الكتاب «تقاطع شارعين على جسد»

الثابت أن أحداً من بناة الثقافة والوعي المعرفي لم يكن يدرك ما ستؤول اليه أوضاعنا، جراء ثورة المعرفة الإلكترونية والرقمية الناهضة على الأنترنت والـ”فايسبوك”. الأسطر التالية لا تُنافح بحال من الأحوال عن الماضي بصنميته، ولا تراوح في ماضٍ مضى. مقصد الأنظار يقع في متن المعرفة لا في هامشها الذي يلخص كتاباً في أسطر عابرة ومقتضبة. سيعيش لبنان جذلاً الآن بمعرض الكتاب.

المناسبة ستكون بمعنى ما احتفاءً بمعرفة أُنهِكت، كما مومسة خانها الإرهاق والتعب. مراثي حال الكتاب ليست بُكائية على بقاءٍ ذوى جرّاء استنكاف الغالب منا، بقدر ما هو سعيٌ حثيث لفهم المعرفة وأدوات العقل والصلة بينهما. المعرفة هذه، كما كتب ذات يوم الشاعر التركي الشيوعي ناظم حكمت في سجنه لحظة معرفته بحمل زوجته: “أجمل طفل في العالم لم يولد بعد/ أجمل نهر في العالم لم يجر بعد”. هكذا، فالمعرفة مجهول ينبغي السعي في مناكبه. هي قلقٌ لا يعرف مستقراً ولا مقراً. بحثٌ عن الذات لا عن أهوائها. محاولة مجنونة لفهم عالم أكثر جنوناً.
الاحتفال بمعرض الكتاب رتيبٌ ومملٌّ حتى السأم. طبيعته من طبيعة تجارية وليست تكريساً لإبداعات ثقافية ضنّ بنوها بالخلق، وتظهير نتاج معرفة كثيفة. لم يكن ثمة تقدّم في أيّ يوم من الأيام من دون الكتاب. وحده كان يحدد بوصلة الحياة وعيشها.
العالم الإلكتروني قاتل الكتاب وما بين دفتيه، هو وليد ما سُطِّر في كُتب كثيرة. لم يبرز العالم الإلكتروني بأشكاله إلا من رحم الكتاب. عيشُ العالم الرقمي لا يني يقوم على إبداعات المؤلفين والشعراء والصحافيين: قوامه ما يُنشر. تفاصيله تكمن في شياطين رؤوس من يحترفون الإمساك بالقلم، قبل إجادة التنضيد.

نبوءة الجاحظ
كاتب العربية الأول الجاحظ كان “أصدق إنباءً” في تبيان قيمة الكتاب. كتب رسالة بالغة الأهمية لا يعرف الكثيرون غير تجاهلها أو القفز فوقها. في مجلده الأول عن “الحيوان”، ميّز أهمية الكتاب عما عداها، قائلاً: “الكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملك، والمستميج الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتال عليك بالكذب”.
أهمية مجلّده عن “الحيوان” وروعته التي تتألق كالنبيذ المعتّق، تكمن في أنه يشكل إضافة للإنسان، ومن دون أن يأخذ منه. وحده الكتاب يضعك على مصاف الترقي ومسارات الإستشراف والوعي. “والكتاب هو الذي يمنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك، وتعرف منه فى شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر”.
نبوءة الجاحظ هذه، ثابتة في يوميات السياسة والثقافة، إذ أنه لم يُقدَّر لسلطانٍ المضيّ قُدماً في حُكمه من دون بيدبا ما. وأكمل أمير الشعراء أحمد شوقي، ما بدأه، كاتب العربية الأول، قائلاً “أنا من بدّل بالكتب الصحابا/ لم أجد وفياً إلا الكتابا”.

الكتاب عند الغرب
الغرب الذي نقلّده ونحذو حذوه شكلاً، كان أوفى للكتاب من الحضارات العروبية التي لم تفعل غير تكريس العداوات والأحقاد الثارية. مفكّروه أدركوا أكثر منا قيمة الكتاب وقدرته على فتح أفق يمكن ارتياده في مسارات الترقي. هذا الإبداع (الكتاب) قال عنه توماس كارليل: “كل ما فعلته البشرية، أو فكرت فيه، أو ربحته، أو كانته، يرقد بين صفحات الكتب”.
الكتب رفعةٌ. أناقة. قاعدة تحسسٌ للإنطلاق نحو مجال أرحب غير ذلك الذي نحياه. فبحسب فرنسيس بيكون “هناك كتب تستحق أن يذوقها القارئ، وكتب يستحق أن يلتهمها، وكتب تستحق أن تمضغ وتهضم”. من جهته، قال أناتول فرانس: “خير تعريف للكتاب هو أنه عمل من أعمال السحر تخرج منه أشباح وصور لتحرّك كوامن النفوس، وتغير قلوب البشر”.
الكتاب بصرٌ وبصيرةٌ. هو أكسير الحياة. الأمل المفتوح على قلق يسعى في اثبات الوجود واستمراره. هكذا نزع هنري دافيدثور، قائلاً “الكتب هي ثروة الدنيا، وميراث الأجيال”. أما جون ميلتون فقد وضع الكتاب موقع الحياة ومعناها. فالكتاب الجيد بالنسبة إليه، “مثل دم الحياة الثمين لأرواح علوية محفوظ ومخبوء”.

إنزياح إلكتروني
بمعنى ما، جرى التعامل مع الكتاب عندنا لجهة رذله وإهماله، والإنحياز إلى الشيوع الإلكتروني، كما هي الحال مع رواية “المحاكمة” للروائي فرانز كافكا. الرواية غريبة تتحدث عن الظلم الذي يقع على الأفراد في الدولة المتسلطة التي لا يعرف الفرد لماذا يُحاكَم أو ما جنايته. كل ما يعرفه أنه سوف يُعدَم. هكذا كان قرار الأغبى بيننا. فما إن أفاق غريغور سامسا، ذات صباح، من أحلامه المزعجة. حتى وجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة ضخمة. بهذه المقدمة الصاعقة بدأ الكاتب التشيكي فرانز كافكا روايته الشهيرة، “المسخ”، معلناً منذ البداية أن شخصيته الرئيسية قد تحولت ببساطة إلى حشرة كريهة. إلى صرصار. وهي مقدمة اعتبرها الروائي الكولومبي غبريال غارثيا ماركيز أعظم افتتاحية يمكن تصورها لرواية. لكنه لم يقل إن هذه هي حالنا ومآلنا.
لم يثبت في حال من الأحوال نجاح الإنزياحات الالكترونية على حساب الكتاب، الذي ظل قيمة أصلية لم تتناقص أو تتراجع مع ثورة التكنولوجيا. بقيت الأمور على ما ذهب إليه الدكتور طه حسين في “الأيام” قائلاً: “بائع الكتب أو الكتبي كان يسعى الى الريف ممتطياً حماره، وحاملاً كتبه في صندوق، حتى عرف هذا النوع من الدواب بحمير الكتب أو الثقافة، تمييزاً لها عن غيرها من الحمير التي تستخدم لأغراض أخرى”.
مفتاح النظر الصائب في معضلة الدفاع عن الكتاب يكمن في أن كثراً من الناشرين وأشباه الكُتّاب يتعاملون مع مفهوم الكتاب كتجارة، أو صناعة. وعن جهل أو صواب يغفلون أنه (الكتاب) عنصر صونٍ تلقائي للحؤول دون السقوط في أتون الجهل الذي لا يولّد غير السقوط في متاهات التخلف والقتل والعنصرية. كل هذا ولم يحن للجحيم أن تتوقف في مواجهة الغباء الذي يستشري كأمراض الوباء.

خدعة أصلية
الراجح من وعينا السوسيولوجي المصطنع، انه ليس بيننا من لا يعرف المقولة الأضحوكة “وخير جليس في الزمان كتاب”. عندما نريد الظهور دنيوياً وديناً، نسافر إلى الكتاب لنكون “أحراراً في ديننا ودنيانا”، فيستشهد البعض بـ”الكتاب المقدس”، والآخر يلجأ إلى آية “اقرأ”. فالقراءة فعل يرتبط بالكتاب.
قبل ذلك، هناك رواية صائبة، عن نسخ الكتاب قبل إباحة طباعته باستخدام المطابع الحديثة، فقد برزت صناعة النسايون (أصدر المفتي العثماني فتوى بإباحة طباعة المصحف)، ومهنة النسخ والوراقة، والفن الاسلامي في جزء منها فن كتابة او خط وابداع يعمل على تحويل الحرف العربي الى زخرف، لون، مساحة، صورة فضاؤها الورقة والحجر، وسعف النخيل وأحيانا العظام، و”الكتاب” قبل جمعه كُتب بهذه الطريقة.
فن الكتابة، كأصل للكتاب، يعيدنا إلى عبد الحميد الكاتب وابن المقفع، ونتحدث عن الجاحظ “شهيد الكتاب”، ونقرأ قصصاً عن عالم سحري يدور حول الكتاب والكتابة والمكتبة، ويتولد منها كل لون، أي أنها تجمع كل ما يمتّ الى فعل الكتابة، والكاتب والمكتوب، وفعل التواصل، والمكان الذي يحفظ فيه الكتاب. والكتاب في علاقته مع الكائن الحي، يكون عنواناً للثقافة أو الجهل، أو عنواناً للتخلف والغباء: للديموقراطية أو التسلط.
القصص كثيرة عمّن كانوا يلوّثون ثيابهم بالحبر حتى يعدّوا من الكتّاب. هناك بيت شعر يشير الى قصة رجل جاهل كان ثوبه ملوّثاً بالحبر حيث لفت نظره آخر “لا تجزعنّ من المداد فإنه عطر الرجال وحلية الكتاب”، فردّ عليه “حمار في الكتابة يدّعيها كدعوى آل حرب في كتاب”.

حياة وموت
كثيرةٌ هي الكُتب التي ماتت قبل أن تُولد. وهذا ليس عطباً أصلياً في الثقافة، بل في ما حاولت زعمه أو إدعاءه. لكن في المقابل كان قتالٌ من نوع مميز لإبقاء الثقافة وقادةً في مواجهة عتمة الأقبية. والكتاب قد يكون نقمة على كاتبه فلا يجلب اليه الا القتل- الإعدام والسجن، والتعذيب، والنفي، وكان العالِم يعاقَب في الماضي بمصادرة كتبه ومن منهم من صودرت دواته وحبره.
الكتاب يغيّر حياة القارئ. كثُرٌ منا يقولون إن كتاباً ما غيّر حياتي أو دمرها. ابن سينا قال إنه لم يفهم كتاب “ما بعد الطبيعة” لأرسطو على الرغم من قراءته له أربعين مرة، على ما قال، إلا بعد أن قرأ شرح المعلّم الثاني، الفارابي، له. آنذك أيقن حقاً أن الكتب “لا تغيّر حياة انسان واحد بل تغيّر العالم”.
الكتب قد تكون وسيلة للحروب أو الإحتلال والتطويع، لكنها قد تكون منارة للتحرر كما هو الثائر على الاستبداد مثل كتاب الكواكبي او ثائراً على التقليد كما هي “رسالة التوحيد” لمحمد عبده التي لم يكتب مثلها، أو داعية التحرر قاسم أمين، أو الجدلي في الشك ونقض التراث كما في حالة طه حسين.

نار في المكتبات
كُل مدٍّع سيزعم قولاً: كلنا نحب الكتب. لكن أحداً منهم لم يتبصر، حتى أنه لا يعرف شيئاً عن “مأساة بغداد” التي حرق المغول كتبها ورموها بدجلة الذي أصبح ماؤه أسود من الحبر الذي رمي فيه. لعل ما حدث من كارثة وسرقة للتراث الفلسطيني، في نكبة فلسطين وأهلها، ما يقطع الأوصال كما تسعى إسرائيل. فما حدث لمكتبة العلامة عبدالله مخلص الذي كان صديقاً لأحمد تيمور باشا صاحب اليراع وزعيم ميدان الكتابة، محزن. فقد سرقت مع كل المكتبات الخاصة في حيفا ويافا وعكا. الأمر نفسه يقال عن مكتبة خليل السكاكيني الذي مات كمداً بعد ضياع بيته في القطمون في القدس.
في مقابل هذا المشهد المُرعب، هناك من قال: حق القراءة يجب أن يكفل للجميع، وتوفير الكتاب بالأسعار المعقولة مهمة وطنية، وبناء المكتبة كفضاء يدخله كل المواطنين ويقرأون فيه فرض على الدولة، ويجب أن لا يكون مجرد عرض تمارسه زوجات الرؤساء لدعم برامج الكتاب للجميع كوسيلة للتغطية على فساد الحاكم ونخبته. وقد عرف أندرو كارنيغي رجل الأعمال الأميركي أهمية المكتبة حيث أنشأ ما بين 1883 و1929 2009 مكتبات ما بين عامة وخاصة في أميركا وعدد من الدول من بينها اوستراليا وكندا وبريطانيا.
وقد وضع كارنيغي ما يسمّى “شروط او صيغة كارنيغي” التي تقوم على انه يدعم بناء المكتبة إذا قدمت الهيئة أدلة مقنعة أن المجتمع المحلي أو الجامعة بحاجة ماسة اليها، كما أن عليها أن تقدّم المبنى لها، وأن توفر 10 في المئة من الموازنة السنوية لإدارة المكتبة وأن تقدّم خدماتها مجاناً للعامة.

تفريغ الكتاب
يصح القول انه إلى تصحرنا البيئي، هناك تصحر ثقافي لمعنى الكتاب. في أحسن الأحوال، تتم الدعوة إلى الكتاب في حال الفراغ. فلنسأل السؤال الملحّ: ماذا نفعل في أوقات الفراغ؟
أماكن تجمع الأصدقاء، مجال للتندر والنميمة أكثر من المناقشة، ولو فكرة في كتاب. المقاهي الرخيصة والفارهة على حد سواء، معضلتها واحدة: ندرة في العقل وأدواته، وكثافة في الخفة. بمعنى ما، صارت مقاهي المدينة مقاهي مغلقة وأمكنة لتجزية الوقت بين حبيبين لم يتصارحا بعد بموت ما بينهما. المتنزهات ضواح ممتلئة بكل فراغ تعيشه وتنتجه المدينة. الجمعيات الثقافية مهجوسة بتأمين موارد إستمراريتها. اللقاءات الدينية عبارة عن ميادين لشحذ العصبيات وليست فضاءات للتنوير. غابت مهرجانات الصوفية.
في يوم مضى، كانت الثقافة بؤرة التوهج، أو نقطة الإرتكاز، في حراك الانسان وسعيه الى مسارات التبصر ومناكبه. كان الصحافي والطالب نبراساً للوعي. غالبهما (الصحافي والكاتب) كانا قادة حركة تحرر ووعي ضد الهيمنات والإحتلال. الآن لم يعودا سبباً من أسباب خلق الإنسان ووعيه.
أما وأن حالنا تزداد تردياً ورثاثةً، فهل يحق لعاقل منا السؤال: ما الذي تفعله الفنون والآداب والسينما والمتاحف وغيرها من الفنون الثقافية؟ الجواب في الشكل وليس المضمون: لأنها تعزز الإنسان فينا، وتذكّرنا بما حاول الإنسان البدائي إمتلاكه. لكن الواقع هو: مزيد من الحروب والقهر والعنصرية وحتى التجارة بالبشر. الكتاب في البدء كان محاولة أولى لفكرة العيش والتعايش من دون أسنّة الرماح. وأن نقبل بعضنا بعضاً حتى لو اختلفنا، وحتى لو امتد تنوعنا إلى ما لا نهاية. لم ندرك أهمية المحافظة على الإنسان عبر إتاحة الخيارات المختلفة له من خلال الأفكار التي تطرحها الكتب ومؤلفوها.
العلاقة مع الكتب وأفكارها تحفز كل ما له علاقة بالفن والخيال والإنتاج الروائي والمسرحي والسينمائي. لكن في حاضرنا، وفي علاقة الأعم الأغلب منا مع الكتاب والثقافة، تحول حيّزنا إلى “صحراء قاحلة”، لا تُنبت إلا ما تنتجه الصحراء: التعصب، الإنغلاق، التشدد، الجلافة، وصعوبة فهم الآداب والآثار الإنسانية.
النتيجة: العالم إلى مزيد من الذواء: إما عبر القوقعة، وإما عبر التلطي وراء شبكات التواصل الاجتماعي، والسمعة الرقمية. والحال هذه، فلنسأل الآن أنفسنا: كيف نقضي مجتمعين وفرادى اليوميات؟ الجواب: في كل منزل القصة عينها: الإختفاء وراء الأجهزة الإلكترونية، تجزية الوقت عبر أجهزة الخليوي الذكية، العجز عن حل أي مشكلة إلا عبر “عقول ذكية” لا صلة جدية للإنسان بها.
الموت الجماعي الذي نشهده ليس غريباً عن حالنا السوسيولوجية. ولا استثناء لأحد من ذلك. فتفريغ الكتاب يندرج في سياق عام لتفريغ البلاد من كل قيمها. أبسط التعبيرات يأتي في اقتيادنا كقطعان إلى غير ما نفكر فيه أو نأمله لحيواتنا جميعاً. بلادٌ يضمحل فيها التنوّع والاختلاف والنقد والرفض والسؤال، وتنحسر دور النشر والمسارح والمعارض، أمام اجتياحات إسمنتية مرعبة وأمكنة للغوغاء والإعتراضات الخاوية من كل فكرة، لا يصح القول فيها إنها جمهورية أو ديموقراطية. حتى صوابية بقاء ساستها يصبح موضع تساؤل جدي عن الأفق الذي يمكننا وإياهم إرتياده.

المعنى الوجودي للكتاب
ليس منافحة عن الكتاب ركوب مغامرة السؤال عن معنى الوجود كصيغة أصلية للإنسان وإمكاناته: من الوعي لمشكلاته بوصفه وعياً تجريبيا لكل الظاهرات التي تنبع من الأسس البديهية والتجريبية داخل الوجدان. الكتاب كونه، منذ البدء، الإدراك الحسي للإنسان، ويتصل إتصالاً وثيقاً بما هو متصل بالحق الإنساني ويحرص عليه، خصوصاً في مجالات الحياة، ومشكلة الرأي، والاختيارات والمسؤولية، والفردية، وفهم الجماعات وهذرها الذي يهدأ، هو في هذا المعنى يتنكب مهمة الإجابة عن كل الأسئلة والتصورات المطروحة، والمتعارضة في أحايين كثيرة مع حقائق الواقع الاجتماعي.
الكتاب جسّد عبر الإنسان ومن خلال أفكاره الإبداعية إجابة ثابتة عن النزوعات، فردية وجماعية. فهو منطق وجودي لتفسير انتصار فكرة دون أُخرى. الكتاب، وما يتضمنه من أفكار، يتكون من إتجاهات عدة تغلب أي ترويج لفكرة هيولية. كذلك يتناول جميع الإشكاليات التي تحضر في الذهن البشري. ويتجرد من كل حقيقة ثابتة للإنطلاق نحو الحقول التجريبية والمعرفية، لكون الإنسان يجب ألا يكون خاضعاً لحقيقة ثابتة مثار قلق. الإجابة وإن انتصرت لشيء دون غيره تبقى حقلاً للتجريب والأسئلة.
الإنسان هو مثار أسئلة وقلق في كل ما يحققه أو يصبو إليه. أكثر من ذلك، هو نقطة إستقرار، أو نقطة تسوية بين الإيمان والإلحاد، ومن دون مضامين تشاؤم أو ضياع وعبث. روعة الكتاب هو انطواؤه المستمر على إمكان مستقبلي يجنب الإنسان الموت والألم. فهو يقع في مربّع أزمة الإنسان المُعبّر عنها بكل الوجوه، وفي كل التناقضات التي عمت تاريخ البشرية وسادت عليه: حزناً وسعادة.
غياب الكتاب، وعدم حضوره كأولوية تثقيفية وتعليمية، يجعل القول بأن الأزمة الأصلية هي في الكتّاب أنفسهم، الذين ابتعدوا عن طرح الأفكار الصلبة التي تضع الفرد منا في مواجهة حقيقية مع ذاته ومحيطه. بل أن غالباً منهم تحول إلى أطروحات صحافية من طبيعة إشكالية يومية وآنية، ولا تمثل معنىً جوهرياً في طريقة العرض، وتندرج في مفارقات لفظية وسجعية.
في أفضل الأحيان، يقع بعض الكتب في موقع إثارة الرعب والخوف والقلق، ومن دون ملامسة إشكاليات تُعنى مباشرة بما نعيشه في مواجهة أزمات الفكر والعنف والتطرف وإلغاء الآخر، وهي تتسق في ذلك مع ما هو سائد: العالم معنا أو ضدنا على طريقة جورج دبليو بوش، أو أن العالم فسطاطان، على نحو أسامة بن لادن وورثته، وصولاً إلى دولة الخلافة التي نُبشر بها، ونعاني الأمرين منها.
قلة قليلة من الشعراء والكتاب نزعت إلى تبيان الفيصل الذي يشمل المجتمعات وهواجسها من نوع: العلوم الروحية (لا كُتب التبشير)، الموضوعات التاريخية للإنسان، الوجود، الجنس، الموت، الشعور، الخطيئة، القهر (الكتب التي ظهرت كلها بمفعول رجعي لمواجهة ديكتاتوريات عربية وإسلامية سقطت)، التراكيب الأهلية لمجتمعاتنا من عصبيات وقبائل.
العبارات السائدة بين دفتي بعض الكتب لا تستنفر العقل ولا تثيره في مبحث من المباحث. نحن لا نعيش في عالم واضح المعالم، فقد حلّت اللعنة على بني الانسان (بحسب النصوص الدينية عموماً، والإسلامية منها خصوصاً). وساد القهر والقمع وعصور القوة بدلاً من الإستبداد. صارت مضاجعة النساء لعنة. ومعاقرة الخمر عيباً إجتماعياً أرسته بعض النصوص. صار مطلوباً إستلهام المغفرة والبحث عن مطهر للتطهر من خطايا تفترضها جماعة على أفرادها.
لم يعد الكتاب مشروعاً ملتزماً الأفكار العامة والعملية، والشخصية، ولا مداراً للانقسام حول هذه الأفكار. صار الإنسان معطى من معطيات الخبرة يدلو فيه كل متنطح بدلوه. ولم يعد ذا أبعاد جوهرية ينطلق من إهتمامات أولية. من كانت حاله كذلك، عليه ألا يتوهم تقدماً ما في حياته وعيشه. بل قد يكون الإختباء وراء التواصل الإلكتروني “خير مستقر”.

تقاطع شارعين
في ديوانه الرائع، “مديح الظل العالي”، كتب محمود درويش رائعةً من روائعه. وصف منطقة صبرا التي تقطعت فيها كل سبل الحياة جراء مجزرة لم تبق ولم تُذر في بيروت بأنها تقاطع شارعين على جسد. الآن حال الكتاب كأجساد الفلسطينيين. صارت حكاية لحياة لم تبصر النور ولن تبصره. الكتابة عن الكتاب هي مغامرة على حدود النار التي تلتهم كل شيء ولا يبقى لا زرع ولا ضرع.

السابق
20 متطوعة اجتماعية الى طهران
التالي
الأسد كان وراء إقصاء وزير الدفاع الأميركي!