الهوية اللبنانية في فكر هاني فحص

السيد هاني فحص

أود في البداية توجيه الشكر لإذاعة صوت لبنان والمشرف عليها، سام منسى، على نشر هذا الكتاب الذي يتضمن أحاديث ومقابلات أجرتها الإذاعة مع السيد هاني فحص.

إنها خطوة لافتة بمضامينها التواصلبة في زمن استنفار العصبيات. وقد أشار الرئيس أمين الجميل في الإهداء الذي وقعه الى أهمية السيدفي “زمن تتهدم فيه مجتمعات وتنهار فيه دول”، فيما ركز الصديق سام منسى في تقديمه للكتاب على “أهمية الحوار يحثاً عما يجمع لتطويره وتأصيله، ومواجهة لما يفرق للاحتراز منه وتبديده”.

وقد تزامن كتاب “هاني فحص… على مسؤوليتي” مع صدور كتّيب تضمن عدداً من المقالات التي كتبت عنه بعد وفاته تولى جمعها ونشرها جمعية “معاً نعيد البناء” التي أسسها الأب مارون عطالله، وجمعية “فرح العطاء” التي يشرف عليها ملحم خلف، وذلك بمناسبة الصلاة المشتركة التي اقيمت بتاريخ 24 تشرين الأول 2014 في كنيسة مار الياس- انطلياس، والتي لم تكن مجرد صلاة، بل أقل ما يمكن القول فيها انها مهرجان روحي، جسّد العيش المشترك والوحدة بأبهى صورهما.

في هذا الكناب شرح لمعنى الهوية اللبنانية وجمال هذا المعنى.

فالهوية اللبنانية في تعليم السيد هاني هي هوية تحترم تعدد الانتماءات في المجتمع وتعدد المكونات في داخل كل واحد منا ، فلا تختزلها بانتماء واحد على حساب الانتماءات الأخرى. وهذا التعدد، يقول السيد، ” ليس جمالية شكلية، بل هو مضمون عميق. إنه أطروحة حملها لبنان، وهو قادر على حملها ولا يجوز أن يتوقف عن ذلك” .

الهوية اللبنانية كما فهمها على حقيقتها هي هوية تقيم عيشاً مشتركاً في داخل كل واحد منا وفي ما بيننا. وهي هوية تحترم فرادة الانسان وحقه في أن يكون سيد نفسه، فلا تنظر اليه مجرد عضو في جماعة لا يملك فيها حق المشاركة في تقرير مصيره.

خاض هاني فحص كل التجارب من جنوب لبنان الى ايران مروراً بفلسطين، ذهاباً وإياباً، وكان له شجاعة الاقدام على استخلاص العبر والدروس منها، فتصالح مع نفسه وتصالح مع الآخر، مدركاً أن اللجوء الى العنف، مهما تعددت الأسباب، لا يؤدي الا الى خراب عميم: تدمير الآخر وتدمير الذات.

يقول السيد عن تجربته: “أنا رجل دين،وقد أجريت نقداً عميقاً لتجربتي أثناء الحرب أو الحروب اللبنانية، بدءًا من العام 1975… وقد اعترفت وأعترف بأنّني شاركت في الحرب، أحياناً بالصمت، وأحياناً بالكلام، وربما يالفعل أيضاً. واكتشفت أن لا حق مطلقاً في هذه الحروب وفي كل الحروب الداخلية، وأيضاً أن لا باطل مطلقاً. فكلنا شركاء حرب وشركاء في آثامها وبشاعتها وآثارها المدمرة” .

بعد تلك التجربة والدروس التي استخلصها، ذهب السيد الى فكرة العيش المشترك والوسيلة التي اعتمدها كانت الحوار الذي شرع في تعلّم وتعليم لغتهونشر ثقافته. والحوار في معناه الأول، يقول السيد، هو اكتشاف الذات في الآخر، ومعاونة الآخر على اكتشاف ذاته من دون إلغاء أي خصوصية. ويضيف: أنا أعيش في فضاء الحوار، ولا أريد أن أغادره لأنني أحسست بالنعمة، نعمة معرفة ذاتي ومعرفة الآخرين، نعمة معرفة جمال الاختلاف، وأدعو كل من أحب الى أن يعيش هذه النعمة، رغم كل المصاعب والعقبات “.

التقيت السيد في مطلع التسعينات، فتشاركنا في تأسيس “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني” الذي عمل على تنقية الذاكرة من أجل طي صفحة الحرب وعلى بلورة الأسس والمفاهيم التي تسمح بإعادة تأسيس عيشنا المشترك بشروط الدولة لا بشروط طائفة أو ميليشيا. والدولة المطلوبة بنظر السيد هي الدولة المدنية.

يقول: “أنا كرجل دين أريد الدولة من أجل الدين والمدنيّة معاً، ومن أجل الدنيا والآخرة. وإذا ما بقيت فكرة الدولة مسكونة بالرغبة في انتاج الدين، وبقي الدين مشغولاً بانتاج الدولة، فلن تكون النتيجة الا خراباً في الدين والدولة “.

ويضيف: نحن بحاجة الى شيء أو كثير من تحرير الدين من الدولة والسياسة، وتحرير السياسة والدولة من الدين، أي الى دولة مدنية تحترم الدين ويحترمها. له اختصاصه ولها اختصاصها، وهذا لا يمنع الدين بل يوجب عليه أن يكون رقيباً أخلاقياً على الدولة، والدولة المدنية هي الضمان لتوازن النشاط الديني بين الدين والسياسة “.

أيها الأصدقاء،

كان السيد مسكوناً بسؤال: ما الذي ينبغي أن نفعله لوقف هذا العنف الذي يجتاح المنطقة بعد أن تمت مصادرة المقدس وتحويله من دافع الى التواصل مع الآخر للعيش معه بسلام الى سلاح لإلغائه.

كان يدرك السيد تمام الادراك “أن الفتنة أو الحرب الأهلية التي يحلم بها ويعمل لها النظام السوري تتّفق مع رغبته في تسويق جرائمه، على اعتبار أن الحرب الأهلية، اذا وقعت، هي أخطر وأبشع من كل هذه الجرائم”.

ورأى تفادياً للكارثة “أن من واجبه مصارحة ايران بأنها ملزمة ومضطرة الى التقاط اللحظة والمؤشر في دقّة أكبر، خاصة في لبنان، وأن تتصرف بشجاعة وثقة لا بقوة فقط، وأن تبادر الى التشجيع والحماية والرعاية لحوار جاد، لا ينتظر نهايات الواقع المعقد في سوريا والحامل لكل الاحتمالات

في آخر نص أرسله السيد هاني من المستشفى الى المجتمعين في “لقاء سيدة الجبل”، دعا بحرارة الى قيام الدولة الآن وقبل فوات الأوان. قال: “المطلوب دولة، دبّروا لنا دولة”. كان هذا نداءه الأخير، بل صرخَتَه الأخيرة.

كلمة القيت في ندوة صوت لبنان عن كتاب هاني فحص “على مسؤوليتي” الثلاثاء18 تشرين الثاني 2014

السابق
علي فضل الله التقى وفد المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب
التالي
لم يكن هاني فحص سبَّابةً مرفوعة*