عوارض اليأس الفلسطيني

العملية التي قام الفلسطينيان إبنا العمومة غسان وعديّ أبو جمل في كنيس هارنوف، والتي ادت الى مقتل أربعة إسرائيليين، حظيت بتغطية من “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” وبتأييد من “حماس” وقسم لا يستهان به من “فتح”، بقيادة مروان البرغوتي غير الرسمية، ومن داخل سجنه. أي انها، على الرغم من عفويتها، التي اكد عليها وزير الأمن العام نفسه، اسحق اهارونوفيتش، بوصفها ضمن “موجة من الرعب العفوي”، إلا انها تحظى بتأييد جموع الشعب الفلسطيني من دون سلطته الرسمية المعترف بها دولياً.

لذلك، فان الذين أيدوا عملية هارنوف، كما الذين أدانوها، لم يصيبوا إلا بالقدر القليل في مواقفهم، فكانوا أبعد ما يكون عن واقع الفلسطينيين ومعضلات تحررهم من الاحتلال. المؤيدون، ما زالوا راكبين قطار “المقاومة”، أي مقارعة إسرائيل بالسلاح. حجتهم ان العملية هي الرد الوحيد على التعنّت الإسرائيلي، وتصاعد تآكل المنازل المقدسية لصالح المستوطنات، وتوسع عدد المصلين الإسرائيليين في الحرم القدسي، ومنع الفلسطينيين الراغبين بالصلاة فيه، أو التضييق عليهم… وبأن المفاوضات لم تفضِ، ولن تفضي إلى شيء، والتجارب ماثلة أمامنا، وان الفلسطينيين اختاروا هذا النهج وهذا حقهم الخ. أما المستنكرون للعملية، ففكروا بالمقلوب تماماً: إذ قالوا ان العملية، الإرهابية، لن تؤدي إلا للمزيد من الإستيطان والعنف المتبادل؛ ذلك انه، برأيهم، المفاوضات وحدها سوف تضمن حقوق الفلسطينيين الخ.

والحال ان العملية، وأخواتها ممن سبقنها، جاءت لتقول شيئا آخر: بأن لا المفاوضات ولا السلاح أفضيا الى نتائج ولا أوقفا تسارع تآكل القدس الشرقية ومسجد الأقصى، بوتيرة سوف تفقد معها المدينة المقدسة ذاكرتها وفلسطينيتها، وعلى مدى قريب جداً. فلا إتفاق أوسلو، ولا الحروب على غزة، ولا العمليات الإنتحارية السابقة، ولا الضغوط الاميركية في بداية عهد أوباما، ولا… ولا… اللائحة طويلة، يمكنك ان تختار السلمية او الحربية منها؛ وسوف تخلص الى ملاحظة ان الأراضي الفلسطينية في الضفة والقطاع آخذة في التقلّص، وبأن الفلسطينيين أصبحوا أبعد عن حقوقهم من أي زمن مضى، وانه ربما كان الإحساس بالإقتراب من هذه الحقوق كان مجرد وهمْ، سواء تحت القنابل الحارقة، أو تحت قبب المفاوضات الشاقة. ربما الظرف أيضا يحول مسألة الحقوق هذه الى ملحمة أسطورية من اليأس، الذي لا يقاوم إلا بالوعي العميق به وبمترتباته.

لذلك لا يمكنك تأييد أو إدانة فعل اليأس الأخير هذا؛ فعملية قتل إسرائيليين في كنيس هار نوف، ليست طبعا عملية ملائكية، ولا هي عملية شيطانية؛ إنما هي من عوارض اليأس السياسي والوجودي للفلسطينيين. والعوارض حالة مرضية، يعرفها صاحبها، يعي بها، يتصرف بموجبها. والفلسطينيون بمرضهم هذا؛ يتصرفون على أساسه، ويغرفون منه قوة الاندفاعة نحو الموت، يدركون انهم ذاهبون الى مسلخ جديد من الطرد والحرمان والتيه. والمستعدون من بينهم لهذا الموت يقومون بحساب بسيط: طالما اننا من جنس الفناء السريع، فلتكن نهايتنا علينا وعليهم. فأبناء العمومة غسان وعديّ ابو جمل قتلوا بما توفر لهم من سلاح، فأس ومسدس، يقومون بعمليتهم احتجاجا على طردهم من بيوتهم في القدس الشرقية. وهم يتوقعون، بعد ذلك بأن اسرائيل سوف ترد على عمليتهم بطرد المزيد من سكان هذه البيوت، لا بل تفجير وتدمير بيتهم. هم لا يفكرون مثلنا، لا يرون ربحا او خسارة سياسية؛ يعلمون بأن موتهم هو مقابل موت الاسرائيلي، وليس من أجل استعادة بيوتهم، ليس لأنهم لا يحبون هذه البيوت، انما لأنهم يدركون بأن هذه الاستعادة مستحيلة.

معالجة المرض، لا عوارضه؛ والمرض خبيث، ولكن في الآن عينه، مقاومته اليائسة هي الخيار الوحيد. انها دينامكية تاريخية، ليس بوسع المنظمات الفلسطينية ولا الشعب الفلسطيني التحرر منها. ولكنها عملية إعصارية، وهي تؤذي الفسطينيين، بقدر ما تؤذي الاسرائيليين. انها دورة جديدة من العنف المتبادل، غير المتساوي. وهي لا تستحق أن تسمى إرهابا، على غرار إرهاب “داعش”، كما يفعل المعادون لتقاليد الممانعة الفكرية، او كما يصرح أوباما أو فرنسوا هولاند. حتى ولو كان هناك خطر لتسلل الارهاب الاسلامي عبر “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وغيرهما من المنظمات الفلسطينية الجهادية. حتى ولو إلتحق جهاديو الارهاب الاسلامي بالقضية الفلسطينية، فاستثمروها بنفس البراعة التي استثمرتها “الممانعة” الايرانية. وهذا امر مشكوك فيه على كل حال؛ فالجهاديون، لو تلاعبوا بالقضية الفلسطينية، لا يتمتعوا بسحر القيادة الإيرانية وعراقتها وتقيتها. وهم لن يحصلوا على دعمها، بعدما صارت تتمنى إبرام إتفاقاً مع الأميركيين، وتعمل من أجله بدأب، على قاعدة ترتيب “إقليمي” جديد لا تناهضه إسرائيل…
http://www.almodon.com/opinion/7c4b9884-ff4c-4692-ac83-b42e94000adc

السابق
تمديد المحادثات النووية الى أول تموز وحديث اميركي ــ روسي ــ ايراني
التالي
العاصفة «ميشا» تبلغ ذروتها الثلاثاء.. عواصف، رياح وثلوج