عملية كنيس القدس: الإنسانية الاستنسابية (1/3)

عملية القدس
تفتح "جنوبية" ملف "عملية كنيس القدس" التي راح ضحيتها 4 إسرائيليين في كنيس بالقدس المحتلّة. وتفتح النقاش على مصراعيه حول أخلقيتها ومشروعيتها وأحقيّتها. المقالة الأولى للزميل جنى الحسن التي تسأل عن الشهيد الطفل محمد أبو خضير الفلسطيني من حي شعفاط بالقدس، الذي خطف وعذب وأحرق وهو على قيد الحياة على أيدي مستوطنين متطرفين في 2 تموز 2014. وتسأل العرب: لماذا لم يحفّزنا على الحراك الشعبي؟ أين كانت الإنسانية آنذاك؟

أنتجت عملية القدس التي طعن خلالها فلسطينيون مستوطنين إسرائيليين نقاشاً أو بالأحرى جدلاً حول مفهوم الإرهاب واستخدام العنف. وأتت الإدانات من عدة ناشطين لما وصفوه بـ”اعتداء على الأبرياء”، رفضاً لاستهداف المدنيين. كان النقاش حول الاعتداء وإن كان استخدام السكين صائباً، إلخ.

المؤسف فعلياً أنّنا لم نسمع هذه الأصوات عندما كانت هناك ضرورة لذلك، ولم نسمع اعتراضات على الهمجية في منع المصلّين من الوصول إلى القدس. والحقيقة، أنّنا إن كنا ندين للإنسانية بشيء، فإن أصواتنا لا يجب أن تصمت ولا لدقيقة واحدة، لأنّ الفلسطينيين مطعونون في إنسانيتهم، رجالاً ونساء وأطفال، كل لحظة على مدار الساعة.

هؤلاء المتأثرون إنسانياً بمشهد قتل أعضاء الكنيس الإسرائيلي هم أنفسهم من هاجم الفتاتين السوريتين اللّتين غنتا للسلام ونكشوا ماضيهم ليخبرونا أنّهما من “شبيحة الأسد”. هل يتماشى هذا مع حب الآخر مثلاً وتقبّله؟ أم أن الفلسطيني محكوم بأن يكون وحده في دمه؟

تعود الذاكرة، في مشهد الموت، إلى الشهيد الطفل محمد أبو خضير الفلسطيني من حي شعفاط بالقدس، هو الذي خطف وعذب وأحرق وهو على قيد الحياة على أيدي مستوطنين متطرفين يوم 2 تموز 2014 وقد عثر على جثته في أحراش دير ياسين. ماذا فعل بنا مشهداً مهذا، كعرب، ولماذا لم يحفّزنا على الحراك الشعبي؟ أين كانت الإنسانية آنذاك؟

كنت أشاهد منذ يومين فيديو لزوجة أحد الذين استشهدوا في القدس، كانت المرأة تصف سلميّة زوجها وتعبّر عن الأسى لأنّه لم يستطع أن يسجّل ولده في المدرسة أو شيء من هذا القبيل، ويبدو كان متجهاً لعمل كهذا أثناء قتله. ما ذنبه ليُقتل؟ هذه حكاية عابرة، بين آلاف المآسي الفلسطينية التي لم نكن لنجدها لولا الاحتلال، هذا الاحتلال القبيح الذي لا يوفّر فرصة للإساءة إلى صورة الفلسطيني ولعب دور الضحية، بينما هو الجلّاد الأبدي.

لا تحتاج الأمور حتى عودة إلى الذاكرة، لنلقي نظرة على مئات آلاف الفلسطينيين المشتتين في بلاد اللجوء، بلا حقوق وبمأساة يومية، لننظر إلى المخيّمات في لبنان ولننظر إلى فلسطين الداخل، والحصار الذي يعيشه هل البلاد وفصل غزة عن الضفة وما إلى ذلك من ممارسات يومية وأسر واعتقال لأطفال، و…

هذا الإسرائيلي الذي جلس يشاهد أبناء غزة يموتون وهو يأكل “البوشار” ويشاهد الموت ويشجّعه كأنّ الأموات أمامه دمى لن ينفع معه السلام، ولا الوداعة. هي النفس البشرية إجمالاً، تقضي على الضعيف أو تتعنّت تجاهه. هل كان يمكن لليهود مثلاً أن يذهبوا إلى هتلر ويقولوا له: “أرجوك لا تقتلنا”. هل كان هذا ليرفق بهم؟ هل تعلّموا هم الرحمة مثلاً من مأساتهم؟

لنفترض مثلاً أن السوريين استمروا في تلقي عنف بشار الأسد بسلام، هل كان العالم لينصفهم؟ طبعاً لا. لم ينصفهم أحد في مجزرة حماه حين بقوا سلميين. كل هذه الحالات تعيدنا إلى سؤال أساسي، هل العنف مسموح ومقبول أم الشفقة على الإسرائيلي؟ مسألة العدالة والإنسانية في مجتمعاتنا تعاني من مشكلة جوهرية وهي ربط الإنسانية بالسياسة والحسابات الضيقة وإدخالها في هذا النفق.

ربما في براءة الحياة، نقول نحن ضد الدم والحرب والعنف والخ. ولا أحد – لا أحد معتدى عليه – يحب المعركة، ولا حتى الفلسطيني الذي يدافع عن حقوقه. ولكن ما البديل؟ في أحد نصوصه، يصف الكاتب اللبناني جبران خليل جبران معاناة المحبة في محاولتها للمحافظة على براءتها، وكيف ان اللطف يُفهم كضعف، ويقول في “اليقظة الأخيرة”: “إنكم لا تحبون سوى السيوف التي تطعن قلوبكم والسهام التي تخرق صدوركم”. يعود جبران إلى العنف كلغة لا تحبذها المحبة لكن تضطر أن تسلكها لكي يصبح صوتها مسموحاً.

إن الخيار الفلسطيني ليس الدمار والموت، لكن هذا الشعب يجد نفسه مضهداً يومياً، والاستعمار لا يخاطب الموت فقط، هو استعمار يومي، يدمّر الهوية والرمز والكيان، ويفتت العائلات، ويضيّع الشعب، ويؤدي إلى انفصامات ومشاكل في النسيج الداخلي الفلسطيني. إنّه يؤدي إلى الكرامة المهانة والعبث والموت، وبالتالي لا يصبح العنف كردّ فعل مباحاً فحسب، بل مؤلماً.

المؤسف أننا نسينا أن الاسرائيلي محتلّ وأن وجوده على الأراضي الفلسطينية مرفوض وقد نجح في أن يشرّبنا صورته المدنية وهي صورة لا تستحق حتى أن نفكّر بها. هو محتلّ، ووجوده غير مبرّر، وهو معتدي ويجب أن يعاقب ويرحل وأن يقلق. يجب ألا يصبح أمراً واقعاً لأّنّه سيزداد بطشاً.

نعم، نحن لسنا هواة عنف، ولا دعاة للقتل، ولا نحن همجيّون أو حاقدون نحب الموت. ولكن، نحن أيضاً لا نفهم لماذا يجب أن نحزن على عدوّ إسرائيلي، ينمو كل يوم وهو يحلم بالقضاء على الفلسطيني و”يرضع” كراهية العرب كما “يرضع” الحليب من ثدي أمّه. مشكلتنا ربما الفعلية هي أننا لا نكره بما يكفي، في الحالة الإسرائيلية، ولا نعرف أن نحقد مثلهم ولا أن نعبّر عن مآسينا و”نتوسّل” من خلالها اهتمام العالم كما فعلوا.

وربما أكثر ما قد يعبّر عن الفكرة التي أريد إيصالها هو ما اختصره الشاب الفلسطيني أنيس غنيمة في جملتين على حائط “الفيسبوك” حين كتب: “أنا ضدّ القتل وأنتِ كذلك وهؤلاء الشباب كلهم ضدّه، أقسم لكِ هم كذلك، هم أكثر من أي شيء يكرهون القتل، لكن لتتخيلي مدى فظاعة هذا الاحتلال، انه يجبرهم على فعل ما يكرهون!”.

السابق
صالحي: إيران لن تتنازل في مسألة تحويل مفاعل «اراك»
التالي
لوائح متتالية لمطاعم غير مطابقة المواصفات في جميع المناطق