قمة العشرين وعزل روسيا

لن تساهم محاولات عزل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ديبلوماسياً في قمة أستراليا في ترسيخ السلام على وجه المعمورة. وهي علامة على ضعف السياسة العالمية وليس على قوتها. واليوم، الخطر البارز هو احتمال ذواء الصيغ التفاوضية بين روسيا والعالم وانقطاع جسور التواصل معها، في وقت تبرز حاجة ملحّة إلى الحوار. وأثارت مغادرة الرئيس الروسي قمة مجموعة العشرين مبكراً جدلاً ساخناً في وسائل الإعلام الدولية التي رأت أنه ردّ بوتين على الاستقبال البارد له. وأشار مراقبون إلى المكان الجانبي أو الهامشي الذي خصص لبوتين في الصورة التذكارية لقادة «العشرين»، وتناوله الغداء وحيداً، وكلام الرئيس الاميركي باراك أوباما على أن بلاده هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، وأنّ روسيا تحتل المرتبة الثالثة في قائمة التهديدات العالميّة بعد «إيبولا» و»الدولة الإسلامية». ولكن إذا كان الرئيس الروسي شعر فعلاً بالإهانة وغادر القمة باكراً نتيجة ذلك، فلا شك في ان ما حصل يلحق الضرر بروسيا والمجتمع الدولي.

ولكن لماذا يروّجون في العالم لصورة بوتين المُهان؟ فهل يسعون إلى إبلاغ النخبة الروسية أن الزعيم الحالي للبلاد لا مستقبل له؟ لكن النخبة هذه قد لا تتفاعل مع هذه الإشارات، وقد تفر من البلاد في أقرب وقت ممكن أو تلتف أكثر حول «الزعيم الوطني»، خشية الفوضى في البلاد. واستبعدت «تلغراف» البريطانية أن يساهم «عزل» الغرب بوتين في الساحة العالمية في إضعاف شعبيته في الداخل. والواقع إن الأمة التي نجت من ستالينغراد وتجاوزت بعدها نحو نصف قرن من العزلة الاقتصادية إثر الحرب العالمية الثانية، ومُستبعد أن تكون أول من يتراجع في المواجهة الحالية مع الغرب.

وفشل بوتين في إقناع قادة «العشرين» بأن نيات روسيا سلميّة، تحديداً إزاء أوكرانيا، على رغم إعلان موسكو عدم إلزام كييف الدفع المبكر لمبلغ 3 بلايين دولار، هي الدفعة المستحقة للقروض الممنوحة لأوكرانيا في عهد يانوكوفيتش أواخر 2013. وأرجئ موعد التسديد لمنح أوكرانيا فرصة للوقوف على قدميها. وأخفقت «مجموعة العشرين» في إقناع بوتين بالاعتراف بأن الجيش الروسي يرابط في أوكرانيا، أو بالتراجع عن موقفه.

إثر ضمّ القرم، أعلنت روسيا أنها لا تحتاج الى مجموعة «الثماني». ولكن، اليوم، لا يسعها قول الأمر ذاته في مجموعة «العشرين». التي لم تُستبعَد منها، لكنها عوملت على أنها ليست شريكاً أو نداً. وتحول روسيا إلى دخيل في «العشرين»، علامة على أنّ بلدنا على شفير الخروج من صفّ الدول الرئيسية في السياسة العالمية، على رغم أن نهج بوتين في أوكرانيا وخطابه في سوتشي يرميان الى الحفاظ على موقع روسيا الرائد في السياسة العالمية. وحريّ بموسكو أن تدرك أن تجميد الصراع الأوكراني لا يصيب التوجه الأوروبي لأوكرانيا بالشلل فحسب، بل يقوّض، كذلك، دور روسيا في السياسة العالمية.

هل يمكن العالم اليوم الاستغناء عن روسيا؟ يساهم بلدنا في نحو 3 في المئة من الناتج العالمي، وهو إحدى أكبر الدول المصدرة للطاقة، والاستغناء عنها في السوق العالمية للنفط ممكن، لكنه عسير في سوق الغاز. وأوروبا غير قادرة على الاستغناء عن الغاز الروسي، كما لا تستطيع روسيا أن تستغني عن إمدادات الغاز إلى القارة. فالترابط الاقتصادي بين الغرب وروسيا، على رغم العقوبات، لن يطوى في القريب العاجل. ويبدو ان حلفاءنا المحتملين في مجموعة «بريكس» لا يرحبون بالتعاون الوثيق مع دولة مشاركة في الحرب. فشاغل البرازيل والهند، ناهيك عن الصين، هو الاستقرار الاقتصادي. وترى هذه الدول أن حليفاً دخل في مواجهة مع العالم كله، هو عبء مرهق، لذا، لن تعزز هذه الدول العلاقات بروسيا على حساب العلاقات بأميركا أو الاتحاد الأوروبي.

والسؤال البارز اليوم: هل روسيا، في ظل مستوى نموها الاقتصادي وقيمة عملتها، واعتماد المالية العامة على أسعار الطاقة العالميّة، قادرة على العيش في عزلة سياسية؟ على مستوى الخطاب السياسي تبدو مستعدة وقادرة، لكن التاريخ الحديث لم يسبق له ان عرف بلداً معزولاً سياسياً يحتفظ بمكانته العالمية. والعزلة أو العقوبات لن تعزز قوة البلد.

لذا، تمس الحاجة الى الحوار. وهذا ما حضت عليه المستشارة الالمانية أنغيلا مركل، بعد القمة. لكن نوع الحوار لا يستخف به. فرئيس روسيا الذي يحبذ القوة، لن يحمله الموضع الهامشي الذي خصص له في صورة قمة «العشرين» على تغيير سياساته.

السابق
تأجيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية الى العاشر من كانون الاول المقبل
التالي
فلسطيني يحتجز سيارة لنقل النفايات