المشرق بعد سايكس ـ بيكو

في كتابه «السلام المؤدي الى نهاية أي سلام»، يسرد دافيد فرومكين كيف أدت نهاية الدولة العثمانية الى تقسيم المشرق العربي الى دول تسهل إدارتها والهيمنة على مواردها لمصلحة الامبراطورية البريطانية والتوسع الفرنسي. أما جايمس بار في كتابه «خط على الرمل»، فيستفيض مستعملا أسلوب الرواية لشرح شخصيات «الموظفين ذوي الرتبة المحدودة»، بيكو وسايكس، وكيف أدت الخلافات الداخلية في فرنسا وبريطانيا (وبينهما) الى تقسيم المشرق وفق هذا الخط الرملي المسمى باسميهما. أما أهم ما ذكره جيمس بار، فكان ان إنشاء اسرائيل لم يكن سوى مشروع كولونيالي للحفاظ على خطوط النفط (ومصادرها في الحقول العربية) كما لحراسة قناة السويس والإشراف البحري بأقل الأكلاف البشرية للامبراطورية البريطانية.

نسمع الكثير من السياسيين والمحللين اليوم ممن ينعون اتفاق سايكس – بيكو وكل مفاعيله السياسية والجغرافية. السؤال المهم، ربطاً بعبر التاريخ المذكورة آنفا: هل هذا التحليل يشمل وريثة الدولة العثمانية (تركيا) والمشروع الكولونيالي الفاقد لأي شرعية ـ ما عدا القرارالاممي المسخ في 1947 ـ (اسرائيل)؟ ام ان المفاعيل لهذا النعي ستقف عند حدود المشرق العربي «لتقسيم المقسم وتجزيء المجزأ»؟
إن التحليل الطبيعي لمسار الامور منذ سنوات عدة، يؤكد حقيقة دامغة تناقلها العديد من مراكز الابحاث والكتاب الجديين: ان تنظيم الشرق الاوسط وفق سايكس ـ بيكو كان متناسباً مع الامبراطوريات التي سادت سابقا، ويعتبر من مخلفاتها غير المقبولة للامبراطورية العظمى التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية (أميركا). لذلك نرى منذ التدخل الاميركي المؤثر العام 1956 لإنهاء العدوان الثلاثي على مصر، أن أميركا كفّت يد كل من فرنسا وبريطانيا وأخذت مكانهما وسعت لحماية الأهداف الاقتصادية ذاتها (النفط والقناة والإشراف البحري)، مستعملة الادوات نفسها (اسرائيل أهمها). لكن إعادة تنظيم المنطقة سياسيا وجغرافيا كان بحاجة لوقت واستراتيجية واحدة لدى الادارات المتعاقبة مع أهمية فهم التاريخ المعقد جدا لـ«قلب العالم»، كما العقائد والأفكار السائدة فيه منذ قرون.
التغيير الحقيقي نحو إعادة تشكيل الشرق بدأ مع كيسنجر القادم من خلفية اكاديمية محترمة، خوّلته أن يبني أفكاره الخاصة عن «المسألة المشرقية» (بالمعنى الاوسع جغرافيا). هذه الأفكار الداعية لتنظيم المشرق بطريقة مختلفة، اعتمدت دائما على محورية دور اسرائيل استراتيجيا كحجر الاساس الذي يدور في فلكه المشرق، خصوصاً بعد حرب 1967. السبب لهذه المحورية بسيط: اسرائيل كيان استعماري يستمد وجوده من ولي أمر يساعده عسكريا واقتصاديا، وغير ذلك فالزوال نصيبه برغم الأساطير التي حيكت عن الشعب والكيان الاسرائيليين كما كتب واستفاض شلومو ساند؛ أما باقي شعوب المنطقة وبرغم من كل فقرها (العلمي أساسا)، فتبقى أصيلة ونابعة من تاريخها وجغرافيتها، ولذلك لا يمكن الوثوق بها كليا لأي مشاريع سيطرة كولونيالية.
أما بعد كل السنوات التي راهنت أميركا فيها على اسرائيل، فقد وصلت الى خلاصة اوائل هذا القرن، مفادها ان الطريقة الوحيدة لحماية مصالحها الاقتصادية في المنطقة (وصيانتها للمستقبل) تقوم على إعادة تشكيلها وفق «حدود الدم»، النظرية التي فسرها رالف بيترز في مجلة القوات المسلحة الاميركية العام 2006 وأعادت تأكيد بعض تقسيماتها مجلة الاتلانتيك العام 2008. لقد اقترح بيترز إعادة تشكيل الدول في الشرق معتمداً على حدود الاختلافات العرقية والدينية، قائلا انها تنصف البعض «كالكرد والشيعة». بعض الباحثين كان يرى ان هذه الافكار لا تتعدى كونها نظريات مؤامراتية غير قابلة للتطبيق. أما الآن، فهناك من يعتقد أن السيطرة على العراق وما جرى بعدها من أحداث ما هو إلا لتهيئة المنطقة لتطبيق حدود الدم على الارض.
وهنا نعود للسؤال الأساس: هل من إمكانية لتشظية الشرق العربي فقط من دون المساس بإسرائيل وتركيا؟ الجواب عن هذا السؤال، قطعا لا، حيث إن أي تقسيم جديد للمنطقة سيفكك بعض الأجزاء في تركيا لمصلحة الكرد اولا مع إمكانية وجود نزعات قومية ودينية تشجع انفصال أجزاء اخرى. أما اسرائيل فهي على الورق المستفيد الاكبر من تقسيمات كهذه، حيث انها تصبح زعيمة متوجة على أشلاء دول متنازعة دينيا وعرقيا، وتثبت للعالم أنها كدولة صهيونية في مكانها الصحيح.

http://assafir.com/Article/1/383065

السابق
الصراعات سنّية – سنّية أم سنّية – شيعية؟
التالي
المونسنيور منصور لبكي يخرج عن صمته: اسامح الجميع