التغريبة اللبنانية

في زمن مضى، كان اللبناني ينظر الى بقية العرب بشفقة من يتمتع بالحرية والديموقراطية. كان يدقّق في ملامحهم، فيأسف على القيود التي تضعها أنظمة استبدادية على حياة هؤلاء العرب الشخصية، على انعدام حريتهم بالإختيار، على افتقادهم للروح النقدية والإبداعية، على جمود خيالهم وفقره. لم يكن اللبناني، في تلك اللحظات المجيدة من وعيه لنفسه، يرى عِلَل نظامه ونواقصه، إلا في النقّ الآلي؛ يحسبها بالنسبية، وبالمقارنة بين المجتمعات، فيفتي بأن نظام الطائفة-العائلة فيه فروض وقوانين لا تقل صرامة عن اعتى الديكتاتوريات، خصوصا في تأبيد الزعامة الوراثية… ولكنه يعزي نفسه بأنه، كفرد، حرّ، ينتقل، يتاجر، يسافر، يؤلف الأحزاب “المعارضة”، والمجموعات المسلحة على كيفه… فيخلص الى نوع من التعالي على أولئك العرب الذين لا يعرفون ماذا يفعلون بمصيرهم… واليوم، بعدما صار نظامه السياسي عبارة عن غرفة تجديد السلطات الحاكمة، وبعدما صار ملاذ الطائفة الحنون يحكم بقضبات من العصبية الدينية-السياسية، بعدما اذهلته تلك الخفة التي يحكم بها، ويؤتى ثمارها ببلاد سائبة، لا تعرف قانونا، الا للقوة العارية، ولا تستجيب لأي مشكلة، صغيرة او كبيرة، من مشكلاته، إلا من باب الخبطات الاعلامية… ينطر اللبناني اليوم إلى نفسه وإلى من حوله، يتساءل عن سرّ عجزه عن ايجاد مخرج صغير، بصيص ردة فعل، فكرة، نقزة… كل ما يشاهده أمامه، تلك الاحتجاجات والدواليب المحروقة، التي تبيّنه وكأنه حر في غضبه، أو تلك الجموع لأبناء مذهب واحد، مرصوص البنيان خلف ترهات وجنون عظمة؛ جنون لا يقتصر على هؤلاء الأبناء، إنما يطال كل الطوائف، بزعمائها، كلٌ على طريقته، وبحسب درجة “وحدته” أمام العدو المحلي اللدود. فتسأل أنت: ما الذي يمنعنا من المبادرة الى التغيير؟ أو على الأقل تحسين أداء تلك “الطبقة السياسية” التي صارت تتحكم بالدولة وبالمجتمع في آن؟

فيجيبك العاقلون من علماء الاجتماع بأن اللبناني لا يستطيع اصلاح، أو تغيير نظامه السياسي وطوائفه. انه محكوم بهما. كل معاملة من معاملاته، اليومية منها والمصيرية، مرهونة بارادة الرجل الذي يجمع بين هيمنته على الدولة، بمؤسساتها، وإمساكه بالمجتمع. ومع “مجتمع مدني” يمزج بين الفولكلور والتبعية لهذا الرجل، أو لمصادر تمويله الخارجي… يصبح اللبناني “موضوعيا”، بحسب علمائنا، عاجزاً عن القيام بشيء، مشلول الارادة، ناقص الخيال… وكلها صفات تقرب اللبناني من أي مواطن عربي عائش في ظل واحدة من ديكتاتورياته: ينكر سوء اوضاعه، رغم نقّه الببغائي، ينكر ليحمي نفسه من خوفه وغضبه المزلْزل. يعلم بأن قدره متروك لصدف التاريخ، وتوازناته الجديدة، بعد مخاض دموي عسير؛ ولكنه يريد ان يصدق دائما بأن المصائب لا تأتيه مباشرة. يعلم بأن “سياسييه” الرسميين منهم وغير الرسميين هم عبارة عن نهب خالص لكل الموارد، بما فيها عمره، ولكنه يحاول أن يتكيف مع كل هذا البؤس. وتتمة لذلك، يتعلم كيف يتجنّب الأسئلة والصراعات الأساسية، ويغوص في الصراعات التناحرية، المؤطرة. يتجنب هذا ويغوص في ذاك، لكي لا يخرج من جماعته ويُرذل ويُهمّش ويُحرم من رزقه، فلا يعرف كيف يعيش. ومن أجل ذلك، ينحني أمام الأخطار الحقيقية، يتغنى بها إرضاء لجماعته، بحيث يتحول، إلى شخص تابع لهذه الجماعة، لمقررات وتوجهات وأهواء قيادتها القريبة والبعيدة… فيكون فردا ممن جعلتهم بعض الروايات نماذج من طبائع ونفسيات، رسختها الأنظمة الديكتاتورية… اللبناني الآن صار يشبه الفرد في الانظمة الديكتاتورية: نظامه الابدي يهترىء امام ناظريه، ويتجدد، فيخرب حياته، يوقفها، يفسد جمال بلاده، فيما هو في اعماقه تابع له اشد التبعية، ولو صرخ بوجه الامبريالية والصهيونية… ليلا ونهاراً. الخلاصة ان اللبناني عاجز تماماً، حتى عن تحسين أوضاعه، لكي لا نقول تغيير “نظامه”، السياسي والاجتماعي. ذلك انه إبن هذا النظام ونتاجه، يعتاش منه ويغذيه بالأشكال الملائمة، كما في الديكتاتوريات. وهذا “النظام” المزمن طبع شخصيته، فصار يشبه مواطن الدول غير الديموقراطية، ذات الشعوب غير الحرة، ولا ينقصه سوى التواضع لإشهار تغريبته الخاصة.

http://www.almodon.com/opinion/80a799fe-ae32-4926-ab16-edae70b02b92

السابق
ليون: لن نتأخر عن الاستقالة إذا كانت تُبطل التمديد
التالي
ورش هندسية اسرائيلية في مزارع شبعا