياع السيارة، تذكر المحامي بقضايا تتصدر مكتبه كل صباح. «سرقو الليل، وسرقو القمر، بيقولولي هاجر، شو ناطر»، يتهكم فيما السيارة تتابع سيرها «ناطر الفيزا، شو ناطر؟».
يوما بعد يوم يصبح السفر أكثر صعوبة بالنسبة إلى السوريين، ولا سيما الفقراء منهم، أو من يُعرفون بقليلي الحيلة. والحيلة كلمة مناسبة هنا، لأنها الطريقة التي وجد فيها عشرات الأثرياء السوريين مفتاحاً إلى مطارات العالم، من دون الحاجة للتوسل على أبواب سفارات أوروبا وأميركا والخليج.
يقول المحامي، الذي فضل عدم ذكر اسمه، إن «الضال لا يضيع بعد السؤال»، هكذا وجد رجال الأعمال والأثرياء الراغبون في حل معضلة التنقل خارج سوريا، سواء للعمل أو لتهيئة ملاذات آمنة لهم ولأسرهم، شقوقا في الجدار.
والوجهة هذه المرة هي الكاريبي، إلى دولة لم يسبق لكثيرين أن اعتقدوا أنها موجودة، لكن شريحة من السوريين باتت تعرفها جيدا. «سين كيتس أند نيفي» هي جزيرة في أميركا الشمالية بمساحة تقارب 100 ألف كيلومتر مربع، وبعدد سكان لا يتجاوز 13 ألف شخص، منحت الراغبين في حرية تنقل أكبر، والهاربين من أزمات بلادهم أو القوانين أحيانا، فرصة الحصول على وثيقة سفرها، التي تسمح بالدخول إلى غالبية الدول، عدا الولايات المتحدة، لكن من دون أن يكون الحصول على فيزا أميركية صعباً هو الآخر.
ويوضح المحامي أن القضية «سهلة»، لكنها محصورة بالقادرين على دفع مبالغ كبيرة، تتراوح بين 250 الفا إلى 400 ألف دولار، كمعبر للحصول على الجنسية وجواز السفر.
ويستهدف القانون الذي ابتدعته أصغر دولة معترف بها في محيط أميركا الشمالية، تنشيط الحركة الاقتصادية في الجزيرة، وتعويمها كملجأ للمستثمرين، وهؤلاء بدورهم، ولا سيما السوريين منهم، يحتاجون إلى هوية جديدة لا تثير ريبة موظفي الهجرة والجوازات في العالم.
ووفقا للمحامي فان على الراغب أن يشتري قطعة ارض بمبلغ 400 ألف دولار، يمكنه بيعها بعد أربع سنوات، وبموجبها يحصل على وثيقة سفر صالحة لعشر سنوات، أو «التبرع» بمبلغ 250 ألف دولار للشخص الواحد مقابل الوثيقة، على أن يصاحبها 50 ألف دولار إضافي لكل فرد من أفراد العائلة الآخرين، مع الإشارة إلى أن أتعاب وكلفة المعاملة التي تستغرق عدة أسابيع تبلغ 50 ألفا هي الأخرى.
ويرى المحامي أن هذه الدولة الصغيرة وفرت للسوريين الأثرياء فرصة أقل كلفة من باقي الدول، فعلى سبيل المثال وجدت اسبانيا فرصة لاجتذاب الراغبين في الحصول على إقامات أوروبية، باشتراع قانون ينص على منحها بشكل دائم لكل فرد يشتري عقارا بنصف مليون يورو.
ووفقا لما اطلعت عليه « السفير» فإن بين من تقدم لهذه الفرصة أيضا بعض السوريين من الأثرياء جداً، إضافة إلى رجال أعمال صينيين وروس وبعض العرب. وتمنح الإقامة الدائمة الاسبانية صاحبها فرصة العمل الدائم، كما حرية التنقل في أوروبا، لكنها لا تسمح له بالتقدم إلى الجنسية أو الحصول على ضمان صحي. وتعكف دول أوروبية أخرى تعاني ضائقة اقتصادية إلى استثمار أمر مشابه، ويجتهد قانونيون في معرفة «نوعية الزبائن» التي يمكنها الاستفادة منه.
ووفقا لمحام آخر، يقدم المشورة بهذه القضايا، سمحت هذه الإجراءات بتعدي احتكار دولة الإمارات لهذه القضية، علما بأن الحصول على إقامة عمل في دولة الإمارات كان يكلف بحدود 20 ألف دولار في بداية الأزمة السورية. ومشكلة الأخيرة أنها لا توفر لحاملها حرية التنقل في العالم، ولا تفتح آفاقا أجنبية له، كما لا يستطيع صاحبها أن يحلم يوما بحقوق المواطن الإماراتي.
لكن بعيدا عن مناطق جبل علي وشركات دبي وابو ظبي التي أسست لهذه الغاية فقط، وعلى مسافة من سماسرة الإقامات الفارهة حول العالم، ثمة سماسرة آخرون يعملون على زبائن اقل قدرة، يقودهم اليأس والبحث عن أفق للحياة بشكل أساسي للهرب.
ثمة قصة رواها حفيد مهاجر الحلبي، لـ»السفير»، منذ عدة سنوات عن جده الذي هاجر من سوريا في زمن «سفر برلك» هربا من الأتراك والخدمة الإلزامية باحثا عن أفق في الولايات المتحدة.
على الباخرة في إيطاليا باعه أحد السماسرة اللبنانيين جواز سفر ايطاليا مزورا، أوصله ليس إلى نيويورك كما ظن وغالبية راكبي الباخرة البخارية، وإنما إلى شواطئ بوينس ايرس في الأرجنتين.
ويضحك المحامي على «الزمن الذي لم يتغير بعد مئة عام»، حين يروي حادثة جرت منذ ايام مع أحد معارفه، الذي حصل لابنه على جواز سفر هولندي مزور في لبنان، وأرسله في طائرة هجرة من دون عودة إلى أوروبا. «لا الرغبة بالهجرة توقفت بعد مئة عام، ولا سماسرتها سيتبخرون»، كما أن عملهم لن يتأثر، فالشاب السوري الذي اكتشف جوازه المزور أعيد للبنان بعد فترة سجن قصيرة، على أمل الحصول على جواز جنسية أوروبية أخرى وإعادة التجربة.
كلفة الجواز 10 آلاف دولار، تضاف إليها كلفة السفر، وتحضيراته، لكن يبقي صاحبه إلى حد ما «مديرا ومسيطرا» على مصيره، على عكس حالة الأسر والأشخاص التي باعت كل ما تمتلك كي تحصل على منفذ نحو أوروبا.
لكن ثمة خيارا آخر، قبل الوصول إلى درجة السلم الأخطر، وهو منفذ ابتدعته الحاجة. أحد الشبان السوريين، الذين حصلوا على جنسية أميركية لاتينية منذ فترة قريبة، اضطر للبحث في صندوق بريد والده ليصل إلى أحد أجداده ممن حملوا الجنسية الأرجنتينية كي يبدأ رحلة الحصول على «تركته» منها. ويقول إن «المعاملة اختلفت طبعا، حين يبرز جواز سفره الأجنبي أمام موظف الجوازات في الخليج. فنحن قبل ذلك لم يكن ممكنا أن ندخل الإمارات أو باقي دول الخليج بجواز سفرنا السوري من دون توسط أحد النافذين».
هو الشخص ذاته الذي حاول الحصول على إذن سفر إلى دبي، قبل أشهر من دون جدوى، يدخل الآن من دون أن ينظر موظف الجوازات بعينيه. لكن حكومات البرازيل والأرجنتين، التي يقدر عدد مواطنيها السوريي الأصل بالملايين، انتبهت مؤخرا للعبء الذي يمكن أن تؤدي إليه هذه الظاهرة، فبدأت بتعقيد إجراءات الحصول على تأشيرة دخول في وجه السوريين، قبل كل شيء.
ومع ازدياد الأبواب المغلقة، يجد من نفدت فرصه، أن ركب البواخر وصولا إلى تمزيق الجواز عند ملامسة اليابسة، وطلب اللجوء، هي الحل المتبقي، وذلك في حال الوصول بسلام.
ووفقا للمفوضية العامة للاجئين ارتفع معدل اللجوء إلى أوروبا في ظرف عامين ما يزيد على 10 أضعاف. وأوضح تقرير سابق لها أن «6400 سوري قدموا طلبات لجوء في كل أنحاء أوروبا في العام 2011، و23400 في العام 2012، و51500 في العام 2013، و30700 من كانون الثاني إلى أيار العام 2014». وتعد البلدان الأكثر استقبالاً للاجئين في أوروبا السويد، وألمانيا، وبلغاريا، وسويسرا، وهولندا، وتستقبل 70 في المئة من الوافدين تقريباً.
وأشار التقرير إلى أن «عدد السوريين الوافدين إلى أوروبا عبر البحر في العام 2013 ارتفع. ويشكّل السوريون إحدى أبرز الجنسيات من بين الذين يتم إنقاذهم في البحر المتوسط (11307 في إيطاليا وحدها في العام 2013)، في حين فقد 1900 شخص حياتهم حتى بداية الصيف الماضي.
ولا يعاني السوريون صعوبة الوصول إلى بر النجاة فقط، بل ينافسهم لاجئون كثر، من الدول العربية وأفريقيا.
في الفندق الرخيص في شارع الحمرا في بيروت، يسأل أحد الزبائن السوريين إن كانت إجراءات الحدود المعقدة والقاسية الأخيرة على مواطنيه، قد أضّرت بعمل الفندق، ولا سيما أن معظم شاغليه كانوا من السوريين. ترد موظفة الاستقبال بابتسامة عريضة «لا أبدا. الفندق امتلأ مؤخراً بالعراقيين».
تثبت المفوضية ما ألمحت إليه موظفة الفندق. ووفقا لتقرير صدر مؤخرا فإن الحرب في سوريا والعراق، وانعدام الاستقرار في مناطق أخرى، دفعا مزيداً من الناس إلى طلب اللجوء في الدول الغنيّة، بحيث وصلت طلبات اللجوء في العام 2014 إلى مستوى قياسي لم تبلغه منذ 20 عاماً.
وقالت المفوضية إن نحو 330 ألف شخص طلبوا اللجوء إلى 44 دولة صناعية في النصف الأول من العام الحالي، بزيادة قدرها 24 في المئة تقريباً، مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، مشيرة إلى أنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه يمكن أن يصل عدد طالبي اللجوء إلى 700 ألف في العام 2014.
وتعد تكلفة الخروج من سوريا نحو أوروبا حوالي خمسة آلاف دولار، يعمل عليها سماسرة وتجار، عبر تركيا والجزائر ولبنان، فيما تصل كلفة الهرب عبر تركيا 12 ألف يورو في بعض الحالات.
أما تجارة جوازات السفر المربحة، فتعد بأن تصل إلى الذروة، خصوصا أنها بدأت تنتشر بين العراقيين أيضا، ولا سيما الأكراد الأثرياء.
«يكفي أن تفتح ثقباً حتى يصبح نافذة. كيف يمكن لوم من يرغب في حياة لا تعترضها حرب كل عدة سنوات على المحاولة؟» يقول القانوني، فيما برد دمشق يشتد، وشمس الدين يتابع أغنيته «ببلاد لنا غربونا، عن لون السما غربونا، ورق الذل زهر عالشجر سرقوا الليل وسرقوا القمر. بيقولولي هاجر شو ناطر».

السابق
نجاة طفلة من الموت بعد دفنها لمدة ساعتين
التالي
غوغل تطوّر تقنية لمُحاربة مرض السرطان