مَن جرّ الفلسطينيين إلى الصراع السوري؟

جاءت زيارتي الأولى إلى مخيم اليرموك بعد بضعة أيام على مقتل 20 شخصاً، في أول عملية قصف شاملة طالته في الثاني من آب العام 2012.

أراني السكان حجم الدمار الذي ألحقته أولى قذائف الهاون التي سقطت على شقة صغيرة في بناية ليست بعيدة عن حي التضامن، وهو أحد الأحياء الدمشقية التي كانت تشهد اشتباكات يومية بين الجيش والمعارضة المسلحة. وعندما هرع المارة لتفقد الأضرار، سقطت قذيفة ثانية في الشارع الضيق حيث تجمع الناس ما أدى إلى مقتل وجرح العشرات.
لمّحت وسائل الإعلام الغربية إلى أن الحكومة السورية تقوم بقصف مخيم اليرموك، ولكن الفلسطينيين في الداخل عبّروا عن شكوكهم حيال هذا الأمر. وقال البعض إنّ مصدر هذه القذائف هو المعارضة المسلحة، وأنها أطلقت من أحد الأحياء الملاصقة للمخيم. ولكن كان من الواضح أن أحداً لا يملك إجابة قاطعة عمّا قد يكون سلسلة من القذائف الطائشة.
بدا اليرموك، المنطقة التي أوت يوماً نحو مليون سوري وما يقرب من مئة وستين ألف لاجئ فلسطيني، واحة هادئة أثناء زيارتي.
في المقابل كان المرور في حي التضامن الذي تسيطر عليه المعارضة المسلحة، وأحياء يلدا والحجر الأسود، في طريقي للدخول والخروج من المخيم، يحمل العديد من المشاهد المثيرة للدهشة من المباني والمركبات المحترقة، والمحال المغلقة، والحطام الذي يغطي الطرقات، ونقاط التفتيش التي ترسم حدود مناطق الصراع الجديدة.
وبعد عام ونصف العام، وتحديداً في آذار العام 2014، زرت اليرموك مجدداً.
أصبح المخيم غير مألوف الآن، والصور التي كنا نراها من الخارج لا توفي بالفعل هذا الدمار حقه.
عند مدخل المخيم، استقبلت من قبل مسلحين فلسطينيين يطلق عليهم اسم «مجموعة 14»، وهم يشكلون قوة من المتطوعين تم استحداثها بهدف حماية المخيم، والدفع بالجماعات المسلحة التابعة للمعارضة نحو الأحياء الداخلية منه. هذه المجموعة تعمل تحت مظلة «اللجان الشعبية الفلسطينية لتحرير اليرموك».
ولدى سؤالي لهم واحداً تلو الآخر من أين هم، جاءت الإجابات على الشكل التالي: صفد، لوبيا، حيفا، طبريا، القدس، عكا. وكانوا بالطبع من أعمار فتيّة، ما يعني أنهم لم يزوروا يوما أيّاً من هذه المناطق التي يتحدر منها آباؤهم أو أجدادهم. هي الأماكن التي يعتزمون العودة إليها في يوم من الأيام. كان هناك شاب سوري واحد بينهم، وهو ترعرع في اليرموك ويعد نفسه فلسطينياً.
اجتياح المخيّم… و«قوم حماس»
الروايات التي أخبرني إياها هؤلاء المقاتلون لم أقرأها باللغة الإنكليزية سابقاً في أي من المنشورات الخاصة بأي من التيارات خارج سوريا. قصتهم هي أشبه برواية قديمة، تتحدث عن آلاف المقاتلين الإسلاميين الذين اجتاحوا واحتلوا اليرموك في 17 كانون الأول العام 2012، ما أدى إلى تهجير السوريين والفلسطينيين على حد سواء من المخيم، لتبدأ القصة فعليا في اليوم التالي.
ويخبر الشبان أن المجموعات المسلحة دمرت المخيم، وقتلت الناس، ونهبت المنازل والمستشفيات وكل ما وقعت عليه يدهم. ويؤكدون أن هذه المجموعات لم تكن لتتمكن من السيطرة على اليرموك من دون دعم حركة «حماس»، وهم متأكدون بأن مناصري «حماس» لا يزالون داخل المخيم، والآن تحتل مجموعات من «جبهة النصرة»، وجماعة «أكناف بيت المقدس»، و«العهدة العمرية»، و«أحرار اليرموك»، و«زهرة المدائن»، المخيم.
ويؤكد الشبان أن حركة «حماس» جندت وأمّنت الدعم المادي للسوريين النازحين من مناطق الصراع الأخرى، إلى اليرموك. ويقول أحدهم «لقد قاموا بتجنيدهم من أجل هذا النزاع».
أصابع الاتهام بقيت موجهة إلى «حماس» في جميع الأحاديث التي خضتها مع اللاجئين في ثلاثة مخيمات منفصلة في سوريا. وفي وقت خرج جميع مسؤولي الحركة من البلاد في وقت مبكر مع بداية الأزمة، يبقى الواقع أن العديد من الفلسطينيين المرتبطين بها لم يفعلوا ذلك.
في الخارج، نفهم أن «حماس» لم تعد هنا، ولكن بين المخيمات، يلقب الفلسطينيون عناصر الحركة الذين يتهمونهم بإشعال الفتنة بـ«قوم حماس». وينقض هذا الخط الواضح إدعاءات القيادة السياسية للحركة بإنكار الاتهامات الموجهة إليها بأنها ساعدت المجموعات الإسلامية، التابعة للمعارضة المسلحة، في المخيمات.
الخطوط الغامضة من هذه المسألة بدأت تصبح واضحة بالنسبة إليّ في خريف العام 2011، عندما كشف مسؤول من «حماس» عن أنهم يقومون بـ«إزاحة بعض العناصر» الذين يظهرون تعاطفاً متزايداً مع المعارضة السورية من هذه المناطق.

«جيش التحرير الفلسطيني»

لفت نظري عدد من الروايات التي أخبرني إياها أحدهم بشأن عناصر «جيش التحرير الفلسطيني» الذين اغتيلوا خلال المرحلة التي رافقت احتلال اليرموك.
في سن الثامنة عشرة، يذهب اللاجئون الفلسطينيون في سوريا إلى الخدمة العسكرية الإلزامية في «جيش التحرير الفلسطيني» لمدة 18 شهراً. ويتم تدريبهم مباشرة وبشكل حصري من قبل «جيش التحرير». ولكن التسليح وتأمين المخيمات يكونان من قبل الجيش السوري.
في السابق كان لـ«جيش التحرير الفلسطيني» قواعد في مصر والعراق والأردن ولبنان، وامتلكوا تفويضاً، بالتنسيق مع الحكومات المضيفة في هذه البلدان، ولكن القاعدة الوحيدة التي بقيت لهذا الجيش من بين جميع بلدان العالم العربي كانت في سوريا.
توجهت إلى المركز الرئيسي لـ«جيش التحرير الفلسطيني»، في محاولة لمعرفة المزيد حول هذا الأمر، وقد تم نقل مقره مؤقتاً من المعضمية في الغوطة الغربية، وهي منطقة قريبة من دمشق تسيطر عليها المعارضة المسلحة.
هناك التقيت باللواء حسن سالم واللواء نبيل يعقوب، وهما ضابطان رفيعان يتبعان مباشرة قائد «جيش التحرير الفلسطيني» اللواء الركن طارق خضرا.
وأكد الضابطان أن مهمة «جيش التحرير الفلسطيني» هي «تحرير فلسطين»، وأنه «لا يقوم بدور في الدفاع عن المخيمات الفلسطينية في الصراع السوري»، وقد بدا ذلك صحيحاً وفق جميع المعايير.
ولكن في العام 2012، انجر «جيش التحرير الفلسطيني» إلى الأزمة السورية مكرهاً، ففي الخامس من كانون الثاني اغتيل الرائد باسل أمين العلي برصاص مجهولين في عربين شرقي جوبر في ضاحية دمشق، بينما كان يقوم بإصلاح سيارته على جانب الطريق. وبعد شهر واحد، أي في 29 شباط، تم إطلاق النار على العقيد عبد الناصر مرقاوي في مخيم اليرموك ما أدى إلى مقتله.
وبعد أسبوع، وتحديداً في السادس من آذار، اغتيل العقيد رضى محي الدين خضرا، وهو قريب قائد «جيش التحرير» اللواء طارق خضرا، أثناء عودته إلى منزله في منطقة قطنا الواقعة على بعد 20 كيلومتراً إلى الجنوب من دمشق.
وفي الخامس من حزيران، قتل العميد أنور مصباح السقا في شارع العدوي في دمشق، بانفجار عبوة زرعت تحت مقعد سيارته، وكان قد ترك منزله في برزة ليقل ابنته من الجامعة، وقد جرحت هي وسائق السيارة في الانفجار أيضا.
بعد ثلاثة أسابيع، وتحديداً في 26 حزيران، اغتيل العقيد احمد صالح الحسن أيضا في صحنايا، إحدى ضواحي دمشق.
وفي 26 تموز قتل اللواء عبد الرزاق سحيم وابنه وأحد حراسه في حي يلدا الملاصق لمخيم اليرموك، والذي تسيطر عليه المعارضة المسلحة، وذلك قبل أسبوع من حادثة سقوط القذائف المذكورة سابقاً، والتي أدت إلى مقتل عشرين شخصا في المخيم.
في 11 تموز، وفي هجوم واسع على «جيش التحرير الفلسطيني»، خطف مسلحو المعارضة 14 فلسطينياً كانوا عائدين إلى معسكر النيرب من تدريب في مصياف على بعد 48 كيلومترا جنوب غرب حماه وقاموا بتصفيتهم. وبحسب ما ذكر ضابطا «جيش التحرير» اللذان قابلتهما، فإن الجنود قسموا إلى مجموعتين، الأولى تم تصفيتهم، أما جنود المجموعة الثانية فقد تم تعذيبهم ومن ثم قطعت رؤوسهم.
العديد من الفلسطينيين الذين التقيتهم يخبرون قصة سائق إحدى الحافلات التابعة لـ«جيش التحرير» – لكنه لم يكن هو نفسه جنديا – ويدعى أحمد العز، وهو شاب من مخيم النيرب في حلب، اختطفه المسلحون لفترة قصيرة، ومن ثم ربطوه في سيارة مليئة بالمتفجرات، وأمروه بالتوجه إلى نقطة تفتيش للجيش السوري. وبحسب عدد من التقارير الصحافية فإن العز حرف سيارته بعيداً عن الحاجز، وبينما قام مسلحو المعارضة بتفجير السيارة التي قتل فيها، كان العز قد غيّر مسارها منقذاً حياة عدد من الجنود السوريين على الحاجز.
وفي ما يعبر عن الموقف الفلسطيني تجاه الأزمة السورية، خرجت للعز جنازة كبيرة في مخيم النيرب، بحسب ما ذكر شاب فلسطيني يدعى محمد يعيش مع عائلته خارج مخيم اليرموك، والذي كان أول من أخبرني قصة العز، قائلا: «نحن نرى فيه بطلا لإنقاذه حياة الجنود السوريين».
إن هذا ليس بالأمر الغريب، فغالبية اللاجئين الفلسطينيين في سوريا قد خضعوا للتدريب العسكري من قبل «جيش التحرير الفلسطيني»، تحت رعاية القوات المسلحة السورية.

لكلّ مخيّم تجربته

وفيما تميل وسائل الإعلام الدولية إلى التركيز على الأحداث في مخيم اليرموك، إلا أن هناك حوالي 14 مخيماً للاجئين في مناطق مختلفة من البلاد، و لكل منها تجربته الخاصة في الصراع السوري.
لاحقاً، قمت بزيارة إلى مخيم جرمانا، وهو مخيم صغير يقع على أطراف دمشق، ويتصل أيضاً بمدينة جرمانا، وكلاهما، المدينة والمخيم، يعجّان اليوم بلاجئين جاؤوا من مخيمات أخرى، ومن مناطق تطالها الحرب الدائرة في سوريا.
جرمانا هادئة، بالرغم من أن قذائف الهاون والصواريخ التي تتساقط على أحياء بيت سحم وجوبر وعين ترما المجاورة، كثيراً ما تعكر صفوها، وكذلك يفعل المسلحون.
ولأن المقاتلين يحاولون من وقت إلى آخر اقتحام مداخل المخيم، فقد شكل سكانه «قوة تطوع»، على غرار سكان مخيم اليرموك، وهي مجموعة يديرها رجال مسلحون من ثلاث فصائل فلسطينية: «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة»، «حركة فتح الانتفاضة»، و«الصاعقة». أحد المقاتلين الفلسطينيين، من هذه القوة، الذي التقيته أمام مدخل المخيم، فقد احد ذراعيه بعد مناوشات مع المسلحين.
لكن ما أثار فضولي كان كثرة الأعلام السورية داخل المخيم، وهي منتشرة تقريباً في كل مكان. وفي هذا الصدد، قال لي أحد السكان إنه «نادراً ما كنت لترى هذه الأعلام قبل الأزمة». هو يعتقد أن «ثمة سببين لظاهرة الأعلام: الأول إظهار التضامن – فنحن نؤمن اليوم بأن فلسطين ستنتهي إذا سقطت سوريا – وربما إظهار ولائنا، فقد تم زرع الشك في هذا الخصوص».
وكانت الأحزاب السياسية الفلسطينية ـ باستثناء حركة «حماس»- وقّعت في العام 2012 على إعلانين / رسالتين منفصلتين، أعلنت فيهما «الحياد» في الصراع الدائر في سوريا. ولهذا السبب، قد يبدو هذا الدعم الواضح من خلال رفع الأعلام السورية داخل مخيم جرمانا، أمراً غير متوقع.
وتستمر الدولة السورية بدعم اللاجئين الفلسطينيين بطرق متعددة: داخل جرمانا، أقام السوريون متجراً يؤمن المواد الغذائية الأساسية بأسعار مخفضة لسكان المخيم والنازحين.
ويعد مخيم جرمانا واحداً من 14 مخيماً على الأقل للاجئين الفلسطينيين في سوريا.
وفي دمشق وحدها، هناك مخيم الحسينية (سيطر عليه المسلحون، وأخلوه من سكانه ثم دمروه)، ومخيم اليرموك (يسيطر عليه المسلحون، ولا يزال يضم 18 ألف مدني)، ومخيم السيدة زينب (لا وجود للمسلحين في داخله)، ومخيم جرمانا (خال من المسلحين)، ومخيم خان دنون (خال من المسلحين)، ومخيم خان الشيخ (يسيطر عليه المسلحون جزئياً ولا يزال في داخله بعض المدنيين)، ومخيم السبينة (يُعتقد أن 70 في المئة منه مدمر).
وفي حلب، هناك مخيمان طالتهما المعارك بشكل عنيف، فمخيم حندرات، الذي هرب منه اللاجئون منذ وقت طويل، انهار تماماً، وكذلك حصل لجزء كبير من مخيم النيرب. والمخيمان شكلا قوات فلسطينية متطوعة لقتال المسلحين.
أما مخيم درعا، فقد سُوّي بالأرض، وكان خالياً من المدنيين منذ بداية الأحداث في سوريا تقريباً. من جهته، تعرض مخيم الرمل في اللاذقية لمواجهتين كبيرتين مع المسلحين في العام 2011، ولكنه اليوم بخير. وهناك أيضاً مخيم الوافدين القريب من دوما، والذي لا يعرف عنه الكثير كما لا يذكره أحد. أما مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في حمص وحماه فهي خالية من المسلحين، ومزدهرة أيضاً، وهو أمر غريب نظراً إلى أن هاتين المحافظتين تعتبران مركزين أساسيين للمعارضة السورية.
وقد سافرتُ لاحقاً إلى مخيم حمص لأتفقد الأمور هناك بنفسي.
هذا المخيم هو الوحيد الذي لا يزال يضم مكتباً يعمل بشكل شبه عادي لـ«حماس»، فالحركة، بجميع مقراتها الرسمية التي كانت تعمل في سوريا، غادرت البلاد في العام 2011، ومن هنا، يبدو من الناحية التقنية، أن ممثلي «حماس» داخل المخيم لا يخدمون فعلياً في أي وظيفة رسمية. سألت أحد المسؤولين في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة» داخل المخيم حول تواجد حركة «حماس»، فأجابني بـ«وجود مجموعة مختلفة من حماس هنا، متفقة على التعاون لإبقاء المخيم هادئاً». سألته ما إذا كان بإمكانه تأمين موعد لي مع الممثلين عن الحركة، فقام باتصالات هاتفية عدّة بحضوري، لكنها لم تأت بأي نتيجة إيجابية. وعلل المسؤول الفلسطيني ذلك بـ«أنهم لا يريدون أي مشاكل مع قيادتهم».
ويختلف مخيم حمص عن مخيمي اليرموك وجرمانا في أمر أساسي، وهو أنه ليس بالإمكان هنا رؤية رجل مسلح واحد. فالشارع الرئيسي داخل المخيم يعج بالمحلات التجارية، وعلى المرء أن يشق طريقه بصعوبة وسط زحمة الناس الذين يخرجون للقيام بأعمالهم اليومية. في الحقيقة، لا يوجد أي شيء لافت هنا، ففلسطينيو حمص يعيشون «الحياد» إلى أقصى درجاته.
وقال لي أحد القاطنين في المخيم إن «الحوار لعب دوراً كبيراً هنا، حتى أن بعض القياديين الفلسطينيين قاموا بجهود للمصالحة وتسهيل التواصل بين المسلحين والحكومة السورية».
ويتم ذكر حركة «حماس» مرة أخرى في الحوار. يتحدث رجال داخل المخيم عن امتعاضهم من خطب للداعية الإسلامي يوسف القرضاوي وآخرين «لم يظهروا أي أسف تجاه القتلى السوريين». وهنا، ينبري أحدهم ليقول إن «جناح حركة حماس داخل المخيم رفض أن يلعب أي دور في الصراع السوري، فالمسؤولين في الحركة ولدوا هنا وعائلاتهم كبرت هنا. في مخيم اليرموك، بعضهم جاء من بعيد، وحتى من غزة».
من جهته، يؤكد المدير التنفيذي في «مستشفى بيسان» داخل المخيم، محمود درويش ذلك، قائلاً «نحن الفلسطينيون لدينا جميع الحقوق في سوريا. فنحن نعامل كالمواطنين السوريين، ندرس سوية في المدارس… قلة قليلة فقط من الفلسطينيين انساقت إلى الصراع – فقط قلة هامشية في الحقيقة».
سألته ما إذا كانت القوات السورية دخلت يوماً إلى المخيم، وهي تهمة لطالما رددتها وسائل إعلام طوال فترة الصراع، وهو سؤال كنت أطرحه أيضاً داخل كل مخيم أزوره. ولكن الجواب كان قاطعاً: «لا».
لدى عودتي إلى دمشق، قابلت رئيس الهلال الأحمر السوري الدكتور عبد الرحمن العطار، وسألته ما إذا كان الجيش السوري قد دخل إلى المخيمات الفلسطينية في الوقت الذي كان لا يزال فيه مدنيون.
يقول العطار: «في رأيي، لا»، مضيفاً أن «كل الأمور في مخيم اليرموك بيد الفلسطينيين، وليس السوريين. الدور السوري هو فقط في التسهيل».
الجواب ذاته كان يأتي على لسان كل من أسأله. الاستثناء الوحيد ما يقوله فلسطينيون من خلفيات عدة، وهو أن الجيش السوري يدخل المخيمات لقتال المسلحين حينما تصبح خاوية تماماً من المدنيين، على غرار ما حصل في درعا وحندرات.

كيف تورّط الفلسطينيون في النزاع؟

كيف أصبحت الأمور سيئة إلى هذا الحد بالنسبة إلى الفلسطينيين في سوريا؟ بغض النظر عن كل شيء، سوريا هي الدولة العربية الوحيدة حيث يتمتع الفلسطينيون بحقوق متساوية مع المواطنين، باستثناء الجنسية والتصويت.
على مدى الأزمة في سوريا، أصبحت المخيمات الفلسطينية هدفاً للمسلحين في كل منطقة يسيطرون عليها، ولكن لماذا؟ ما هي القيمة الإستراتيجية في دخول المخيمات؟
هذا ما يطرح سؤالاً: هل تم جر الفلسطينيين إلى هذه الأزمة لأسباب سياسية – لتقسيم الولاءات وسحب القضية الفلسطينية من الحكومة السورية؟ أم أنهم أدخلوا في الأزمة لأن العديد من المخيمات تقع في مناطق إستراتيجية – كما هي الحال في اليرموك، كبوابة رئيسية إلى دمشق، أو في حندرات الذي يعتبر خط إمداد إلى حلب؟ الجواب بحسب كل الفصائل السياسية هو: «قليل من كلا الاحتمالين».
ولكن أولاً، دعونا نصحح بعض المعلومات الخاطئة.
خلافاً للروايات السائدة، لم يشارك اللاجئون الفلسطينيون في أي تظاهرات كبيرة، سواء ضد الحكومة السورية أو لصالح المعارضة. خلال الأزمة، عمل الفلسطينيون بشكل جدي للحفاظ على الحياد والبقاء خارج الصراع. كبرى التظاهرات ضد الحكومة السورية لم تتعدّ أكثر من بضع مئات من الناس، وغالباً ما كان يشارك فيها النازحون السوريون الذين انتقلوا إلى هذه المخيمات.
في الواقع، يمكن القول إن أهم تظاهرة فلسطينية خلال الأزمة كانت في مخيم اليرموك في حزيران العام 2011، بعدما قتل وأصيب فلسطينيون برصاص الاحتلال الإسرائيلي خلال تظاهرة في ذكرى النكسة على الحدود مع هضبة الجولان المحتلة.
الأحداث في اليرموك في ذلك اليوم كانت حامية جداً. كانت هناك اشتباكات خلال التشييع، حيث غالبية المحتشدين كانوا غاضبين من الخسارة البشرية غير الضرورية. ولامت وسائل الإعلام الأجنبية الحكومة السورية على حث ومساعدة الفلسطينيين على المشاركة في تظاهرة النكسة، لكنها أغفلت حقيقة واحدة: الحكومة السورية، مثل نظيرتها اللبنانية، ألغت تظاهرة النكسة، والسبب هو سقوط قتلى وجرحى بنيران الإسرائيليين خلال تظاهرات لمناسبة يوم النكبة في الشهر السابق.
وكان الفلسطينيون، خلال التشييع، يعبّرون عن غضبهم من القيادات السياسية للفصائل الفلسطينية لتشجيعهم – وعدم منعهم – حادث النكسة. بعد ذلك تشعبت القصة. البعض اتهم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة» الموالية للحكومة السورية بإطلاق النار على الحشود، لكن الحقيقة تبقى أن ثلاثة عناصر من الجبهة قتلوا في ذلك اليوم، كما تم حرق مكاتبها.
وفي انعطافة للموضوع، ابلغني مسؤول في حركة «حماس» رواية غير متوقعة لما حصل، قائلاً «ذهب البعض من مقاتلي الجيش السوري الحر إلى مكاتب احمد جبريل – مجمع الخالصة – خلال التشييع وأطلقوا النار».
لكن المسؤول لا يغفر للجبهة الدور الذي قامت به في الأزمة السورية. انه يلوم مجموعة جبريل على عدم احترام اتفاق الحياد الذي اتفق الفلسطينيون عليه منذ البداية. ويقول المسؤولون في «الجبهة الشعبية» إنهم قاموا بحراسة أطراف كافة المخيمات الفلسطينية لحمايتها من تسلل المسلحين. ويصر المعارضون على القول إن مثل هذا النشاط أدى إلى إشعال الاشتباكات ودخول المقاتلين إلى المخيمات.
ولكن في النهاية، كانت «حماس» الفصيل الفلسطيني الوحيد الذي لم يوقع على إعلان الحياد الفلسطيني، فيما وقعته «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة» مع باقي الفصائل.
ثمة شكوك بسيطة في أن الدور الدفاعي لـ«الجبهة الشعبية» في المخيمات الفلسطينية أغاظ المجموعات الأخرى. لكن يبدو أن هناك تقاربا اليوم بين السياسيين الفلسطينيين وجبريل بشأن النزاع السوري.
على مستوى الفصائل، وحتى بين اللاجئين الفلسطينيين الذين تحدثت إليهم، كان هناك إجماع كامل بان المسلحين نكثوا بوعودهم عدم زج الفلسطينيين في الأزمة. وقال ماهر الطاهر، رئيس اللجنة السياسية في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي كان يتزعمها الراحل جورج حبش: «حاولت جميع المجموعات الفلسطينية المساعدة في التوصل إلى اتفاق سلام في اليرموك. لقد توصلنا إلى اتفاقات، لكن لديهم (المسلحين) مشكلة في التطبيق. ويهدف الاتفاق في الأساس إلى خروج جميع المجموعات المسلحة من المخيم وعودة الفلسطينيين إليه. لقد كانت الحكومة السورية متعاونة مع هذه العمليات، وسمحت بإطعام المدنيين في الداخل، لكن المسلحين يخرقون الاتفاق لحظة تطبيقه».
كذلك، فإنّ لدى السفير الفلسطيني لدى سوريا أنور عبد الهادي، الذي يقدم تقاريره إلى السلطة الفلسطينية، انطباعاً قريباً من انطباعات «الجبهة الشعبية – القيادة العامة»، إذ يقول «طلبنا منهم ترك الفلسطينيين، والمسلحين رفضوا، قائلين: هذه ارض سورية. لقد حصلنا على وعد من الجيش السوري بعدم الدخول إلى المخيمات والحكومة السورية حافظت على كلمتها. لا نزال، حتى الآن، نحاول الطلب من المسلحين المغادرة، لكننا لم ننجح، بسبب (جبهة) النصرة والجبهة الإسلامية وحماس».
وردا على سؤال حول «حماس»، يرد «نعم، حماس، حماس، حماس، حماس».
قد يكون هذا الأمر لمآرب شخصية، حيث أن حركة «فتح»، المهيمنة على «منظمة التحرير الفلسطينية»، تحاول منذ سنوات إضعاف «حماس».
ويضيف عبد الهادي إن «المسلحين يواصلون منع عمليات (إيصال المساعدات الغذائية) وهم يستخدمون الجوع كطريقة لإبقاء الضغط على الحكومة السورية»، موضحاً انه في الأشهر الأولى من السنة «أرسلت كل الفصائل (الفلسطينية) 12 ألف مساعدة غذائية وأجلت أربعة آلاف فلسطيني. وكل بضعة أيام يتقاتل المسلحون لإعاقة ووقف هذه العملية».
ويفسر عبد الهادي السياسة التي تقف وراء هذه الأعمال قائلا «قتل المسلحون عددا من المسؤولين في جيش التحرير الشعبي من اجل إجبار الفلسطينيين على مساعدة الثورة السورية بغرض ترهيبهم. واتهموا الجيش السوري. إن الهدف من وراء هذه الأزمة هي القضية الفلسطينية. إنهم يعتقدون أنهم حين يحتلون المخيمات الفلسطينية في سوريا ويقسمونهم، فإنهم سينسون فلسطين».
ويقر بأنه «قبل اندلاع الأزمة، كانت فتح ضد الدولة السورية، لكن هناك تقارب اكبر الآن بين سوريا وإيران والسلطة الفلسطينية».
ولدى المسؤول الإعلامي في «الجبهة الشعبية – القيادة العامة» انور رجا الكثير بشأن ردود فعل الفصائل الفلسطينية الأخرى عند بدء الأحداث في سوريا، إذ قال «لقد حذرنا الفلسطينيين في العامين 2011 و2012 بشأن قيام مسلحين باحتلال اليرموك، ورفعنا الصوت أكثر عند سيطرة المسلحين على الأحياء المجاورة في التضامن والحجر الأسود ويلدا. قلنا إن على الفصائل أن تتسلح للدفاع عن المخيم، لكنهم تجاهلونا».
ويشرح رجا سبب قيام الفصائل الفلسطينية بالتوحد، موضحاً «لقد أصبحت وجهة التطورات واضحة الآن، بالنسبة إلى الفلسطينيين والسوريين. لقد اكتشف الناس انه برنامج أجنبي لتدمير الدولة وتقسيم المجتمع. أصبح لدينا الآن معرفة وعقلنا يعمل مجددا. وحتى البسطاء وغير المتعلمين غيّروا رأيهم. لم يكن بإمكانهم في البداية القراءة بين السطور – لقد مرّ 18 شهرا منذ لاحظ الجميع هذا الأمر. لقد تبين لهم انه لا يوجد أي فائدة من هذه الأزمة. لقد خسروا كل شيء».
ومع رفع الانتفاضة العربية المطرقة ضد الحكومات السلطوية في العام 2011، أمل الفلسطينيون، مثل السوريين الذين دعموا التظاهرات من اجل الحصول على مزيد من الحريات من حكومتهم، بحياة أفضل. لا شك في أن بعضهم دعم تطلعات المعارضة السورية، لأنهم اعتبروها انعكاسا لطموحات الفلسطينيين لتحقيق الحرية والحكم الجيد. ولكن بين رحلتين قمت بهما إلى المخيمات، بين العامين 2012 و2014، تغير المزاج الفلسطيني. هؤلاء السكان، الذين نزح العديد منهم مرات عدّة، غسلوا أيديهم من «الثورة» السورية. لقد شعروا، في بعض الأوقات انه تم استغلالهم من قبل كل الأطراف، لكن المعاناة الأكبر كانت من قبل مقاتلي المعارضة. حيادهم أصبح لحنهم اليومي. وهم يريدون، مثل كل المدنيين السوريين في كل مكان، بعض السلام.

السابق
أحمد الحريري : كيف يدعونا للحوار من يعتقد أننا نخاف الانتخابات؟
التالي
رأسك أخي .. لا ترتخي: عن تطبير عاشوراء