في لبنان: حي المنكوبين، حي الفقراء، حي المنبوذين

إنه حيّ المنكوبين، إنه حيّ الفقراء، إنه حيّ المنبوذين في هذا الوطن… هكذا يصفه أهله بعدما عشعش الفقر فيه مستقطبًا الخارجين عن القانون، والطامحين بإقامة إمارات وولايات منفصلة عن الدولة اللبنانيّة، مستغلين حال أولاد التبانة التي تُعتبر من أفقر مناطق لبنان، وأكثرها بعدًا من إنماء الدولة ومشاريعها.

في هذا الحيّ يعيش الناس في بيوت يتآكلها العفن والرطوبة، يستقرّ في جدرانها رصاص الاشتباكات الكثيرة التي دارت فيها، وتطبع أبنيتها آثار القذائف التي قتلت أهلها وشوّهت صورتها، فيما تترامى على أطراف طرقاته النفايات والأوساخ. في هذا الحيّ، تكثر القصص والحكايات، أفضلها مبكٍ ومحبِط. يتنقّل الهمّ في شوارعها على وجوه أهلها الراكضين وراء لقمة عيشهم، ومن ضمنهم أبو علي الذي يعيش في منزل متهالك مع عائلته، ينتظر حسنة من هنا وإعاشة من هناك يطعم منها أولاده.

منكوبين فقراء

أعيش من المزابل
تزوّج رضوان (أبو علي) من ديما منذ 11 عامًا، واستقرّا في باب التبانة، لديهما خمسة أولاد؛ ثلاثة في المدرسة، وإثنان في البيت أحدهما فتاة تعاني من إعاقة عقليّة. يقول أبو علي لـ”النهار”: “نعيش في منزل صغير مؤلّف من غرفتين ومطبخ وحمّام. لدي دراجة ناريّة وقاطرة، أجول على المزابل يوميًا، وأجمع التنك والحديد والبلاستيك وأبيعهم في سوق الأحد، أدخّل عشرة آلاف ليرة لبنانيّة كحدّ أقصى يوميًا، فيما إيجار البيت يبلغ 200 دولار أميركي، عدا عن الأكل والشرب والدواء”.

تقاطعه زوجته ديما قائلة: “عايشين ع قدنا، اللي بيشتغل في جوزي مناكل منه، لدينا مصروف خاصّ لابنتنا المريضة رؤية التي تعاني من نقص في دماغها، تبقى نائمة طوال الوقت إلّا حين تصيبها نوبة، فأعطيها دواءً يهدئها ولكنه لا يشفيها، فلا قدرة لنا على معالجتها، عرضناها على أطباء كثر، ولكنهم لم يستطيعوا خدمتنا ومعالجتها، نعطيها هذا الدواء، والباقي ع الله. يا ليت نجد علاجًا لها لنخرجها من هذا الوضع، أنا مستعدّة لتقبيل أقدام ويدي من يساعدها ويخرجها من هذه الحال”.

لا أريد لأطفالي هذا المستقبل
على الرغم من الأسى الذي يعانياه رضوان وديما، يبقى اتكالهما على الله وحده، فهما يوميًا يضعان رأسيهما على الوسادة شاكرين الله على كلّ نعمه، تقول ديما: “نحمدالله على كلّ نعمه وعلى ستره، إذا جعنا نجوع معًا، وإذا تعبنا نتعب معًا، منسكج ع بعض، الله بيبلي بيد وبيعين باليد الأخرى، أهل الخير كثر ويساعدوننا”.

طوال حياته كان يحلم أبو علي بتأمين حياة مستقرّة لأولاده وعائلته ويقول: “كنت أريد تأمين حياة نظيفة لأولادي، وأن يكبروا في بيئة صحيّة، فولدي مروان يلعب مع شقيقه موسى لعبة الحرب، لا أريدهم أن يكبروا في هذا الجوّ، ولكني لست قادرًا على استئجار منزل آخر خارج هذا الشارع. أتمنى لأولادي أن يخرجوا من هذا الوضع وأن يعيشوا أفضل مما عشناه نحن. ابنتي الكبرى تريد الدخول في السلك العسكري، وشقيقتها تريد أن تصبح معلّمة، ومروان يريد أن يصبح محاميًا. الله يقدّرني لحققلن أحلامن”.

فقّرونا ليستعبدوننا
يوميًا يطلّ عليهم جارهم سامر، الذي يعاني من حال الفقر نفسه، ليدلّهم على معونة ستقدّم هنا أو مساعدة ممكن أن يستحصلوا عليها من هناك، ويقول لـ”النهار” ما عجز أبو علي عن قوله: “أهل التبانة فقراء، همّهم إعالة أولادهم وعيلهم لا حمل الأسلحة، فعند دخول الجيش وبدء توزيع الإعاشات نسي الناس وجعهم، ونسوا أولادهم الذين ماتوا وبيوتهم التي دمّرت، وركضوا وراء ربطة الخبز. نسينا خلال يومين ماذا حصل على مدار سنين. الفقر يتكدّس من يوم إلى آخر، أولادي أكلوا اليوم لكن غدًا قد لا أستطيع إطعامهم”.

ويتابع: “مجتمعنا ليس بحاجة سوى إلى فرص عمل واستشفاء. السلاح ليس الحلّ، فلا أحد يستطيع الوقوف في وجه الدولة، نحن أولادها ونحمل الهوية اللبنانيّة، الذين حاربوا في التبانة ليسوا لبنانيين، هم فلسطينيون وسوريون وعرب. كانوا يستقوون علينا بقوّة السلاح. هذه المنطقة منكوبة منذ أربعين عامًا وستبقى كذلك، طالما ليس هناك أي نيّة لإحيائها ونهضتها. لا يريدون سوى الفقر لها، كي يسير أهلها وراءهم كالغنم كلّما ندهوا عليهم. نحن ننتظر مجيء سيارات الإعاشات لتوزّع الخبز علينا. نحن الشعب اللبناني بنينا الخليج لكننا لا نستطيع بناء بلدنا. نحن نتغرّب من بلدنا ليعيش الغرباء فيه. دعونا نعيش ونبحث عن لقمة عيشنا ونعلّم أولادنا، نريدهم أن يحملوا الورقة والقلم لا البندقية. لا نريد من الدولة سوى أن تنظر إلينا.

السابق
وزارة الاتصالات وضعت قيد التداول طابعا بريديا خاصا بالاستقلال
التالي
جريح باطلاق نار في عين الحلوة