العلمنة… والدولة… والعلم

ما الذي يجمع بين هذه المفاهيم الثلاثة؟ كلها مفاهيم دنيوية في أصلها، ومعنية قبل أي شيء آخر بفهم وتدبر، وتدبير أحوال الدنيا والعالم، وما يمكن أن تتمخض عنه، وما يمكن أن تؤول إليه. قبل المضي في ذلك يبرز سؤال ذو علاقة مباشرة: تاريخياً أيها جاء قبل الآخر: الدولة؟ أم العلمنة؟ أم العلم؟ أنا أفترض أن العلمنة أقدم هذه المفاهيم الثلاثة، وهي المتغير الذي وسم التطورات التي حصلت للإنسان وللمجتمع الإنساني منذ القدم، وأدت في الأخير إلى ظهور الدولة أولاً، ثم العلم بعد ذلك. يقول لنا تاريخ الفكر الإنساني إن العلم هو آخر ما وصل إليه هذا الفكر في تجلياته. والثابت وفقاً لهذا التاريخ، حتى الآن على الأقل، أن الإنسان، ومعه المجتمع الإنساني، انتقل من مرحلة السحر والخرافة إلى مرحلة الدين والتوحيد، ثم مرحلة الفلسفة، وأخيراً مرحلة العلم. والمقصود بالعلم هنا العلم بمعناه المنهجي الحديث. ولعل من الواضح أن هذا التحول المتدرج الذي بدأ بالخرافة لينتهي بالعلم ينطوي على مسار علمنة متدرجة أيضاً، لكنها متصلة وتصاعدية. في الوقت نفسه لم يؤدِّ هذا التحول المعلمن، ولا ينبغي له أن يؤدي إلى أن ظهور مرحلة بعينها (الدين، والفلسفة، ثم العلم) يتطلب القضاء على المرحلة التي قبلها ومسحها من التاريخ. كما أنه لم يمنع، ولا ينبغي له أن يمنع ظهور مرحلة تالية لمرحلة سابقة. فالسحر والخرافة، مثلاً، لا يزالان موجودين، لكن هيمنتهما تعرضت في الثقافة الإنسانية لعملية إزاحة كبيرة. بناء على هذا المسار يصبح من الواضح أن العلم هو آخر ما ظهر في سلسلة العلاقة بين المفاهيم الثلاثة المذكورة.

بهذا المعنى، هل سبق ظهور الدولة تاريخياً ظهور العلم؟ هذا يعتمد على ماذا نقصد بالدولة، وماذا نقصد بالعلم؟ ذلك أن كلاً منهما مر عبر التاريخ بتطورات كبيرة. بالنسبة الى الدولة هناك شبه اتفاق على أنها في مبتدئها تطور لاحق في تاريخ المجتمع الإنساني، وما مر به من تحولات. وهناك ما يشبه الإجماع بين مختلف التيارات على أن ظهور الدولة جاء نتيجة انقسام المجتمع إلى جماعات وطبقات وفئات، وإلى ما بين هذه من اختلافات رؤى ومفاهيم، وصراع مصالح. ينظر إلى ظهور الدولة على أنه نتيجة طبيعية لهذا السياق. فهو لضبط التدافع، وتقنين الصراع، وذلك لمنعه من التحول إلى حال اقتتال تنسف أمن المجتمع واستقراره. هذا ما قال به فقهاء ومؤرخو الإسلام الأوائل، أصحاب العقد الاجتماعي مع بداية التنوير في أوروبا، وما قال به فيلسوف الصراع الطبقي كارل ماركس في القرن الـ19. كل هؤلاء قالوا الشيء نفسه تقريباً، لكن كل من زاوية مختلفة. ينقل مثلاً عن علي بن أبي طالب أنه عندما رفع الخوارج بعد حادثة التحكيم شعار «لا حكم إلا لله»، كان جوابه على ذلك بأن ما يقوله هؤلاء أنه «لا إمرة»، في حين أنه «لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع بها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ فيه للقوي من الضعيف، وحتى يستريح بر، ويستراح به من فاجر».

اللافت في مقولة الخليفة الراشدي الرابع أمران مهمان: الأول أن حال التدافع والصراع تفرض أن يكون هناك أمير لضبط هذه الحال لمصلحة الجميع، بما في ذلك الكافر والمؤمن معاً. والأمر الثاني شمولية السلطة، أو سلطة الدولة في هذه المقولة المبكرة من صدر الإسلام. وأكثر ما يلفت فيها هو أن الحاجة الى الدولة تنبع في الأساس من متطلبات وضرورات دنيوية، أو علمانية وفق تعريفنا في مقالة الأسبوع الماضي. قارن ما قاله علي بما قاله قبله الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب. إذ يروى عن تميم الداري أن عمراً قال يوماً: «يا معشر العريب (بضم العين وتسكين الراء، وتشديد الياء المفتوحة)… الأرض… الأرض. لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة». ما يقوله عمر أنه لا وجود للإسلام من دون الجماعة، وسلطة تخضع لها هذه الجماعة. وهذا لا يؤكد تداخل الديني والسياسي وحسب، وإنما يؤكد ما هو أكثر من ذلك. ومن بين ما يؤكده أيضاً أن ظهور الإسلام حصل في وقت وصل فيه المجتمع والدولة معاً إلى مرحلة متقدمة، بحيث أن وجود أحدهما بات ضرورة لوجود الآخر. وهذا ما تشير إليه مفردة «طاعة» في مقولة عمر. وهي مفردة تنطوي على آلية لضبط الاختلافات والصراعات في مجتمع منقسم ومتعدد بين فئات وطبقات مختلفة. ومن دون هذه الآلية والقبول بها يصبح وجود الإمارة والجماعة، بل ووجود الإسلام نفسه مهدداً. وفي هذا تأكيد على تداخل الديني والعلماني أيضاً، وذلك على اعتبار أن كلاً من الجماعة والإمارة أو السلطة شأن دنيوي.

يقول الماوردي، صاحب الأحكام السلطانية، إن «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا». اعتباره أن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة يشير إلى أنه يتحدث عن التجربة الإسلامية حصراً. ومن ثم إذا كانت النبوة شأناً دينياً مرتبطاً مباشرة بالسماء، فإن ما سيخلفها شأن دنيوي مرتبط بالأرض. ولذلك فالإمامة، أو الخلافة، كأداة دنيوية هي «لحراسة الدين، وسياسة الدنيا». هل هي واجبة عقلاً أم شرعاً؟ يقول الماوردي إنه حصل انقسام حول هذه المسألة. من يرى أنها واجبة عقلاً ينطلق في موقفه «مما في طباع العقلاء في التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم…». لاحظ هنا ارتباط نشأة الدولة بالانقسام والصراع. ومع أن من يقولون إنها واجبة شرعاً ينطلقون في قولهم من أن الشرع فوّض الأمور إلى وليه في الدين، كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، إلا أن أحاديث طاعة ولي الأمر تنطلق من ضرورة تجنب الفتنة. وفي هذا تغليب لدور السلطة في ضبط الصراع، وإعطاء الأولوية له في مقابل تقويض هذا الدور لمصالح أخرى.

والمشهور عن ابن خلدون أنه ربط ظهور الدولة في مقدمته بتضافر العصبية والدعوة (الدين) معاً. لكن الكاتب المغربي عبدالله العروي لاحظ، عن حق، أن العصبية «عامل سياسي دنيوي»، بالنسبة الى ابن خلدون هي الأهم، والعامل الحاسم من هذه الزاوية، وأن الدعوة لا تزيد العصبية إلا قوة، لكنها ليست بديلاً منها، ولا تحل محلها.
وقريباً مما قاله الفقهاء الإسلاميون الأوائل قال به فلاسفة العقد الاجتماعي في وقت لاحق، وإن من منطلق مختلف، ولأهداف مختلفة أيضاً. إذ يعتبر هؤلاء أن ظهور الدولة كان الآلية التي انتقل بها المجتمع مما سمّوه بـ «الحال الطبيعية»، حيث الفوضى وتفشي الصراعات والحروب، إلى «الحال الاجتماعية»، حيث السلطة والنظام والأمن. أحد هؤلاء كان توماس هوبز، وهو محافظ، ويبدو رأيه في سلطة الدولة وحدودها قريباً من رأي المدرسة السلفية. فلأنه كان يخاف من الفوضى أكثر من خوفه من الطغيان، كان رأيه أن سلطات الدولة يجب أن تكون مطلقة. والفوضى (anarchy) مرادفة لمفردة «الفتنة» التي يخشى منها الفقهاء المسلمون، خصوصاً السلفيين منهم.

ما الذي يمكن استنتاجه من الملاحظات السابقة؟ إن ظهور الدولة، باعتبارها مؤسسة معنية بالشأن الدنيوي، إنما جاء نتيجة لعملية علمنة متراكمة، إذ كان الانقسام والصراع أبرز معالم هذه العملية. واللافت في هذا السياق أن الدولة الدينية كانت مع الوقت تصبح هي الاستثناء. حتى في الإسلام كانت الخلافة الراشدة، كأقرب ما تكون الى الدولة الدينية، استثناء لافتاً، لم يستمر لأكثر من ثلاثة عقود. الأمر نفسه يقال عن العلم. فالعلم باعتباره منهج تفكير، وطريقة في الرؤية، وعبر المراحل الطويلة التي مر بها هو أيضاً كان نتيجة لعلمنة ما فتئت تفعل فعلها في حياة المجتمعات، وفي طريقة تفكير البشر عن حياتهم، وأحوالهم، أو عن الكون الذي ينتمون إليه. وقد وصلت العلمنة إلى ذروتها في الدولة العلمانية في أوروبا الحديثة، ثم في تركيا الإسلامية في بدايات القرن الماضي. ومؤدى ذلك أن العلمنة كمفهوم، وكعملية تاريخية واجتماعية، سابقة على الدولة، وعلى العلم. بل هي المحرك الأقوى للتاريخ، وليس الصراع الطبقي كما يقول ماركس. ذلك أن هذا الصراع جزء من علمية العلمنة، وليس منفصلاً عنها.

السابق
وهّاب مستاء من السفير السوري لتغييبه عن دعوة عشاء
التالي
معارك عنيفة بين ‘داعش’ والجيش السوري في مطار دير الزور