سيرة اجتهاد في النص الديني واللغة والسياسة

عبدالله العلايلي

يكتسب الإحتفال بمئوية الشيخ عبد الله العلايلي أهمية مثلى، يكمن مبعثها في الصعود المرعب للفكر والسلوك “الداعشيين”. العرب، شعوباً وقبائل وأشباه أنظمة، بحاجة الى علاّمة مثله أبدع في اللغة فأمسك بناصيتها، واجتهد في النص الديني فأصاب مقتلاً من سلوك العرب “التُرهي أو الميثولوجي”، وتربّع على سدة الإصلاح التنويري عند المسلمين، في فترة النهضة للفكر الأممي والقومي آنذاك.

نقد العلايلي اللاذع للفكر الديني ورجاله، وهو نفسه رجل دين وجزء من المؤسسة الدينية، جرأة تحاكي المغامرة. يقول: ليس الفقيه من يحفظ “قال وقيل” بل من يستنبط ويستخرج “قال وقيل”: إنها دعوة للإجتهاد وليس للنقل. جرأته هذه كانت سبباً كافياً ليصوّب الأصوليون وصنميو النص على نتاجه ويسمّوه “الشيخ الأحمر”. لم تكن تسميته هذه، براعة أو حذاقة من مهاجميه والمختلفين معه إلى حد التناقض. بل هو من أوجد المسوّغ لها حين انبرى في السياسة قائلاً: “أنا لا أنفي المبدأ، وربما كنت أكثر الناس التقاء مع الفكر الشيوعي، كما بالضبط اختلف بنقاط عديدة معه”. فالعلاّمة تلاقى مع أفكار “حركة أنصار السلم” وأسس مع الراحل الكبير كمال جنبلاط الحزب التقدمي الإشتراكي قبل أن يستقيل وينصرف إلى كتابة “المعجم”.
الثابت في الإهمال المتمادي فصولاً لسيرة الشيخ عبد الله العلايلي، أن نشأته ونموّه في بيئة إسلامية شبّ على قيدها، لم يحمياه البتة لا من تهجمات الأصوليين، ولا ممن اكتشفوا ليبيراليتهم متأخراً. في الحالين، كان مقصداً للنقد ونقطة تقاطع لكل المحاولات التنويرية. وُلد في 20 تشرين الثاني 1914 في أسرة قديمة العهد ببيروت، ترقى إلى القرن الحادي عشر الهجري، وشغلت في الأوساط التجارية، على ما سلك أهل السنّة دوماً. في العام 1924 توجه إلى الجامع الأزهر في بلاد الكنانة برفقة شقيقه وظّل يتابع الدراسة في هذا الجامع حتى العام 1935. ما أخذه العلايلي عن الجلَّة من الشيوخ، أمثال الدسوقي العربي، محمد نجيب المطيعي، يوسف الدجوي، سيّد علي المرصفي، السملوطي، أحمد عيسى الشرقاوي، محمد العربي، عفيف عثمان، وعلي محفوظ، إلى كثرة غيرهم، لم يحمِه في يوم، من صنميي النص. كما لم تشفع له قدرته الإستثنائية على تطويع اللغة في النأي بنفسه عن غائلة من يتشبثون بالنقل لا بمراكمة الجهود في مواكبة العصر.
سطع نجم العلايلي بعد عودته في العام 1936 من القاهرة إلى بيروت، إذ إنصرف الى الوعظ والإرشاد في الجامع العمري الكبير. وطرح في حينه آراء حول قضايا إصلاحيّة في رسائل، مثل المفتي والفتوى، الأوقاف، المحاكم الشرعيّة. في الأثناء انصرف إلى إعداد كتابه “مقدمة لدرس لغة العرب”، وبيّن من خلاله عن تمكنه من ناصية اللسان العربي والقدرة على تطوير مفردات اللغة العربيّة وفق ما يقتضيه العصر وعلومه وتقنياته المستحدثة. اشتقّ ونحت وابتكر في لغة الضاد مصطلحات جديدة مثل مرناة (رنا، يرنو، أطال النظر) أي التلفزيون، والحلانيّة أي العصرانية أو العلمانية، وترهيّات أي ميثولوجيات، بمعنى “أساطير وعادات”، واستبدل بمصطلح الاجتهاد آخر هو “اتصال الجهود”، واستعاد من إرث المعتزلة مفردة “الكوّان” أي الخالق.

على خطى بسمارك
أبدع العلايلي في مواجهته للرثاثة العروبية، فقد أصدر إلى “مقدمة لدرس لغة العرب” القاهرة 1938، “سوريا الضحية” هاجم فيه معاهدة 1936 مع الفرنسيين، “فلسطين الدامية”، و”إني أتهم” الذي هاجم فيه التفكك الطائفي الذي استشرى في المجتمع اللبناني. كان العلايلي، عن حق، على خطى بسمارك ونهجه القائل: “ليس على السياسة أن تثأر لما حدث، إنما عليها أن تعمل على ألا يحدث ثانية”. وعى العلايلي، قبل كثُر، طبيعة المشكلات العروبية عامة، واللبنانية في أحايين قد تكون متأخرة. وخاطب الجميع في حينه – كأنه الآن – قائلاً: “أما العرب اليوم فقد زاد التأجيج بينهم وهذا ما لا ينكر، نتيجة عوامل عديدة أهمها: التسميم الأجنبي بعد الانتداب، حزبية المناسبات، الثقافة المأجورة، تطويعنا مادياً وأدبياً على قوانين ليست انعكاسات لأصدائها وأصداء بيئتنا، والتمدن المغرور في العادات والسنن ومناهج السلوك”.
عن صواب، أو عن خطأ، أغفل العلايلي في أحايين كثيرة الصيغة اللبنانية وتنوعها الثقافي الذي لا يزال حاضرا ويجب أن يبقى. فالبلد دفع أثماناً رهيبة نتيجة “عروبية في النص والمؤدى السياسي” لم يعترف بحيثيته الكثير من أنظمة الاستبداد العروبي والإسلامي. للأمانة والحق، تميز الفقيه والإصلاحي والمتنور في بيئته وأهلها، بمواقفه السياسية وبمساهمته في العمل السياسي من خلال مشاركته في بعض الأحزاب والحركات. اللافت الذي بقي عصياً على الفهم، أن العلايلي كان مؤيداً للانقلابات الشعبية ضد الأنظمة وبارك الانقلابات العسكرية العروبية البعثية والناصرية ثم انقلب عليها وهاجم قادتها الذين “تميزوا بالصفة العسكرية وطبعوا الانقلاب بطابعهم” على ما قال هو نفسه.
انتفض على السائد عند العرب، وهي انتفاضة على سوسيولوجيا ما برحت نفسها وما بدلت تبديلاً. إذ قال في وصف “الركود والأسوار”: إن “الركود” يعني موت، والأسوار “توابيت الاعتياد التقليدي”. لكنه ما قدم جديداً إلا خفراً. ولم ينجح في خلق تيار جدي فيه عوامل “إرتطام” مع عادات العرب التي بقيت على حالها بالنسبة إلى التحرر والمرأة والغناء والسينما. حتى أن ما قاله الروائي والناقد الماركسي الراحل محمد دكروب عن دخوله والعلايلي والروائي محمد عيتاني إلى السينما بعد إطفاء الأنوار والخروج قبل إعادة تشغيلها، تحول إلى مادة ثقافية وسجالية للنيل من وعي العلايلي وقدرته على الإمساك بأدوات العقل وصلتها بالمعرفة. المخاضات السياسيّة والوطنيّة التي شهدتها البلاد العربيّة خلال الحرب العالميّة الثانية، وما بعدها، كانت لها انعكاساتها في فكر العلايلي. لذلك كانت له رسائل من طبيعة إجتماعيّة وسياسيّة تحت عنوان “إني أتهم”.

مقصد الأنظار
في مرحلة تاريخية، بدا العلايلي مقصد الأنظار ومحطّ رحالها، في اللغة العربية، وميدانها الأرحب الإسلام، على الرغم من أنه لم يكن يوماً إلا وحدوياً عربياً ولم ينصرف الى عناء الوحدة الإسلامية ومشقاتها. انتدبته الجامعة العربية، وظيفياً، في العام 1952 كمستشار عند طرح موضوع “الزكاة في الإسلام” وبدعوة من لجنة الثقافة التابعة للجامعة المذكورة برئاسة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين إذ عُيّن حينها عضواً في اتحاد مجامع اللغة العربيّة الذي انعقد في دمشق. وفي العام 1956 كلفه اللواء فؤاد شهاب قائد الجيش اللبناني آنذاك للمساهمة في وضع المعجم العسكري، للمصطلحات العسكريّة، وهي المهمة التي لازمها 12 عاماً من 1956 إلى 1968، وكانت حصيلتها أربعين ألف كلمة، وتولى الجيش طباعة المعجم الذي اعتمدت عليه جامعة الدول العربيّة عندما أرادت توحيد المصطلحات العسكريّة لجيوش الدول العربيّة الأعضاء، والتي لم تفلح إلا إلى القهر والإستبداد سبيلاً. له عشرات من الكتب التي ألّفها في موضوعات مختلفة، بعضها في فقه اللغة العربيّة، وبعضها في المعاجم اللغويّة أهمها المنجد العربي، وكتب أخرى كثيرة تناول فيها شؤون المجتمع العروبي واللبناني. ويمكن القول معرفياً إن هذه الكتب بمثابة مكتبة قائمة متنوعة المادة والكثرة.
اللغة حرفةً ودربةً
الشيخ العلايلي رائد اللغة العربية، والمبتكر فيها بطول أناة العارفين، حفر فيها كلمات تؤكد أنّ للغة الضاد ألسنتها. هكذا حفر في لغة الضاد وابتكر. ومن أفضل ما شهد به العلماء المعاصرون على أهميته وتأثيره في إحياء اللغة وتجديد حضورها تلك الشهادة التي أثبتها رمزي البعلبكي عن كلامه على “النظريّة اللغويّة عند العلايلي”، إذ قال: من منن الله على العربيّة أنه سبحانه وتعالى، لا يفتأ يبعث من يحيي هذه اللغة الشريفة في نفوس أبنائها، وينهض بها لتستقيم في معترك البقاء على نقاوة في التشذيب ولدانة في التخيّر واندفاع في الوثب، ولا جديد في القول إن الشيخ العلايلي هو محيي العربيّة على رأس هذه المائة، فهو المقدمة وهو المرجع ومنه الفكر والنظر والاقتراح والبرهان.
كان العلايلي مبتكراً عند أهله، ومن خلفية وعي أولي متصل بالدين لا غيره. لم يفهمه أحدٌ ما في ما سعى إليه. ربما يكون الأمر يكمن في خوف عند متتبعيه والمتأثرين به من حملات “داعشية” لا تني تتكرر على مدى الأزمان. كان “يعرف الكثير، ومن يعرف يسأل، والسؤال مفتاح المعرفة” على ما قاله عنه العلامة الراحل السيد هاني فحص. لذا كان كتابه “أين الخطأ؟”. هكذا كانت غايته في سياقين: الأول لغوي، والآخر سياسي، وهما بحسبه متكاملان. ففي الإتجاه اللغوي، حاول تصحيح مسيرة اللغة العربية، وفي الاتجاه السياسي حاول تصحيح الأوضاع الاجتماعية للمواطنين وفقاً لهاجسه الأصلي بالإنتماء الوحدوي والقومي. ما قاله في “إني أتهم” قصره على هم السياسة اللبنانية، فأمعن التصويب على المعازل الطائفية عندنا، فكراً وسلوكاً.
المفارقة الأساس عند العلايلي كمنت دائماً في مزجه بين سحر اللغة وإبداعها وبين المرامي السياسية التي سعى فيها وإليها، فهو ينسج في اللغة مقولته الشائعة التداول: “انها تتحرك بقانون الغاية لا السببية”، وخلص إلى أن “اللغة هي مجموعة الافكار والتقاليد والعواطف… تنمو أو تموت، تتحرك أو تأسن، بحسب حاجة الناس إليها، أو بمدى إرتباطها بنشاط الانسان”. انطلاقاً من قول الفيلسوف الفرنسي ديكارت “أنا أفكر إذن أنا موجود”، ربط العلايلي بين اللغة القومية والفكر القومي قائلاً: “أنا أفكر بفكر عربي، فإذن أنا موجود عربي”. وأوضح هذا القول الذي تبناه طوال حياته قائلاَ: “فإذا لم تكن لنا لغة قومية تامة صحيحة فلن يكون لنا فكر قومي تام صحيح. ففرض إنسان بدون لغة معناه فرض إنسان بدون فكر”. هكذا انصب على العمل في حقل اللغة التي بدت عنده “ككائن اجتماعي وفكري ثابت تعبر عن حقيقة ثابتة في المكان، وعن وحدة عددية تقيس شعور الإنسان. لذلك أضحت اللغة ضرورة اجتماعية ونفسية معاً، أهم بواعثها الفكر وعلاقاته ودلالاته وإشاراته المجازية. إنها بذلك مؤسسة ترتبط ارتباطاً مباشراً بنشاط الإنسان”. وعبّر في كتابه “دستور العرب القومي” تعبيراً واضحاً عن هذه المسألة التي اسمها اللغة. كان توجه العلايلي قومياً، فأكد دوما الوحدة العربية والقومية العربية أكثر مما كان في اتجاه الدعوة لتوحيد الأمة الإسلامية أو تأكيد الرابطة الدينية. واعتبر، كما جاء في كتابه “أين الخطأ؟”، أن الناس شركاء في ما سمّاه “الناسية المحمدية”.

جهد جهيد مع النص الديني
صارع العلايلي المُصلح والمُتنور حَملة النص الديني فصُرع نقاشاً لا واقعاً، فتضمنت إجتهاداته وتفسيراته سجالاً عقيماً حول مسائل بديهية في عصرنا الذي نعيش: من الربا والثروة التي يجب أن تشمل الفقراء في ثناياها. وذهب عميقاً في مسألة العقوبات الجسدية التي ننوء تحت أثقالها فرادى وجماعات، والزواج المختلط. الأكثر مدعاة للإستغراب والإستياء، أن أحداً لم يكترث بجهد العلايلي وإجتهاده في ما قاتل من أجله. وهنا كان للباحث والمؤرخ الدكتور وجيه كوثراني إشارة بالغة الدلالة في قوله إلى أن آراء العلايلي لم تحظ بالاهتمام الكافي من مواقع مختلفة: من موقع التقليديين والمحافظين الذين سخطوا على الشيخ وحاصروا فكره الفقهي وحاربوه، وربما من موقع الحداثيين الذين لم ينتبهوا في غضون الستينات والسبعينات.
إلى الآن، فإن أحداً لم يدعُ إلى قراءة العلايلي قراءةً جديدة تواكب حاجيات العصر. بل ان الغالب من أمر المثقفين هو إستهدافه والنيل منه والحط مما دعا إليه جهاراً في مواجهة الظلامية وحماتها. ليس مغامرةً القول إن مؤلفاته كانت نقطة جذب للإستهداف، حتى صار القول أو ترداد النصال تتكسر على النصال صائباً. فـ”مقدمة لدرس لغة العرب”، كان في البحث والتعليق والنقد لأهم الصحف آنذاك: الأهرام، المصري، البلاغ، الدستور، الرسالة، المقتطف، الهلال، والتربيّة الحديثة. اهتم به إهتماماً خاصاً المستشرق الألماني الدكتور فيشر والمستشرق التشيكوسلوفاكي الدكتور باول كراوس والباحث العراقي الأب أنستاس الكرملي وإسماعيل مظهر والشيخ عبد العزيز البشري، إلى غيرهم ممن هم مهجوسون بـ”فقه” اللغة العربية ومكنوناتها، ومشتقاتها التي لا تني تتكرر وتشتق بعبارات هلامية تُذكّر بالجدل الذي قاده إيرازموس فون نوتردام أثناء عصر الإصلاح الديني في أوروبا.
كان مسيحيون هم أكثر من اهتموا بمؤلفات العلايلي الذي اعتبر في الغالب من كتاباته أن القومية والوحدة العربية سبيلاً أوحد للنهوض بهواجسهم في بحر متلاطم إسلامي، سني وشيعي. أحفاد هؤلاء المسيحيين هم من عاشوا أهل ذمة وسبايا في العراق والشام، وحُرم على أقباطهم في مصر إقامة الكنائس حتى صارت المعادلة: مئة جامع مقابل كل كنيسة. وفي إيران، كان نظام الملالي الأسوأ: إنما العزة لله ورسوله والذين آمنوا. والمؤمن هو من آمن بالله ورسوله وإن الدين عند الله هو الإسلام.
نزع العلاّمة، صاحب الميل القومي والعروبي، في مهاجمة الكانتونات المذهبية اللبنانية، لكن لم يُسجّل له موقف مما آلت إليه أحوال اللبنانيين، مؤمنين ولاأداريين وملحدين، من جراء السياسات العروبية البعثية والناصرية. وظل كلامه هيولياً في مساجلة الأنظمة التي حلت بين ظهرانينا. كان اغتيال خيرة القادة اللبنانيين واستهداف “الجمهورية الأولى” يستدعي جهداً إستثنائياً في التعيين السياسي لأزمة البلاد التي لم تكن “مارونية سياسية” بالقدر الذي كانت فيه المارونية حاصلاً سياسياً لبورجوازية سنّية، وإقطاعية شيعية.

أثرٌ بعد عين؟!
لقد اختارت “دار الجديد” أن يكون العلايلي عنوان احتفالها بالمئوية، لكنها لم تجد من يموّل، ولا من يرعى لحفظ إرث الراحل: لا دولة، ولا دور ثقافة، ولا أهل. هكذا يترك العلايلي إرثاً حاول الإجتهاد فيه بالنص الديني والسياسة واللغة. فلكي لا يبقى هذا الإرث على ما يردد الأعراب “أثراً بعد عين”، هل من يبادر للنهوض بهذا الكنز الثقافي والمعرفي، سواء اختلفنا معه أم اتفقنا؟!

 

السابق
الراعي: تجاوزات المجلس النيابي تقع ضحيتها العائلة اللبنانية
التالي
روسيا ترى امكانية التوصل لاتفاق نووي مع ايران