الحريري أعطى أخيراً الضوء الأخضر للحوار مع «حزب الله» ما الذي دفعه إلى هذه التجربة وفق قراءة خصمه؟

… أخيرا أسبغ الرئيس سعد الحريري رسميا الشرعية على الحوار المنتظر بين تياره “المستقبل” و”حزب الله”، بمعنى أنه جسّد عمليا ما كان بدأ الحديث عنه نظرياً يعلو ويرتفع منذ نحو شهر ونصف شهر واندرج مذذاك في دائرة الاحتمال الوارد.

إنه، إذاَ، بداية الحدث الذي سيطغى على ما عداه من أحداث (على رتابتها وتواضعها) في الساحة اللبنانية، وسيخطف الاضواء والتحليلات لفترة ليست بالقصيرة، تماما كما كان الصراع بين هذين الطرفين قطب الرحى وحجر الزاوية في دورة الحياة السياسية اللبنانية مدى ما يربو على 8 أعوام.
صحيح أنها ليست المرة الاولى التي يجلس فيها الطرفان وجهاً الى وجه الى مائدة كلام وحوار، فثمة من يرى ان الحوار بينهما قائم على نحو ما سواء في لجان مجلس النواب او حول طاولة الحوار الوطني قبل ان ينفرط عقدها في أواخر ولاية الرئيس ميشال سليمان، وأخيرا تشاركهما في حوار وفعل سياسي واداري في حكومة الرئيس تمام سلام. لكن الجوار المباشر الوشيك الحصول بين ممثلي الطرفين هو تجربة متميزة ومحطة مختلفة تماما في سياقات الحوار والتواصل والتلاقي بينهما. فهذا الحوار يأتي بعد سلسلة محطات سلبية بلغت فيها القطيعة والعداء بين الفريقين درجة غير مسبوقة وضعتهما على رتبة عالية من التضاد والتخاصم والاحتراب خال معها البعض ان التجافي حالة لا عودة عنها والحرب بينهما بسوسية قد تستهلك أجيالا ولن تضع أوزارها إلا بضربة قاضية يوجهها أحدهما الى الآخر.
وأبرز هذه المحطات:
– انطلاق عمل المحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي، جاعلة باكورة أعمالها توجيه الاتهام الى 5 من كوادر الحزب الامنيين والعسكريين، محمّلة إياهم مسؤولية الضلوع المباشر في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري المدوية.
– اسقاط الحزب الحكومة الاولى للرئيس سعد الحريري لحظة دخوله البيت الابيض لمقابلة الرئيس الاميركي.
– رد “المستقبل” على هذه الصفعة المدوية الموجهة الى رمزه الاول باعلان رئيسه الحريري الحرب الصريحة على سلاح الحزب المقاوم ونزع كل شرعية عنه، وبالتالي اعتباره سلاح فتنة، ورفض أي صيغة تسووية تبقي هذا السلاح أو تخرجه من الحرب الاعلامية والسياسية المتبادلة بينهما.
– ولاحقا بادر “التيار الازرق” الى اضافة مادة اخرى في اطار حربه المفتوحة على الحزب اثر انخراط مجموعات عسكرية نخبوية من الاخير الى جانب قوات النظام السوري على الساحة السورية المشتعلة، ورفع شعار الدعوة الى خروجه على عجل من هناك كشرط مسبق لأي حوار او تشارك سياسي وبغية العمل لخفض منسوب الاحتقان والتوتر الداخليين. وقد ذهب “التيار الازرق” بعيدا في توظيف هذا الامر عندما جعله سببا أساسيا لأي اشكال أمني يحدث في هذه المنطقة او تلك.
– وأخيرا أضاف “المستقبل” عنوانا خلافيا آخر لتفعيل اشتباكه مع الحزب هو ظاهرة “سرايا المقاومة” من خلال المطالبة بحلّها، خصوصا ان هذه السرايا كانت رأس جسر للحزب للعبور الى داخل مناطق محسوبة على “التيار الازرق”.
وبناء على كل هذه المعطيات والوقائع، ولأن التيار اختار ان يمارس تراجعاً وانكفاء عن رحلة قطيعة وعداء شرسة بدأها مع الحزب، ولتبرير الحوار المرتقب معه وشرعنته احتاج الى مقدمات طويلة من جهة، واحتاج اخيرا الى كلام مباشر من رمزه الاول من جهة اخرى لتسويغ هذا الحوار.
المقدمات بدأت عمليا منذ ان ارتضى التيار التساكن مع الحزب في حكومة واحدة متخليا عن شرط حرمة المشاركة السياسية مع الحزب ما دام حاضرا في الميدان السوري، ثم استكملت بقناة اتصال وتواصل أمنية بين قيادات من الحزب وبين وزير الداخلية نهاد المشنوق. أما التتويج العملاني الاكبر والاوضح فكان ظهور الرئيس الحريري ليل أول من أمس على شاشة التلفزيون ليبارك رحلة البدء والشروع بالحوار المباشر والمفتوح على احتمال التوصل الى نتائج وخلاصات عملية تضع البلاد على عتبة مرحلة جديدة.
دوائر الرصد في “حزب الله” كانت تترقب هذه اللحظة منذ فترة وتترصد منطويات كلام الحريري، وتحديد تبريرات المشاركة في الحوار – الحدث، وسؤالها الاكبر ما هي المبررات الجوهرية التي تدفع الحريري الى سلوك درب الحوار في هذه المرحلة بالذات، واستطرادا ما هي الاهداف الحقيقية التي يبتغيها من وراء انطلاق قطار هذا الحوار؟
بطبيعة الحال لم تكن هذه الدوائر مقتنعة بالتبريرين اللذين حرص الحريري على سوقهما نحو ما يقرب من مئة مرة خلال حديثه أول من أمس. المبرر الاول: المصلحة الوطنية العليا، والثاني مخاطر الفتنة السنية – الشيعية وحرصه على سد السبل امامها وتلافيها. فكلا هذين التبريرين لم يكن مقنعا لهذه الدوائر انطلاقا من أمور عدة، أولها أن المصلحة الوطنية أمر كان دوما حاضرا وملحّا في كل لحظة، وتحديدا منذ عام 2005، ومع ذلك لم يبدِ “التيار الازرق” هذه الحماسة للذهاب الى الحوار. اما مخاطر الفتنة المذهبية فقد تراجعت في الاشهر الاربعة الاخيرة الى أدنى مستوياتها بفعل تطورات وتحولات عدة متدحرجة وخصوصا بعد الحرب الكونية على الارهاب. وعندما كانت مخاطر الفتنة في أعلى درجاتها قبل فترة تعامل الحريري وتياره بسلبية مطلقة مع دعوات أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري والنائب وليد جنبلاط وآخرون الى فتح أقنية التحاور والتواصل بين “المستقبل” والحزب، نظرا الى دور كل منهما في تبديد الاحتقان وتبريد التوترات للحيلولة دون الانجرار الى مهاوي الفتنة المذهبية.
اذاً، ثمة في رأي هذه الدوائر أسباب ومنطلقات اخرى مضمرة دفعت الحريري الى ارتضاء ما كان يعارضه سابقا أو لا يجد فيه فائدة.
وفي قراءة الدوائر عينها ان أبرز ما دفع الحريري الى هذا الخيار هو:
– ان التيار هو في طور ترجمة اقتناع بلغه اخيرا يفرض عليه اعادة النظر في كل مساره ونهجه وسلوكه في المرحلة الماضية، بما يعنيه من اعادة النظر في تحالفاته وفي عداواته وطريقة التعامل والمقاربة.
– ان الحاجة ملحة لدى “التيار الازرق” لكي يلاقي مرحلة بدأت معالمها تتبدى وتفرض نفسها، وهي مرحلة تتهاوى معها حسابات ورهانات على تحولات كانت مأمولة سابقا وخصوصا على المستوى الاقليمي.
إضافة الى ذلك، يتوجب على “المستقبل” سلوك سياسي داخلي مختلف مذ أعلن انخراطه في التحالف الدولي على الارهاب المتنامي والراغب في خرق الحدود وعبور الدول.
وفي أي حال تعتبر الدوائر عينها ان كلام الحريري أخيرا انه يقبل حوارا مفتوحا بلا شروط هو أمر ينتظره الحزب ومستعد للتجاوب معه.

السابق
«مفاوضات مباشرة» بقضية العسكريين المخطوفين
التالي
الجبهة الشعبية تؤكّد عدم انسحابها من القوة الأمنية في مخيم عين الحلوة