ذكورة لا رجولة

تفوق المرأة على الرجل

زعيم لبناني يسوّق لصورته وهو محاط بوفرة من السيقان لشابات يتسابقن على عرش جمال ما؛ وزير لبناني يلحقه فيلتقط الصورة نفسها، بعدّة أقل من السيقان، ولكنه في مقام آخر يرسم في الهواء قوام ديبلوماسية لبنانية لإغراء وزير عربي بالبقاء، في حركة مبتذلة سجلت في شريط عبر الشبكة الالكترونية. نائب لبناني، من سجله الناصع اقتراحه التمديد لبرلمانه، لا يقلّ عنه بلاغة يصفع موظفة احترمت الدور والقانون، ويرفض «قسما بشرفه»، تقديم اعتذار. شباب تثيرهم فكرة انهم سينضمون الى «داعش»، لما يؤمنه هذا التنظيم من نساء للمتعة وللطاعة المطلقتَين.

ما العلاقة بين هؤلاء الرسميين اللبنانيين الثلاث وبين «داعش»؟ ما الذي يجمعهم؟

يجمعهم قتلهم للنساء، رمزيا أو جسدياً، ثم تخليهم، بعد ذلك، أو قبله، عن الرجولة وتصعيدهم لصفات الذكورة؛ أي انهم لم يعودوا أصحاب شهامة ومسؤولية وشجاعة وإحاطة، لم يعودوا كما كان أجدادهم أصحاب كلمة ومروءة ومفاوضة، أي باختصار، أصحاب رجولة؛ ولكنهم في المقابل لم يتخلوا عن صفات الرجال السلبية، فأبقوا على الذكورة بما تنطوي عليه من تسلط وعدوانية وتشييء للمرأة، وبحثهم المستديم، المرَضي، عن اللذة، بما يذكر بكآبة الحرملك، حيث عبودية النساء لشهوات الرجال، خصوصاً الأقوياء من بينهم، واعتباطية رغباتهم ومزاجيتها. بل انهم بالغوا بالذكورة، هم في الطريق إلى المزيد منها.

لماذا؟ لماذا فقد الرجال الرجولة، وهي الصفات الحميدة لجنسهم، ويتمسّكون بالذكورة، الحاملة لأبشع صفاتها؟

إبحث عن المرأة، وسوف تجد بأن الثقافة المعولمة والإفتراضية، المنتشرة كالنار في الهشيم بقلب عقولنا، تسير على هدى خطاب تحرر المرأة يقوم على دعامة واحدة: هي مزيد من اجتياح النساء للمجالات الرجالية، التي كانت حكراً عليهم فيما سبق. من القيادة السياسية وحتى الإختراعات العلمية والإنجازات المالية أو الأرقام القياسية… هذا الإنبثاق النسائي قديم، عمره قرنان في الغرب؛ بدأ متواضعاً، مقاتلاً، مقاومأ، وها هو يفرش لنفسه الورود على أعتاب السلطة المطلقة. الخطاب النسوي، المنبثق منه، صار الآن طاغياً في آذان النساء، الخائضات في معارك التشّبه بالرجال، وغير الخائضات منهن. خصوصاً آذان النساء اللواتي يقبعن في غالبيتهن في أتون البيت وهموم المنزل، لكنهن يستقوين بالخطاب التحرري على رجالهن، فيتمتعن بحرية وبقرار لم تجنهما أياديهن… كثرة الأدبيات والمؤتمرات والندوات والأعمال الفنية الداعية الى هذا التحرر، تدفعها الوثبة الخارجية وتمويلاتها، كثرة الكلام على الشاشة والشبكة عن النساء، عن العنف الذي يتعرضن له، عن عدم إنطباق هذا التحرر مع واقعهن المُعاش… كل هذا حوّل النساء إلى شيء يشبه الظالم المظلوم، أو المظلوم في أولى أيام وعيه لإمكانية قيامه على الظلم، إمكانية واقعية وكلامية، لها سلوكياتها وحججها و»نموذجها الخارجي» المنتصر. وفي لحظة معينة يختلط وعي المرأة التي انجزت بوعي المرأة، والتي لم تنجز، فيصبحن كائناً واحداً، للإستقواء والتماهي. ولأنها حرب من نوع خاص، ولكنها في النهاية حرب بين الجنسين، فان هذه الحركة التحررية في طريقها الى جرف الصفات الحميدة للرجال، أي الرجولة، وتعزيز الصفات الخبيثة، أي الذكورية .

ماذا تكون ردة الفعل اذن لدى الرجال إزاء تلك العملية البطيئة والحثيثة لانتزاع صفاتهم منهم وانتقالها الى النساء؟ وفي ظل مناخ معولم هو المزيج من العنف الدموي العام والخاص، ومن الصعود الصاروخي للنساء الى أعلى مراكز القرار، وفي منطقة ما زالت غائبة عنها البدائل، غير تلك القائمة بين العسكر والإرهاب الديني؟

كرب الرجال هو أبسط ردود الفعل. وهو مفهوم، لأن العملية هذه، ضمن تلك المناخات، تنتزع مجالات وصفات الهوية الأولى للرجل الانسان، هويته الجنسية، التي تعرّفه في أولى لحظات ولادته. والصفات التي حملها، ورسخت عنده كما النقش على الحجر، هي أساس توازنه النفسي وعلاقته بنفسه وبمن حوله. هذه الهوية بالذات مهددة، ليس لتستبدل بهوية ناجزة أخرى، أكثر إغراء أو معنى، وهذه عملية مستحيلة على كل حال، إنما لتحرم من مكوناتها. وبعملية غير واعية ومعقدة، يقاوم الرجل هذا الإجتياح، فيتخلص، في أتون هذه الحرب، من الصفات التي تثقل جناحيه، تلك التي تطلب وقتا وجهدا وتضحية، صفات الرجولة الحسنة، فيطور الصفات الأسهل، الموجودة، الجاهزة، العفوية، ويعطيها المدى الذي تقدر عليه. وهو بذلك يدافع عن حصن نفسي منيع، يحميه من غزوات النساء وقتاليتهن، بل تفوقهن عليه بالصفات الأنثوية الفذة، فتكون بسلاحين: سلاح الإغراء والأمومة، وسلاح الاستيطان في أراضي الرجال واكتساب مهارتها. واحدة من المفارقات التي أوقعت الذكورية نفسها بها، انها بردة فعلها على صعود النساء، شاءت أن يكون تشييئها، أي عودتها الى مجرد كائن مغرٍ جنسي.. هذا التشييء انقلب لصالح ذاك السلاح الإضافي، ولسان حاله يقول: تريدون نساء مغريات؟ اليكم مغريات ووزيرات، مغريات ومحاميات عالميات، مغريات ورئيسات وزراء وجمهورية…

فيكون حال رجالنا كما هو الآن: «الأقوياء» من بينهم، المتسلطون على عقول الناس، يعطون لهم المثل: فكم من الرجال أحب ان يتصور مع نساء مغريات، كاشفات عن سيقانهن؟ وكم منهم طلب من رفيقه اللبناني، أو الأجنبي بأنه لا يطيق العمل إلا مع «قنبلة جنسية»؟ وكم منهم مستعد أن يصفع امرأة على قارعة الطريق، لأنها لم تفهم سؤاله التهديدي «أنت عارفة حالك مع مين عم تحكي» (مع من تتكلمين؟»)… أو كم منهم يجد نفسه في المغني الذي يقول لخطيبته انه لا يريد منها ان تعمل، فالعمل مذلة؟

العلاقة بين «داعش» والمسؤولين اللبنانيين الثلاثة ليست صدفة. انها تدخل في صيرورة تاريخية بطيئة وشبه خفية. لا نلحظها من شدة تسللها الى مساماتنا؛ ولكن حصيلتها قنابل انشطارية ثقافية، يصعب لجم نيرانها على العلاقة بين الجنسين. عندما يقول الرجال انه لم يعد هناك رجال، وعندما توافقهن النساء بالقول فعلاً انه لم يعد هناك رجال، فهذه إشارة الى تحوّل: الرجال بملاحظتهم يستنكرون كل هذه الكثرة للنساء في المجال العام. والنساء بملاحظتهن يسخرن بمرارة على غياب صفات الرجولة المطلوبة من الرجال، فيلغين وجودهم رمزيا وحرفياً. هل يختبئ الرجال خلف الأسوار أم أنهم لم يعودوا رجالاً، لا كما كانوا، ولا كما عليهم أن يكونوا…؟

ان المسؤولية الكبرى للمبادرة الى معالجة هذا العطب في العلاقة بين الجنسين تقع على عاتق النساء أولا. بصفتهن صاحبات الحظ في تبدل أحوالهن، سواء وقع عليهن هذا الحظ بما يتقن إليه، أو لا يطقنه. خصوصا إذا كن بحاجة الى الرجولة أكثر من الذكورة.

بداية، على الدارسات في شؤون المرأة، الغوص في دراسة أحوال الرجال، بموازاة دراستهن لأحوال النساء. إذ لا يمكن إعادة صياغة العلاقة بين الجنسين من دون معرفة الجنسين، بمجرد الإكتفاء برفع قوائم المظالم الواقعة على النساء. ان الدراسات المسماة نسائية أو نسوية، أو الندوات أو المؤتمرات أو التحقيقات الصحافية الخ، وكلها مقتصرة على النساء، خلقت مجالاً معتماً مجهولاً، ينقصه كل شيء، غريباً عن العالم الداخلي النفسي الذي عاشه أو يعيشه الرجال نتيجة هذه التبدلات في الأقوال والمواقع والتصرفات… هذا العالم، عليهن سبر أغواره عميقاً، وبالشغف نفسه الذي تسبرن به أغوار النساء. ربما نخلص منها إلى عناصر جديدة أو قديمة، مشتركة أو منفصلة، بين الجنسين، فيتم الحوار المفتوح بينهما على غير قواعد الكليشيهات المعروفة، من نوع ان الرجال «خونة بالفطرة» والنساء «كاذبات بطبيعتهن»… فتبقي المتاريس مرفوعة بين الجنسين.
نشر هذه المقالة للمرة الاولى في نوافذ

السابق
إجتماع في حاصبيا: شبعا لن تكون عرسال ثانية
التالي
سورية تحت الاحتلال