واشنطن على خط المقايضة في ملف العسكريين؟

لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الحادي والتسعين بعد المئة على التوالي.

لم يعد العسكريون وحدهم مخطوفين في جرود عرسال لدى «داعش» و«النصرة»، بل باتت إرادة الدولة أيضا رهينة محتجزة في جرود الابتزاز والتردد وسوء الادارة وتضارب الأدوار والمصالح.
ولعل الخطأ الاكبر الذي ارتكبه المعنيون بهذا الملف هو الخضوع منذ بداية الازمة للعبة الابتزاز، على حد السكين، ما كسر التوازن في قواعد التفاوض من الاساس، وفتح شهية الخاطفين على الذهاب بعيدا في هذه اللعبة، وصولا الى انتزاع التسهيلات والتنازلات تباعا من الجانب اللبناني المتخبط والمرتبك.
وبدل ان تُراكم الدولة اللبنانية عناصر القوة مع الوقت، لتحسين شروط التفاوض والمقايضة، راحت تفرّط بها تباعا وبخفة لامتناهية، بفعل سوء الآداء وتعدد المرجعيات، وربما لم يُعرف سابقا ان خاطفين إرهابيين نالوا امتيازات كتلك التي حصل عليها خاطفو العسكريين بالتهديد والوعيد من بعض الاطراف الرسمية.
وأخطر ما في هذا الملف هو ان إدارته تبدو مبعثرة ومشتتة، وتكاد تخضع لقاعدة المحاصصة، بحيث ان الطوائف والمذاهب التي ينتمي اليها العسكريون المخطوفون باتت شريكة في التفاوض، وتملك اسهما في الملف، تمنحها حق النقض (الفيتو) في تجاوز لحق إبداء الرأي الى التصرف وفق منظومة مصالحها..
وليس خافيا ان الاهالي كذلك، تحولوا تحت تأثير العامل العاطفي، الى «خاصرة رخوة» في جسم الدولة، يصل من خلالها نفوذ الخاطفين وتأثيرهم الى الصيفي وساحة رياض الصلح، حتى أصبح هناك فرع لغرفة التحكم المروري في جرود عرسال.
وبعد اشهر من «التجارب» باللحم الحي، اكتشف البعض في الدولة، تحت وطأة التهديد بذبح المزيد من العسكريين ان التفاوض المباشر مع الخاطفين أفضل من أي وسيلة أخرى، وان مصطفى الحجيري المطلوب للعدالة قد يكون أكثر نفعا من مزاجية الوسيط القطري أحمد الخطيب الذي يمضي معظم وقته في الدوحة.
هكذا، صدر بيان منتصف ليل الجمعة ـ السبت الماضي، بالتنسيق بين الرئيس تمام سلام والنائب وليد جنبلاط، معلنا باسم الحكومة التي كان معظم وزرائها نائمين في ذلك الوقت، عن الانتقال الى مرحلة التفاوض «الجدي والمباشر والفوري مع الخاطفين»، علما ان مصادر وزارية أكدت لـ«السفير» انها غير معنية لا من قريب ولا من بعيد بهذا البيان، «لانه لم يتم التوافق عليه داخل الحكومة».
ما هي مصلحة سوريا؟
وإذا كان البعض يعتبر ان التواصل مع الخاطفين عبر «البريد السريع» او «الخط العسكري» أجدى في انتاجيته من الاقنية الاخرى، لاسيما ان المسافة الفاصلة بين بيروت وجرود عرسال هي اقصر بكثير من المسافة بين الدوحة وجرود السلسلة الشرقية.. إلا ان هذا الخيار او غيره، لا يعفي من طرح أسئلة ملحّة من نوع:
 طالما أن الكل يقرّ بمبدأ المقايضة والتبادل، فكيف للتفاوض، سواء حصل بطريقة مباشرة او غير مباشرة، ان يؤدي الى استعادة المخطوفين بطريقة تحافظ على حد أدنى من الكرامة الوطنية والضرورات الامنية، ولبنان مجرد من كل أوراق القوة ومثقل بنقاط الضعف المكشوفة التي يحسن الخاطفون استثمارها والتلاعب بها؟
 وإذا كانت سوريا هي الممر الإلزامي لنجاح أية عملية تفاوض بعدما أصبحت السجينات السوريات جزءا من اية صفقة مفترضة، فهل ان هذا النمط من التعاطي اللبناني الرخو مع الجهات الخاطفة يشجع دمشق على المضي قدما في التعاون ام انه قد يدفعها الى إعادة النظر في التجاوب المبدئي مع طلب المساعدة اللبنانية، والذي كانت قد أبلغته للمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم عندما استقبلته مؤخرا؟
 ما هي مصلحة السلطات السورية في ابرام صفقة لمصلحة هكذا ادارة سياسية للملف لبنانيا وخصوصا عندما ينبري من يدعو الى دعم «النصرة» ونزع صفة الارهاب عنها لا بل التعامل معها بوصفها تشكل العمود الفقري للمعارضة السورية؟
 واذا كانت التسهيلات الرسمية السورية في «صفقة اعزاز» قد حصلت لاعتبارات متعلقة بدور «حزب الله» في سوريا أما «في صفقة الراهبات»، فقد اندرجت في خانة اعتبارات مسيحية وفاتيكانية وسورية، فماذا يمنع أن تتحول صفقة العسكريين اذا قدم النظام السوري المطلوب منه، الى قاعدة اشتباك دائمة، بحيث تبادر «النصرة» او «داعش» بين حين وآخر الى اقتحام موقع هنا أو هناك للجيش اللبناني وتأسر عسكريين، وبعد ذلك يطلب لبنان من النظام السوري إطلاق سجناء او سجينات وصولا الى افراغ كل سجونه بينما يوجد مئات الضباط والعسكريين والمؤيدين للنظام في قبضة «داعش» و»النصرة» وغيرهما من التنظيمات الارهابية؟
ابراهيم الى الاعتكاف
 اين تكمن المصلحة الوطنية في هذه التخمة من الطباخين، على تعدد أهوائهم وهوياتهم، بدل ان يبقى الملف محصورا في يد المكلف رسميا بمتابعته، اللواء ابراهيم صاحب الخبرة والتجربة في فك شيفرات قضايا الخطف وفي مساومة رموزها بأقل الخسائر الممكنة؟
 لماذا غاب اللواء ابراهيم عن اجتماع خلية الأزمة، أمس، وهل صحيح أنه أبلغ رئيس الحكومة تمام سلام قراره بالتنحي عن هذا الملف نهائيا في ضوء استمرار سياسة الارتجال والتخبط والارتباك والابتزاز وتعدد القنوات والمرجعيات؟
 هل يحمل اعتكاف ابراهيم في طياته احتجاجا ضمنيا على الادارة الخاطئة، خصوصا أن الفريق الذي يزايد تاريخيا بمنطق الدولة، قرر أن يتعامل مع الملف بطريقة ميليشيوية لا بل وفق أدبيات مذهبية وطائفية، سهّلت الى حد كبير ابتزاز الدولة، ومن قال أنه بهكذا ادارة يمكن أن يطلق سراح بعض العسكريين من لون مذهبي معين، لا بل من يضمن أن الخاطفين ســيفرجون عن هؤلاء تحديدا الا عندما يطوى الملف نهائيا؟
 هل صحيح ان «النصرة» و»داعش» وجدوا في الاستمرار باحتجاز بعض العسكريين ورقة ابتزاز سياسية لوليد جنبلاط، حتى ان البعض ذهب من باب التهكم الى القول إن الجهات الخاطفة باتت تتحكم بمصير الحكومة لانها قادرة على دفع بعض وزرائها الى الاستقالة، إذا أرادت ذلك؟
واشنطن لها حصتها أيضا
 ثم.. ما هي صحة المعلومات المتوافرة لدى مراجع لبنانية حول دخول أميركي على خط قضية العسكريين، عبر الطلب من الدوحة إدراج أسماء مواطنين أميركيين مختطفين لدى «داعش» و»النصرة» في أي عملية تبادل. ألا يعيد هذا الطلب، التذكير بأمر مماثل كانت قد تقدمت به واشنطن عبر سفارتها في أنقرة في خضم مفاوضات أعزاز لإطلاق سراح المعارضة السورية طُل الملوحي من سجون النظام، كأحد شروط التبادل؟
 هل سُجلت مراجعات أممية (الامم المتحدة) لدى الحكومة اللبنانية في الآونة الاخيرة بعنوان إعطاء غطاء للجيش اللبناني للتنسيق مع الجيش السوري عسكريا، بغية محاصرة مسلحي جرود القلمون، ومن ضمنهم الخاطفين، لكن الجواب الرسمي اللبناني كان التحفظ؟
 ماذا عن صحة ما يشاع في بعض الاوساط حول ضغط يتعرض له الجيش من قوى بارزة في «14آذار» لمنعه من المبادرة الى اي خطوة هجومية، من شأنها كسر المعادلة القائمة في جرود القلمون، على قاعدة ان الواقع العسكري السائد هناك يشكل عبئا على النظام السوري من الجهة السورية وعلى «حزب الله» ظهيره اللبناني؟
 ماذا لو قررت الدولة ان تبادر الى توقيف العشرات من «داعش» و»النصرة» و»الجيش السوري الحر» ووضعهم بعهدة جهاز أمني معني بالمفاوضات لمبادلتهم، من دون إحالتهم الى المسار القضائي الطويل والمعقد؟
 هل تستطيع الدولة، من باب تحسين موقعها التفاوضي، ان تضع حدا للوضع الشاذ في سجن رومية، حيث توجد فروع ناشطة للمجموعات الارهابية، تتواصل مع قياداتها في خارج السجن، ام ان الامر الواقع أقوى منها؟
 أما إذا لم يتم نفض الغبار عن أوراق القوة، فليس مفهوما في الاساس لماذا سيشعر الخاطفون بالضغط والحاجة الى الإفراج عن المخطوفين، ما دام ان احتفاظهم بهم يعطي كل هذا المردود:
خطوط الامداد والتموين مفتوحة الى المغاور والكهوف، خدمة الانترنت مؤمّنة، دفعات مالية نقدية غب الطلب استجابة لحاجة المسلحين الى السيولة وربما تُفتح فروع مصرفية في الجرود إذا طلبوا ذلك، ومسارب التنقل الى عرسال سالكة ذهابا وإيابا (من خلال معابر جديدة) مع ما يحمله «تسرب» المسلحين المستمر من مخاطر على الجيش الذي تعرضت قواته للعديد من الكمائن والهجمات بالعبوات الناسفة.. لا بل ان شعور الخاطفين بالراحة بلغ حدا سمح لهم بتنظيم «زيارات سياحية» للأهالي الى الجرود برعاية أحد «الوكلاء الحصريين» من عرسال.
سلام: القطريون بطيئون
في هذا الوقت، اكد الرئيس تمام سلام، امس، ان اللواء ابراهيم «هو المكلف بملف التفاوض مع خاطفي العسكريين»، وقال «اننا نستعين بالوسيط القطري، لكن الامر بحاجة الى ملاحقة ومتابعة، خصوصا اننا لا نعلم ما يدور بين «داعش» و»النصرة» من خلافات وتناقضات حول التفاوض والمطالب، لكن خلية الازمة الوزارية (اجتمعت استثنائيا أمس) تعمل بشكل دؤوب وهي تضع مجلس الوزراء في اجواء ما يجري.
وأضاف سلام ردا على سؤال إن الجهود موحدة بين القيمين على ملف التفاوض، لكن وتيرة العمل منخفضة بسبب بطء وتيرة عمل الوسيط القطري.
وسئل عن سبب بطء عمل الوسيط القطري؟ فأجاب: ليُسأل القطري.
وحول دخول الشيخ مصطفى الحجيري على خط الوساطة وطلبه بان يتم تكليفه رسميا من قبل الحكومة وما يمكن ان يسببه ذلك من ارباك، قال سلام: لم يصلنا ان الحجيري طلب تكليفه رسميا بالتفاوض، لكن هو وغيره يحاولون. أما الارباك، فسببه ما يروج له المسلحون الخاطفون كل فترة من طلبات وتسريبات وضغوط على الاهالي والحكومة، وهم يوجدون جوا غير مريح، بينما نحن نعمل بصمت وتكتم نظرا لحساسية القضية ودقتها. هم في موقع التسلط والفرض، لكننا لن نخضع لمحاولاتهم.
يذكر أن الحجيري أعلن ليل أمس أن الخاطفين لم يتراجعوا عن قرار اعدام العسكري علي البزال بل جمّدوه مؤقتا.
من جهته، قال النائب وليد جنبلاط عبر «تويتر» ليل أمس:»كفى اهالي المخطوفين حرب اعصاب»، وأضاف أنه مستعد للذهاب شخصيا الى عرسال للتفاوض مع الخاطفين، واشار الى أن اميركا «فاوضت الطالبان من اجل اسير مقابل اسرى في غوانتانمو».

السابق
سلام يُؤكّد القرار الحكومي بالتفاوض المباشر
التالي
لماذا لا تريد أميركا القضاء على «داعش»؟