المياه المعبأة غير المرخصة ملوثة.. والمرخصة مشكوك بأمرها

بعد التأكيد ان لا غذاء سليما من دون سلامة النظم البيئية، يمكن القول أيضا ان لا مياه سليمة من دون بيئة سليمة وان تلوث المياه جزء لا يتجزأ من تلوث الغذاء.

تفتح قضية تلوث مياه الشرب والري ملفا كبيرا طالما تم تناوله، بالجملة والمفرق، من دون ان يصل الى نتيجة مرضية، لا بل تفاقم وتشعب الى درجة استحالة معالجته. السؤال الذي يطرح بداية: لماذا لم تستطع الدولة ان تؤمن المياه (المتوفرة) إلى المنازل سليمة وصالحة للشرب والاستخدامات كافة؟ وما هي أسباب فشل مصالح المياه في إدارة المحطات والشبكات وحسن صيانتها وتوزيعها بشكل عادل وآمن؟ ثم ما الذي أخّر معالجة مياه الصرف (المبتذلة) التي تعتبر الملوث الأول والأكبر للمياه في لبنان؟ ومسؤولية من مراقبة المياه الملوثة المستخدمة في الزراعة او في المصانع الغذائية والمسالخ والمنازل؟ وما قصة خصخصة المياه والسماح للقطاع الخاص ببيعها والتراجع عن اعتبارها ملكية عامة بإدارة الدولة… بحجة عدم كفايتها وقلة الثقة بنوعيتها، ليتبين بعد ذلك فضائح تلوث المياه المعبأة أيضا الأكثر تلوثا من مياه المصالح، تلك غير المرخصة وغير المراقبة، وتلك المرخصة والمشكوك بدوام مراقبتها والتزامها بمعايير الجودة!؟
هذه المواضيع وغيرها الكثير، يفترض ان يبدأ النقاش حولها بشكل عميق في اللجان الوزارية والنيابية، لا سيما بعد قرار وزير الصحة العامة وائل أبو فاعو الأخير رقم 1938/1 الذي طالب فيه بإقفال جميع معامل ومحلات تعبئة مياه الشرب غير المرخصة (التي يقدرها بـ800 شركة) والتي أظهرت الفحوصات التي أجرتها الوزارة انها ملوثة بمياه الصرف بنسبة 90%.
صحيح ان هذا الموضوع ليس جديدا وقد طرح أكثر من مرة لا سيما عامي 2003 – 2004، حين عرضت نتائج مشابهة في جلسة مغلقة في مجلس النواب عن فحوصات مياه مصالح وأخرى معبأة ونشرناها في «السفير»، ما دفع رئيس لجنة الأشغال العامة والطاقة النائب محمد قباني لعقد ندوات وورشات عمل لمحاولة إيجاد حل للموضوع، مع تحريك القضاء لإقفال المعامل غير المرخصة، لم تتابع بحجة ان المرسوم التنظيمي لتعبئة مياه الشرب الساري المفعول آنذاك صعب التطبيق وهناك من أراد تغيير المعايير لتسهيل الترخيص للشركات غير المرخصة، خصوصا أنها تسد حاجات كبيرة لمناطق كثيرة لا تصلها المياه الصالحة للشرب. وبقي ألوضع على حاله لحين إنتاج قانون جديد العام 2012، لم يطبق. إلا ان القرار بالامس بالإقفال يحمل مدلولات أخرى ويطرح إشكاليات كبيرة أكثر تعقيدا منها: ان قرار وزير الصحة جاء بناء على المرسوم الاشتراعي 108/83 الصادر بتاريخ 16/9/83 المتعلق بتنظيم استثمار المياه المرطبات المعبأة في أوعية، ولم يأت بناء على القانون رقم 210 الصادر بتاريخ 30/3/2012 المتعلق بـ»تنظيم معالجة وتكرير وتعبئة وبيع مياه الشرب المعبأة»! وهذا ما أكده النائب محمد قباني لـ»السفير». كما ان القانون الجديد الذي لم يطبق لا يحدد المختبرات المعتمدة لفحص المياه المعباة والتأكد من مطابقتها لمواصفات ليبنور، بينما يعتمد المرسوم الذي يريد فاعور تطبيقه على المختبر المركزي المقفل!
فكيف سيتم التعامل مع هذه الاشكاليات البالغة التعقيد وغيرها؟ وهل سنبقى نتعامل مع قضايا المياه بموسمية، في الصيف نطرح مسألة شحها وفي بداية الشتاء تلوثها، ام نعود الى طروحات استراتيجية تبدأ من استراتيجيا عامة وملزمة للبيئة ويندرج تحتها استراتيجيات للمياه والطاقة وسلامة الغذاء… وغيرها من القضايا؟
مع تزايد الشكوك حول سلامة مياه الشرب في لبنان، ولا سيما تلك التي تصل المنازل عبر الشبكات المهترئة، لجأ كثيرون لشراء المياه المعبأة في أوعية (الغالونات والقناني). ولان في لبنان بعض الشركات المرخصة التي تحتكر السوق، ومع تزايد الطلب، تم تأسيس شركات كثيرة في الكثير من المناطق اللبنانية لتعبئة المياه وبيعها من دون تراخيص، ان عبر السيترنات للاستعمالات المنزلية او عبر الغالونات والقناني للشرب. وقد طرحت اسئلة عدة بالنسبة لمياه السيترنات عندما يتم التحدث عن قلة المياه في لبنان: كيف تؤمن هذه الأخيرة المياه اذا لم يكن هناك مياه؟ وما مدى سلامتها؟ ما يؤكد ان المشكلة في لبنان هي في سوء الإدارة والتوزيع وغياب العدالة والدولة العادلة، وليس في ندرة وشح المياه.

بحسب القوانين والمراسيم المعمول بها في لبنان وحتى العام 2012، كان المرسوم الاشتراعي رقم 108 الصادر العام 1983 لتنظيم استثمار المياه والمرطبات المعبأة في أوعية، هو الذي ينظم هذا الموضوع، وإن وزارة الصحة العامة بموجبه هي المسؤولة عن التراخيص والمراقبة. لا بل ان المادة 18 تفرض على الوزارة أن تأخذ ثلاث عينات أسبوعيا من كل مصدر وترسلها الى المختبر المركزي لمراقبة تنفيذ الإجازات بكامل مراحلها ومراقبة جميع النواحي الفيزيائية والكيميائية والجرثومية. إلا ان المختبر المركزي اقفل منذ العام 2007 من دون أن يتأمن البديل «قانونيا». فحتى لو تم الاعتماد على مختبرات رسمية اخرى، يفترض ان يتم ترجمة ذلك في القوانين، وهو موضوع مركزي في قضية سلامة الغذاء عامة وسلامة مياه الشرب المعبأة خاصة يفترض مناقشته في اللجان الوزارية والنيابية سريعا.
من المصدر
تبرز في هذا الملف مشكلة عدم وجود آلية متكاملة لحماية المياه من المصدر ومراقبة كل آليات التعبئة والتسويق. فإذا كان قد تأكد (منذ سنوات) ان هناك الكثير من الشركات غير المرخصة تبيع الناس مياها معبأة رخيصة وملوثة، فان بعض الشركات المرخصة لا تلتزم بما تعلنه على العبوة، اي ان ما تبيعه «مياه معدنية وطبيعية»، اي من النبع مباشرة ومن دون معالجة… اذ تبين ان هناك من يحفر آبارا ويسحب المياه من جوف الأرض ويعالجها ويبيعها من أماكن غير محمية وغير نظيفة ولا تنطبق عليها الشروط… كما هناك من يقوم بتعبئة المياه من قساطل مصالح المياه ويبعها في الغالونات والقناني! ولطالما كانت وزارة الصحة تتكل على مختبرات الشركات نفسها للتأكد من سلامة المياه في غياب المختبر المركزي!
فإذا كانت مشكلة تلوث المياه العذبة في لبنان، هي في سوء الإدارة والتوزيع، وفي سوء الترشيد في الاستهلاك والتلوث وآليات الحماية والرقابة… فما معنى أن يكون السؤال: أي نوع من المياه نشرب؟ وأي شركة توزيع هي الأفضل؟! وما هي أسماء الشركات التي كشفت التحاليل التي أجريت عليها عدم سلامتها؟
فاليقين حول سلامة المياه، لا يأتي إلا من ضمن آلية محددة ورقابة مشددة ودورية تجريها السلطات الرسمية المختصة، المفضل أن تكون سلطات وإدارات متعددة كالصحة والبيئة والطاقة والمياه والاقتصاد والتجارة… التي عليها أن تتشدد في حماية المصادر (الينابيع والمياه السطحية والجوفية) أولا، وان تأخذ العينات من مصادر عدة (من النبع والمعمل ومن عينات عشوائية من العبوات المعبأة) لأكثر من مرة في الأسبوع.
المختبر المركزي
كانت وزارة الصحة، بحسب تحقيقات «السفير» السابقة، لا تقوم بفحص العينات إلا عند تقدم الشركات بملفاتها للحصول على الترخيص. ولا تعود لتأخذ العينات إلا مرة في السنة على الأكثر! أما الحجة التي تقدمها مصادر الوزارة لعدم التزامها بتطبيق المرسوم 108 الذي يلزمها بأخذ عينات 3 مرات في الأسبوع وفحصها… فهي في اتكالها على المختبرات الخاصة للشركات نفسها، ولا سيما المرخصة منها، وفي إقفال المختبر المركزي، الذي كان يقوم بهذه المهمة مجانا، وان فحص العينات في مختبرات معتمدة يكلف الخزينة أعباء لا تستطيع تحملها، ولا يلزم الشركات المعبِّئة!
أما حول حماية مصادر المياه في لبنان، والتي يمكن اعتبارها جوهر المشكلة، فقد حدد المرسوم رقم 10276 الصادر عام 1962 والمعدل بالمرسوم رقم 7007 الصادر العام 1967 كيفية حماية حرم الينابيع، وذلك بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح لجنة قوامها: ممثل عن المختبر المركزي في وزارة الصحة رئيسا، وممثلون عن وزارتي الطاقة والمياه والصحة أعضاء. واذ لم يطبق هذا المرسوم يوما، ولا عدّل… لا نعلم الى ماذا استند من قرر إقفال المختبر المركزي، لانتفاء الحاجة اليه، وله كل هذه المهمات الخطرة والحساسة لتأمين سلامة المياه في لبنان وحماية مصادرها، مع العلم أيضا بأن وزارة الصحة لا تستطيـع أن تحيــل أي مخـــالف على النيابة العامة اذا لم تكن مستندة الى تقارير وفحص عينات من المختبر المركزي تحديدا، يحسب القوانين المرعية!؟
اقتراح المعالجة والبيع
العام 2004 تحركت بعض الجهات الرسمية، وبعض ممثلي الشركات المرخصة للضغط على المعنيين لإقفال الشركات غير المرخصة. وتحركت النيابات العامة فعلا، وحصلت تدخلات سياسية، أسفرت عن إعطاء مهل محددة (مددت مرارا كما هي العادة عندنا) لتلك الشركات (غير المرخصة) لإصلاح وضعها، والتقدم بطلبات ترخيص قانونية. وسرعان ما تبين ان متطلبات وتكاليف الترخيص كبيرة جدا، لا يقدر عليها معظم تلك الشركات التي لم تكن تلتزم بمواصفات ومقاييس محددة ضمن القوانين المرعية الإجراء. وهنا عقدت جلسات نقاش عدة في مجلس النواب بدعوة من لجنة الأشغال العامة والنقل النيابية ضمت خبراء ومتخصصين في هذا المجال وممثلين عن الشركات، أفضت الى التوصل الى اقتراح قانون وضعت صيغته النهائية في 15/9/2004 مذيلا بتوقيع النائبين عبد الله قصير ومحمد قباني، والذي اعتبره البعض «مشروع تسوية»، يخفف من الشروط المطلوبة ليمكن صغار المستثمرين بهذا القطاع من تشريع وضعهم، وذلك بحجة انهم يبيعون المياه في مناطق لا تصلها مياه المصالح، او لا تصلها صالحة للشرب، وباسعار معقولة قياسا الى أسعار المياه المعبأة المرخصة. وقد اعترض على هذه التسوية ممثل وزارة الصحة وممثلون عن الشركات المرخصة. اما الاعتراضات المجردة فقد جاءت من البيئيين آنذاك معلنين خوفهم من اننا بدأنا في لبنان تشريع استخدام وتسويق مفهوم «مياه صالحة للشرب»، أي «مياه معالجة»، أي بدأنا بتسويق فكرة معالجة المياه الملوثة (لأسباب مختلفة)… في وقت كان يفترض ان نضع السياسات وان نطبق قوانين حماية مصادر المياه في لبنان، وان ننقل المياه النقية الطبيعية الى كل بيت ومواطن، باعتبار المياه (مثل الهواء تماما) حقا من حقوق الإنسان، لا يفترض تحويلها لسلعة تجارية والاتجار بها. والتأكيد ايضا ان المياه مادة حية، مادة غذائية، كونها تحتوي على معادن ضرورية للجسم والحياة (يتم القضاء عليها بعد معالجتها)، ويجب ان لا نعدم وسيلة لحمايتها بدلا من تشريع تحويلها الى سلعة، وغير آمنة أيضا.
كان الاقتراح يسمح للمستثمرين باستخدام مياه الشبكات، كمصدر، وقد تم التراجع عن هذا الاقتراح في القانون الصادر العام 2002 بعد الانتقادات التي تعرض لها هذا الاقتراح. فكيف سيتم التعامل مع القانون الجديد والتوفيق بينه وبين المرسوم الذي لا يزال يعتمده وزير الصحة؟ هو السؤال الذي يفترض مناقشته في العمق بعيدا عن الضجيج الفضائحي اليومي.

أهم مصادر تلوث المياه في لبنان

لعل أهم مصادر تلوث المياه في لبنان (السطحية والجوفية ومياه البحر) هي من مصادر عمرانية. فكلما تقدم العمران في المدن والقرى والمناطق، كلما تعرضت مصادر المياه الى التلوث. ويمكن تفصيل المصادر على الشكل التالي:
– مياه الصرف المنزلية وتلك المستخدمة في القطاع السياحي او الاستشفائي او التعليمي.
– الصناعية: لا سيما الصناعات المستهلكة للمياه في عمليات التنظيف والتصنيع والتبريد.
– مصادر زراعية من الأسمدة الكيميائية (ولا سيما النيترات والفوسفور) ومن المبيدات الكيميائية وترسباتها.
– تربية الثروة الحيوانية (ولا سيما المواشي والدواجن). بالإضافة الى روثها الذي يستخدم كمخصبات زراعية عضوية.
– مصادر مدنية (من الطرق ومواقف ومحطات توزيع المحروقات ومغاسل السيارات والمساحات المبنية).
– تلوث مياه الأمطار بعد اختلاطها بانبعاثات المصانع ومحطات إنتاج الطاقة والمحركات والمولدات والسيارات.
– التلوث من النفايات المنزلية ونفايات المسالخ والنفايات الصناعية والنفايات الطبية غير المعالجة، والمكبات العشوائية (على الشاطئ وفي الوديان) …الخ
– الآبار ذات القعر المفقود ولا سيما بعد ان تتحول الآبار التي لا يعثر فيها على مياه جوفية الى «جُور صحية».
– زيبار الزيتون الناتج من معاصر زيت الزيتون.
– المقالع والكسارت التي تنتج البودرة الناعمة والوحول بالاضافة الى المواد المتفجرة المستخدمة في تفجير الصخور والتي تتسرب الى الطبقات الجوفية وتتسبب بتلويث المياه.
– تملح المياه الجوفية واختلاطها بمياه البحر ولا سيما الأحواض الساحلية من جراء كثرة السحب منها.

السابق
بعد حملة «الفستان الشفاف» هيفا تتحدّى بالذهبي
التالي
سقوط مواطن في الصفرا من الطبقة الرابعة