سجال القرضاوي-رفسنجاني وعمق الأزمة المذهبية

القرضاوي-رفسنجاني
بعدما لامس الشيخ هاشمي رفسنجاني العصب الأكثر حساسية في الأزمة المتفاقمة في العلاقة بين السنة والشيعة، خرج رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين العلامة يوسف القرضاوي عن صمته شاكراً رفسنجاني على تصريحاته "المتأخرة"، ومطالباً بالأفعال لا الأقوال، ومضيفاً انتقادات أخرى على انتقاد رفسنجاني. هذا السجال، إن عكس شيئاً، فهو يعكس عمق الأزمة المذهبية.

قبل أيام، فاجأ الشيخ هاشمي رفسنجاني، رئيس مصلحة تشخيص النظام في إيران، الرأي العام بتصريحات، يبدو فيها وكأنه ينتقد المعتقدات الدينية السائدة في إيران تجاه قضايا حساسة وتثير الفرقة بين المسلمين. قال رفسنجاني: إن “شتم الصحابة والاحتفال بمقتل (الخليفة) عمر بن الخطاب قاد إلى ظهور تنظيمات إرهابية كالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية المعروف بداعش”. وتأتي هذه التصريحات وكأنها تكملة لانتقاد السياسة الإيرانية السائدة تجاه القضية السورية، قبل ثلاث سنوات، والتي اعتبر فيها أن ما يجري في سوريا “حركة شعب مقاوم” وأن “الوعي الشعبي في المنطقة لن يرحم حكامها”، وأن النظام السوري “يقتل شعباً أعزلاً”.

هذه المرة، ولأن رفسنجاني لامس العصب الأكثر حساسية في الأزمة المتفاقمة في العلاقة بين السنة والشيعة، خرج رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين العلامة يوسف القرضاوي عن صمته شاكراً رفسنجاني على تصريحاته “المتأخرة”، ومطالباً بالأفعال لا الأقوال، ومضيفاً انتقادات أخرى على انتقاد رفسنجاني: “تعظيم قبر أبي لؤلؤة المجوسي، قاتل عمر بن الخطاب، وعدم إقامة مسجد واحد للسنة في طهران، والتضييق على المسلمين السنة في إيران، ومحاولة نشر المذهب الشيعي في البلاد والمجتمعات السنية، وإضعاف السنة في العراق، ومقاتلتهم في سوريا بجانب النظام الطائفي المستبد القاتل، نظام بشار الأسد”. وبذلك يكون القرضاوي قد دمج بين المسألتين الدينية والسياسية، ورفع سقف الانتقاد وصولاً إلى قوله: “السنة ليسوا في الحقيقة فرقة تقابلها الشيعة، بل هم السواد الأعظم… وهم من حملوا الإسلام وحموه ودعوا إليه وضحوا في سبيله، ولولاهم لظل أهل إيران يعبدون النار… انتظرنا أن نرى من إخواننا في إيران أفعالاً على الأرض، تؤكد صدق توجههم للتقريب فعلاً لا قولاً، فلم نجد إلا كلمات المجاملة في مؤتمرات التقريب”.

وكان سبق هذه التصريحات بين الرجلين ما يشبه المناظرة التلفزيونية على قناة الجزيرة، في العام 2007، أعقبت انتقادات حادة للقرضاوي تجاه العناوين الدينية والسياسية لإيران في المنطقة، دعا خلالها القرضاوي مراجع الشيعة أن يصدروا فتوى صريحة بتحريم سب الصحابة، فرد رفسنجاني بأنهم يبدؤون خطبهم دائماً بالثناء على الصحابة”!

والواقع أن هذا النقاش المستجد يكتسب أهمية كبرى في هذه المرحلة السياسية التي يمر بها الإقليم، لأنه يبحث في جذور أهم المشكلات الكبرى التي تواجهها منطقتنا العربية وعلاقتها بإيران، فضلاً عن العلاقات المذهبية بين المسلمين داخل البلدان الإسلامية.

غير أن القراءة “الواعية” لهذه التصريحات ينبغي أن لا تجنح بعيداً عن الواقعية، فهي تعبر عن مقاربة مختلفة للملفات المطروحة أكثر مما تعبر عن اعتقاد مخالف للسائد في إيران ولدى غالبية الشيعة، فما يود أن يقوله رفسنجاني، أن بعض الممارسات والاحتفالات والمناسبات الشيعية تزيد في الشروخ الإسلامية دون فائدة، وهي “أضعفت (الأمة الإسلامية) أمام الدول الأخرى”.

وبعيداً عن مسألة التقية، التي تمنع من قبول أو نقاش أي موقف ديني أو سياسي شيعي بإيجابية، فإن هذا الموقف من رفسنجاني – وإن كان ليس مقصوداً منه الانقلاب على النظرة الدينية السلبية للشيعة تجاه الصحابة- إلا أنه يبقى جيداً في إطار تخفيف الاحتقان المذهبي السائد، لا سيما إذا تحول إلى أفعال.

وللتذكير، فإن رفسنجاني رئيس سابق لإيران (وهو يملك مؤسسات اقتصادية ضخمة)، ومرشح لخلافة المرشد الأعلى، وسبق أن زار وعائلته السعودية وتجول في مدنها (تعرض لموقف محرج في المسجد النبوي بسبب خطبة الشيخ عبد الرحمن الحذيفي وقتها)، كما أنه صاحب مواقف مثيرة للجدل، لعل من بين أشهرها انتقاده لـ “خرافات” الإمام الثاني عشر، ودعوته من “يروج لعودة المهدي إلى الجلوس إلى العلماء والابتعاد عن هذه الخرافات”، وهي تصريحات جاءت في خضم سجاله مع خصمه الانتخابي آنذاك أحمدي نجاد، ورداً منه على زعم نجاد أنه كان يقابل المهدي باستمرار ويتلقى التوجيهات منه، وكان قصد رفسنجاني منها رفض استغلال رجعة المهدي – كأصل اعتقادي- في المعارك السياسية، لكأنه كان يقول: نجاد يكذب وهو لم يقابل الإمام المهدي، وكفى خداعاً للبسطاء.

ثمة نظرة سلبية جداً من إيران هذه الأيام في العالم العربي. هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن المجتمع الإيراني غني بالنقاشات الفكرية التي لا يصلنا منها إلا المتشدد والمثير للفرقة، وأن الشعب الإيراني يشهد تغيرات مجتمعية لا يمكن للصورة التي يصنعها النظام أن تحجبها، وأن في إيران تصريحات خافتة أعمق وأهم من تصريحات رفسنجاني تصب في الإطار نفسه، وهي تحذر من خطر السياسات الإيرانية في المنطقة، وأنها تستجلب المخاطر الداخلية والخارجية على إيران فتضعفها، بالقدر نفسه الذي تُظهرها فيه قوية. هذه المعطيات لا تعني بالضرورة تغييراً في سياسات إيران، لكنها مؤشرات لا ينبغي أن تغيبها النظرة السلبية المسبقة.

السابق
أنباء عن جولة مفاوضات نووية جديدة منتصف الشهر المقبل في مسقط
التالي
بالفيديو: فضائح في الجو.. «تصرفات مقرفة» لركاب الطائرات