سعيد عقل: هكذا التقيْتُهُ… واضحكته

سعيد عقل
قال لي سعيد عقل بنبرة جهوريّة استعراضيّة: "حدَعْشَرْ عبقري من لبنان بالعالم" وعدَّدهم واحداً فواحداً... وأيضاً قال: "بدّك تقاتل إسرائيل تعا لعند سعيد عقل بيحطّلك خطّة من خمس نقاط بتزيل إسرائيل من الوجود". وما لفت نظري فعلاً – وقتها – أنّه عندما كان يتحدّث إلينا، كانت عيناه زائغتان إلى البعيد، إلى ما وراءنا تحديداً، وكأنه لم يوجّه كلامه إلينا أصلاً، وهذا ما ذكّرني – أثناءها – بقول الإمام علي(ع)، في إحدى وصاياه لابنه محمد بن الحنفيّة: "أُنظر إلى أقصى القوم...". وفي ختام حديثه قلتُ له: "بدّي حكيلك نكتة"، فقال لي: "هات تشوف"..

تميِّز سعيد عقل، كمبدعٍ عظيم، بأنّه عاش حياته الإبداعيّة والإنسانيّة على السَّواء، على أنه واحدٌ من أبطال الأساطير، لا يُضاهى، عنفواناً وكبرياء وعظمة ومجداً، لا يفوق الوصفَ فحسب، بل يفوقُ التصوُّرَ أيضاً. مِن هنا فإنه كان لا بدَّ له من أن يبوح بجوهر السِّرِّ المكنون لنظرته الرّؤيويّة والرُّؤياويّة معاً إلى عُمق أعماق ذاته، في إحدى هُنيهات انتشائه النّرجسيّ الباذخ الشّعور، بِنُدْرة فرادته وتَفَرُّده، بحيثُ أخذته ذروةُ ذُرَى انشداده إلى ناصية شطْحه المعهود، في تَوَتُّرهِ الأقصى، وهو في أعلى القمّة لِمآلِهِ الوجوديّ، فاندفع ليقول قولته “المروِّعة”: لسائلي أإلهٌ أنتَ!؟ قلتُ بَلَى”.

هذا، ولأنَّ موتَ الإله البشريّ – كبطلٍ لأسطورةٍ – هو الشَّرط الأعظم، وبصفته الشَّرط الأوحد لتخليد أسطورته الخاصّة، كان حتماً على الموت، أن يُخَلِّد فعلاً، الأسطورة السَّعقلانيّة، إحدى أساطير لبنان البشريّة دون منازع، بموت بطلها المتألِّه سعيد عقل، هو الذي يُحيلُ اسمه الطَّنَّان إحالةً مُسَدَّدةً وقاطعة إلى مفصلية إبداعيّة تاريخيّة، دامغة بعمق دلالاتها المتحرِّكة، من مفصليّات تاريخنا المعرفيّ الحي. ولقد التقيتُ شخصياً بسعيد عقل في مرّاتٍ ثلاث، ولقد كان لقائي الأوّل به، لقاءً “أثيريّاً”، إذا صحّ التّعبير، إذ إنه كان لقاءً بإسم سعيد عقل وتأثيره الثقافيّ المعنويّ، وكان ذلك في مطالع السبعينيات، عندما كنتُ طالباً في السّنة الثالثة من المرحلة التّكميليّة، في مدرسة برج حمّود الأولى الرسميّة، وكان مدرّسنا اللغة الفرنسيّة هو من بلدة بشرّي، ومن الدّعاة المتعصّبين، لنشر دعوة سعيد عقل، باعتمادِ المحكيّة اللبنانية وكتابتها بالحَرف اللاّتيني.

انطلاقاً من ذلك، فلقد أصرَّ ذاك الأستاذ، ومنذ مطلع ذلك العام الدِّراسيّ، وبالنِّسبة للمادّة التي يعطيها، على إجبارنا، نحن طلاّب صفّه، بأنْ يكتب كلّ طالبٍ وكلّ طالبةٍ منَّا، وبلغة سعيد عقل، الإسم الشخصيّ وتاريخ اليوم المحدّد للمادّة المُعطاة: على دفتر الفروض المدرسيّة، وعلى ورقة المسابقة الرسميّة، إضافة إلى كتابتهما على لوح الصَّف، مع تهديده لنا، إذا لم نفعل ذلك، بأنْ يحرمنا من علامتين على كلّ موضوع باللغة الفرنسيّة، علامةٌ على الإسم، وعلامةٌ على التاريخ. ولقد نَفَّذ تهديده هذا، لرفْضنا في البداية لهذا الأمر، رفْضاً قاطعاً، لكننا اضطررنا لأن نرضخ لإصراره، بعد مدّة وجيزة، لأن كلّ محاولاتنا مع إدارة المدرسة، في هذا الشأن باءتْ بالفشل الذّريع!؟ وكان لقائي الثاني بسعيد عقل، في “ملتقى الثلاثاء الثقافيّ”، الذي كنتُ أحد أعضائه الإداريين، والذي كان مقرّه الأساسيّ في صالون منزل سماحة العلاَّمة السيّد محمد حسن الأمين، في بئر العبد، حيث وبعد انتهاء إحدى النّدوات، وقف سعيد عقل قائلاً للحضور: “جَمْعُوا حالكُنْ تَشوف”، فأنصتْنا إليه، ولقد تحدّث في أشياء كثيرة منها أنه قال: “والله هون بالضاحية الجنوبية في ناس بتفهم… شيءٌ رائع فعلاً..” بس يا حرام هيدي الضاحية شقفة من لبنان بتشوف فيها زبالة بالطرقات…” وقال: “بتعرفوا شو هييّ شجرة “البورفير”، اللي بيتخذها الغرب، مثلاً أعلى له…” وأضاف شارحاً: “شجرة البورفير، بتتكوّن من العشب كائن أدنى، ثم يأتي الحيوان، كائن أعلى قليلاً ثم يفوقه الإنسان ككائنٍ أعلى” ثم استطرد وبصوت عالٍ: “بس هنّي بالغرب ما عندن الله، ونحن عناّ الله، وهو أعلى ما في الوجود، هوّي الأعلى المطلق”.

ثم تحدّث عن الحواس الخمس لدى الإنسان وأيّها تتقدَّم غيرها في القوّة”، ثم قال وبنبرة جهوريّة استعراضيّة: “حدَعْشَرْ عبقري من لبنان بالعالم” وعدَّدهم واحداً فواحداً… وأيضاً قال: “بدّك تقاتل إسرائيل تعا لعند سعيد عقل بيحطّلك خطّة من خمس نقاط بتزيل إسرائيل من الوجود”. وما لفت نظري فعلاً – وقتها – أنّه عندما كان يتحدّث إلينا، كانت عيناه زائغتان إلى البعيد، إلى ما ورائنا تحديداً، وكأنه لم يوجّه كلامه إلينا أصلاً، وهذا ما ذكّرني – أثناءها – بقول الإمام علي(ع)، في إحدى وصاياه لابنه محمد بن الحنفيّة: “أُنظر إلى أقصى القوم…”. وفي ختام حديثه قلتُ له: “بدّي حكيلك نكتة”، فقال لي:  “هات تشوف”، قلتُ: “دخل شخص إلى متحف جماجم حيث كلّ جُمجمة محطوطة بـ”غوفاز” قزاز شفّاف، على طاولة منفصلة، وكل واحدة إِلْها سِعر معيّن، تتقدّمها جمجمة لشخص إنكليزي ومدموغة بسعرٍ أرخص من غيرها، تتبعها جمجمة لرجل أميركي، سعرها أعلى قليلاً، ثم جمجمة لفرنسي… وهكذا… إلى أن وصل الزّائر إلى آخر القاعة حيث وجد جمجمة تحيطها هالةٌ كبيرة خاصة ومختصّة بسعرٍ هو الأغلى بين مثيلاتها هناك، فكان منه أن سأل المسؤول عن القاعة، عن التّمييز اللافت الذي خُصَّتْ به هذه الجمجمة مظهراً وثمناً فأجابه: “هذه هي جمجمة واحد عربي بعدها بدون استعمال”.

وهنا ضحك سعيد عقل بانشراحٍ كبير وبصوت ملجلجل، وقال لي: “ولْك منين جبْتا هاي”، قلت له: “هلأ هيك صار”، فقال جادّاً: “ولْك إصْحكْ تحكيها قدّام السّوريّين بيقتلوكْ هههه…”.

وفي المرّة الثالثة، التقيته أثناء تكريم الملتقى لسماحة العلاَّمة السيد محمد حسن الأمين، في التّسعينات أيضاً، وفي فندق الكارلتون في بيروت، وكنّا أثناءها نُجري وخلف باب الفندق، استطلاع رأيٍ حول إجراء الانتخابات البلدية، ولأوّل مرَّة بعد الحرب الأهليّة. كانت ورقة الاستطلاع قد أصبحتْ بيده عندما سمع مَن ناوله إيَّاها يقول له: “أستاذ سعيد، حابِّين نأخذ رأيك بالانتخابات البلديّة” فما كان منه إلاَّ أنْ قذف – وعلى الفور – تلك الورقة بوجه مخاطِبه قائلاً له، بانفعال واضح: “وُلَكْ أنا رئيس جمهوريتكْ مشْ معتبروا ولا معترفْ فيه، وبدّك تمضّيني على ورقة بلديّة؟! قال ذلك باستخفاف ظاهر، وهو ماضٍ في طريقه لا يلوي على شيء.

السابق
كيف ردت «الداخلية» على عمليات السلب في نفق المطار؟
التالي
هيئة التنسيق: أقروا التمديد لذواتهم وطمسوا حقوق مئات الآلاف من الشعب