مجوس لبنان: أقلية تريد دولة

ليس التنوع في لبنان حكراً على العرف والتقاليد وتقاسم السلطة. يتعدى التنوع إطار الطوائف الـ18 التي حددها الدستور، والتي تقاسمت في ما بينها السلطة والحكم وحتى الصراعات. رغم ذلك يبقى الآخر المعلوم هاجساً للبعض، فيما الآخر غير المعلوم محط خرافات وأساطير وحتى النبذ الإجتماعي.

ليس اليهود وما تبقى منهم في لبنان، وحدهم الأقلية التي تحاول العودة الى الظهور أو إلى تأكيد وجودها وحقوقها، ولبنانيتها. ثمة في بلد الـ10452 كلم أكثر من أقلية تجعل تحديد وجهه أو سيطرة طائفة على أخرى مستحيلاً، رغم أن التقبل لا يزال بعيداً عن الطوائف المتصارعة.

اللقاء بمجوسي او زردشتي، في شوارع بيروت قد يبدو أمراً خيالياً للبعض. خيالياً نسبة إلى أن البعض في لبنان يظن أنها ديانة إنقرضت، ونسبة إلى أن البعض الآخر وإن أدرك وجودهم حول العالم، لا يعلم وجودهم في لبنان، ليس كلاجئين أو طارئين بل كلبنانيين منذ أكثر من 200 عام على أقل تقدير، أي قبل نشوء لبنان الكبير على صورته الحالية.

أكثر ما يثير سخط مجوس لبنان عموماً، هي تلك الصورة المرسومة حولهم بوصفهم عبدة للنار. يقول أحدهم إن اللبنانيين على إختلاف طوائفهم قد يتقبلون الديانات الثلاثة المعروفة، لكن تقبل التعايش مع “مجوسي” أو “سيخي” مثلاً لا تزال تشكل لهم صدمة يرفضونها.

يعيش المجوس ضمن “الكانتونات” الطائفية اللبنانية، بين الشيعة والسنة والمسحيين على حد سواء. تسأل أحدهم ما أكثر ما يقلقكم، يقول: النظرة الإجتماعية لنا. يشبه حالتهم بالفرز الطائفي الذي جعلهم “شتيمة” يطلقها السنة بحق الشيعة من دون وعي. يضحك: “أنا مجوسي”.

في لوائح الشطب الإنتخابية، تشير إحصاءات وزارة الداخلية الى نحو 30 ناخبا مجوسيا. يقارب الرقم الحقيقة، اذ إنه في لبنان ما يزيد بقليل عن 100 مجوسي بينهم 60 ملتزمين دينياً فيما البقية إندمجت في مجتماعاتها وغيرت دينها، رغم أنها لاتزال تحافظ على بعض العادات والتقاليد مثل عيد النوروز واحيائه.

يعيش المجوس في لبنان، في السر والخفاء. عندما قدموا الى لبنان هرباً، قبل أكثر من 200 عاماً، لم يكن بينهم نساء. واجهوا صعوبات في تأسيس أسر جديدة، نظراً إلى النظرة النمطية المرسومة حولهم منذ عقود وسنوات. نجحوا في التزاوج والتكاثر والإنجاب، تقبلهم البعض، ورفضهم البعض الآخر، فقرروا بعيداً عن الضوضاء العيش بسلام وأمن وصمت.

الإندماج في المجتمعات لا يعني أن المجوس يشعرون بالأمن في بلد التنوع فرضياً. التماهي حتى مع أسماء مناطق سكنهم يدل على الخوف المستحكم بهم، وعلى قلقهم، من إنكشاف أمرهم. يبدو الأمر محقاً “في ظل الصراع الطائفي والخرافات والأساطير خصوصاً أن البعض في لبنان لا يزال يعتقد أننا عبدة شياطين مثلاً”. يقول مجوسي.

يمارس الزردشتيون اللبنانيون طقوسهم في غرف مغلقة، وراء أبواب موصدة، خوفاً، يحاولون بما تيسر إبقاء الطائفة أو الديانة حاضرة، رغم صعوبة ذلك نظراً الى السرية المحكومين بها وإلى عددهم القليل. رغم ذلك يمارسونها منذ أن حضروا الى لبنان من دون انقطاع، فرادى وجماعات.

بعض الطقوس قرروا التخلي عنها طوعاً. نظراً إلى صعوبة ممارستها في لبنان، ولتفادي الإشكالات وانكشاف أمرهم، حفاظاً على سلامتهم وأمنهم. من هذه العادات طقوس الدفن التي تقول بضرورة عدم خلط جسد الإنسان بالنار أو المياه أو الهواء أو التراب، لذلك يجب أن يعلق الجسد على أبراج شاهقة لتأكله الجوارح. ونظراً إلى استحالة ذلك يدفن المجوسي في لبنان وفق طقوس اللبنانيين أي تحت الارض.

لماذا في السر؟ لماذا لا يجرؤ المجوس على العيش في العلن مثلهم مثل الطوائف الأخرى؟ يقول أحدهم: “اللبناني وبالعافية متقبل الآخر المعلوم له فكيف بالآخر الذي تحوم حوله الأساطير والروايات الخرافية البعيدة كل البعد عن الحقيقية”.

يؤمن مجوس لبنان، بلبنانيتهم. أكثر من غيرهم يبدون متمسكين بدولة علمانية. لا تعنيهم طروحات التقسيم. يدركون نظراً إلى عددهم أنه وحدها الدولة المدنية العلمانية هي من تحفظ إستمرارهم في لبنان وفق التساوي مع الآخرين، في الحقوق والواجبات. مُسلّمة أدركها مجوس لبنان قبل الآخرين الذين لا يزالون أسرى المحاور الإقليمية وهواجس الأقلية وفائض القوة العسكرية أو العددية.

عندما يحاجج المجوس أحداً في ديانتهم، يحاولون التأكيد على أنهم ليسوا خرافات، وأنهم مثلهم مثل الديانات الأخرى. بشر يؤمنون بالإنسان، ويؤمنون بإله واحد كما الديانات التوحيدية. “أهورا ما زدا في لغتنا هو الله في اللغة العربية، ونحن أيضاً نقول: إلهي أهورا مزذا، إني لأدرك أنك أنت وحدك الإله وأنك الأوحد الأحد، تماماً كما يقول الإسلام : لا إله إلا الله”. لا يكمن التقاطع بين الديانة الإسلامية والزردشتية فقط في التوحيد. يصلي الزرداشتيون خمس مرات في اليوم تماماً كالإسلام، يتوضؤون ويحجون أيضاً.

يكرر المجوس عند الحديث مع أحدهم أنهم لبنانيون. أقصى طموحاتهم اليوم تكمن في ألا يرتبط إسمهم بـ”شتيمة”. أن يعيشوا بسلام وبأمن، في السر أو العلن لا فرق. أما أحلامهم فتبدو بعيدة في دولة تقول إنها ديمقراطية، ومتنوعة، وتكمن في المساواة وفي مدنية تحفظهم في بلدهم من دون أن يضطروا الى مغادرته، فقط لأنهم “مجوس” أو آخر يثير ريبة بعض اللبنانيين من دون حتى أن يتكفلوا عناء التعرف اليه والى معتقداته الدينية.

 

السابق
«حماس» تدعو لمواصلة عمليات «الثأر» ضد إسرائيل
التالي
أين المشروع الآخر للمعارضة السورية.. غير «تهجير» العلويّين؟