جهاديون محليون ودوليون

كلما اكتشف الأوروبيون إسما لجهادي أتى من ربوعهم، إنكبّوا على دراسة “حالته”، سعياً لفهم الدوافع التي رمته في أحضان “داعش”. فيروحوا يبحثون عن أصولهم ونشأتهم وديانتهم وطبقتهم وسوابقهم الخ. وقد خلصوا، بتمحيصاتهم السوسيو-نفسية، إلى رسم “بروفايل” غير كلاسيكي لشخصياتهم: انهم من الطبقة الوسطى، من ديانات مختلفة، مسلمين ومسيحيين وحتى يهود؛ نشأوا في عائلات مستقرة وغير مستقرة، نسبة لا بأس بها من بينهم كانت واعدة في دراستها أو مهنتها. قليلون منهم دخلوا السجن لجنح، ونادرون من بينهم مضطربون نفسياً. المسجد لم يكن بؤرة تنظيمهم أو تجنيدهم؛ كلهم كانت الشبكة الإلكترونية واسطتهم الى التنظيم الجهادي. وبسبب شدة التنوع بين “بروفايلاتهم”، بطًل السبب التقليدي القائل بـ”فشل إندماج” هؤلاء الشباب في انظمة بلدانهم.

البوليس والقانون سوف يردعان تدفقهم، بالاجراءات الامنية التي ينفذها، أو بسن القوانين الجديدة التي تحمي بلدانهم من عودة أولئك الجهاديين، فيزرعون في بلدانهم ما سبقهم إليه “العائدون من أفغانستان”. ولكن عليهم البحث عن “الاسباب”، لأن الأمن لا يحل المسألة، بل ربما يؤجّجها. فوجدوا قليلها في توقهم إلى “جمالية الرعب”، أو إلى المطلق، أو إلى هوية فردية أرفع، أسمى من الهوية الوطنية الفرنسية أو البريطانية أو الإسبانية… بل ذهب احدهم إلى حد القول بأن “التشابه التوبوغرافي بين حلب وبين مدننا الأوروبية الكبرى”، هو “السبب”…(جيل كرشوف. نائب اوروبي).

على الجانب الآخر، هنا تحديداً، لا نعرف الكثير عن الجهاديين “المحليين”. العرب من بينهم في غالبيتهم من التونسيين، أي من تلك الدولة العربية الوحيدة التي نجحت في امتحان الفوضى والإرهاب. وما تبقى كتلة بشرية هلامية، كل الاهتمام منصب على معرفة “أسباب” انخراطها في المشروع الاسلامي الارهابي: كتلة عمادها شرائح مهمشة مذهبيا، لم تعرف الا الاستبداد الدموي، تحمل تفسيراً ظلامياً عن الاسلام، ومنكشفة امنياً، ولا ينافسها اي بديل آخر، قادمة من “فشل” اقتصادي وسياسي وتربوي الخ. أي كل شيء ولا شيء… فكانت سيادة “الأسباب” على تلك الكتلة غامضة المعالم.

مقارنة بسيطة بين مضامين معرفتنا للجهاديين الغربيين و”المحليين” تفضي الى ما يلي:

أولا، دراسة الجهاديين الدوليين تدور حول وقائع ملموسة، مبنية على رصد وتحقيق واستقصاء ميداني، يليها التساؤل عن “الأسباب”، غير المقنعة، التي لم يُتفق عليها. ما دفع أحد العلماء لاستنكار كل هذا التدقيق بالقول “هل وجب علينا ان نبحث باستمرار عن اسباب سوسيولوجية لذهاب هؤلاء الشباب الى الجهاد؟”.  اما تناولنا للجهاديين المحليين، فغارق في أسباب عامة، معروفة وبديهية، أو ربما غير بديهية، لا تفارق الأطر التحليلية المعروفة، ولا شهوة الانقضاض على الاسباب دون غيرها من مقاربات؛ وبذلك لا نُخبر بشيء ذا قيمة عن الأنفار المحليين المنضوين في القتال الجهادي.

ثانياً، دخلنا عصر الجهادية المعولمة: الإنترنت صار وسيلة التواصل والخطابة والتجييش والتحريض، والتصوير والإخراج، ودورات التعلم العسكري والديني، وباللغات الحية الأساسية، وبذلك أصبح جذابا لكل شباب الارض. ومجيء هؤلاء الجهاديين الدوليين الى أرض الشام سوف يخلق مجتمعا كوزموبوليتياً، مكوناً من عرب وأجانب من العالمين الأول والثالث، بيئة جديدة علينا، لا نعرف ماذا ستفرز بعد استيطانها، أو بعد نهاية الحرب.

ثالثا، في كل هذه المسألة، الدين قليل، والتدين كثير؛ خصوصاً لدى الجهاديين الدوليين، الذين تعلموه عبر الانترنت في بضعة أسابيع، وأطلقوا لحاهم، وغيروا أسماءهم، وردّدوا “البسملة” و”التكبير”… فصاروا بذلك مسلمين على ما يتصورون. ولا نستطيع ان نعرف تماما دين المجاهدين المحليين؛ لكن كل الاشارات تدل على تدين مقترن بعصبية مذهبية عمياء، وباستلهام كل الأوجه غير الحضارية للإسلام.

رابعاً، في المقارنة مفارقة: الجهاديون الدوليون هاجروا بلدانهم ذات الأنظمة الديموقراطية والثقافة النقدية الإنسانوية. فيما “سبب” من “أسباب” الجهادية العربية هو غياب الديموقراطية والخيارات الأخرى؛ أي إن كلا النظامين، الإستبدادي والديموقراطي، يمكن ان يفرز طلاباً للجهاد. هل يعني ذلك بأن الحيثية الديموقراطية ضعيفة؟ أو ناقصة؟ أم إن علينا، قبل إستلهام “الأسباب”، طرقْ الأبواب الأصعب والنبش في الدواخل العميقة لكل جهادي؟ في نشأته، عمله، قريته، بيئته، حكايته…؟ ونحصل ربما بعد ذلك على وصف للديناميكية التي فتحت لهم أبواب البربرية على مصراعيها؟

السابق
 «كثرة الطباخين» تهدد حياة جندي لبناني خطفته «النصرة»
التالي
رئيس الاركان الاسرائيلي يهدد بتدمير لبنان