مؤتمر العائلة جمع سياسيين ورؤساء طوائف بمشاركة فاتيكانية

افتتح بطريرك انطاكية وسائر المشرق والاسكندرية واورشليم للروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام ورئيس اللجنة الاسقفية منسق لجان العائلة الكاثوليكية في الشرق الاوسط المطران انطوان نبيل العنداري، بالتعاون مع حاضرة الفاتيكان، مؤتمر “العائلة وتحديات العصر في الشرق الاوسط”، عند الخامسة عصر اليوم في “المركز العالمي لحوار الحضارات -لقاء”، في الربوة، في حضور رئيس مجلس الوزراء تمام سلام وبمشاركة رؤساء الكنائس الشرقية والطوائف الاسلامية، وحشد من الوزراء والنواب وشخصيات عسكرية وسياسية وروحية وحزبية واقتصادية واجتماعية.

افتتح المؤتمر بالنشيد الوطني عزفته اوركسترا قوى الامن الداخلي بقيادة المقدم زياد مراد. وقدم المتحدثين الاعلامي جورج قرداحي.

سلام
ثم ألقى سلام كلمة قال فيها: “إنه لمن دواعي سروري أن أقف متحدثا، أمام هذا الحشد من المقامات الدينية، والعلماء والرموز والقيادات وأصحاب الفكر النير، الذين يلتقون في هذا اليوم المبارك، تلبية لدعوة صاحب الغبطة البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، الذي نشكره على مبادرته، وندعو له بدوام الصحة وبطول العمر.

الكلام في هذا المقام، لا بد أن يبدأ من المشهد الجامع الذي تمثلونه جميعا، وتجسدون به، روحيين وزمنيين، التنوع الفريد الذي هو سمة لبنان الأولى ومصدر غناه.
إن هذه الصورة، التي تعرضت ويا للأسف، للاهتزاز في محطات استثنائية من تاريخنا القريب والبعيد، شكلت دائما الوجه المشرق للبنان، وجعلته تجربة فذة في محيطه… وفي العالم.
هذه الصورة الجامعة، تتعرض اليوم لعدوان يبغي تمزيقها، ومحو بهائها وإلغاء كل ما مثلته وتمثله من معان عميقة، صنعت ألق هذا الشرق على مدى مئات السنين.

نعم. إن التعايش المديد بين أتباع الديانات في هذه المنطقة من العالم، التي هي مهد الحضارات ومنبع الرسالات السماوية، يتعرض لاعتداء مزدوج؛ واحد قديم… وآخر مستجد.

أما القديم، فهو ذلك الذي مورس منذ بدايات القرن العشرين، وأدى إلى طمس نموذج من العيش الهانىء والمشترك، بين المسلمين والمسيحيين واليهود على أرض فلسطين، حيث أقامت الحركة الصهيونية دولة دينية عنصرية، مارست ولا تزال، أبشع أنواع الإضطهاد بحق المسلمين والمسيحيين”.

وأضاف: “النموذج المستجد، الذي لا يقل سوءا عن النموذج الصهيوني، هو هذا الزحف المشؤوم للموجة الظلامية التكفيرية التي ترفع راية الاسلام، وإسلامنا منها براء، لتخرب المجتمعات، وتضرب التعايش بين أتباع الديانات المختلفة، عبر استهداف الإسلام والمسلمين أولا، ومن ثم تهجير المسيحيين وغيرهم من الأقليات الدينية والعرقية من مدنهم وقراهم في العراق وسوريا.
إنني من على هذا المنبر، أجدد دعوتي إلى المسلمين اللبنانيين والعرب، للعمل على تنقية صفوفهم وتثبيت إسلامهم المعتدل والمنفتح، وعلى العمل بكل ما أوتوا من أجل تثبيت المسيحيين في أرضهم، حرصا على وجودهم ودورهم في مجتمعاتهم، بعيدا عن الانغلاق على الذات أو الشعور بالخوف والإحباط.

كما أوجه الدعوة إلى المسيحيين اللبنانيين والعرب، الى الإنخراط الكامل في رسم مصائر مجتمعاتهم وأوطانهم، في هذه المرحلة التاريخية الصعبة، التي تمر بها هذه الأوطان. فمثلما كانت لهم دائما مساهمة أساسية في صنع تاريخ المنطقة، هم مدعوون اليوم إلى تقديم مساهمة أساسية في صنع حاضرها ومستقبلها”.

وأشار الى أن “المسيحيين مطالبون بالتمسك بممارسة عقيدتهم، والقيام بواجباتهم الوطنية كاملة، وبعدم الإستنكاف عن لعب أدوارهم الفاعلة، بالتساوي الكامل مع إخوانهم المسلمين في الغنم والغرم، كما في المسؤولية الوطنية.

إن المسيحيين ليسوا جاليات أجنبية في هذا الشرق. إنهم أهله وجزء أساسي من الضوء المشع في جبينه.
لا يجوز التعامل معهم على أن حضورهم طارىء، ولا يجوز لهم التصرف على أن وجودهم موقت”.

واعتبر أن “الضرر البالغ الذي يتعرض له المسيحيون اللبنانيون في هذه الأيام، وجميع اللبنانيين بطبيعة الحال، هو استمرار الشغور في موقع رئاسة الجمهورية، بسبب العجز غير المبرر، عن التفاهم على إنجاز الإستحقاق الدستوري الأهم في البلاد.
إن وجود رئيس للجمهورية، هو شرط أساسي لاكتمال بنية هيكلنا الدستوري، وغيابه تشوه غير طبيعي لحياتنا السياسية.
ولذلك، فإن من غير الجائز القبول باستمرار هذا الوضع غير السليم، والاستسلام لفكرة أننا قادرون على تصريف أمورنا بشكل طبيعي من دون انتخاب رئيس.

لقد وجدت القوى السياسية مخرجا لتفادي الفراغ التشريعي عبر تمديد ولاية مجلس النواب. ومن واجبها المسارعة اليوم، إلى انتخاب رئيس جمهوريتنا اللبناني المسيحي الماروني.
إن أي تأخير في إنجاز هذه الخطوة، هو إساءة الى لبنان، الذي تكبر خسائره كلما تضاءل الحضور المسيحي والقرار المسيحي في حياته الوطنية”.

وقال: “لقد مد الإرهاب، الذي يعصف بالمنطقة، شروره الى لبنان. شهدنا مسلسل عمليات التفجير المشؤومة. وواجهنا العدوان الذي تعرضت له بلدة عرسال، وما أسفر عنه من خسائر بشرية ومادية، وترافق مع احتجاز عدد من أبنائنا العسكريين، الذين نسعى بكل ما أوتينا لتحريرهم، ونؤكد أننا لن نوفر وسيلة لإعادتهم إلى عائلاتهم.
كما واجهنا مؤخرا أعمالا إرهابية في طرابلس، تم التصدي لها بأثمان باهظة، دفعناها من دماء ضباطنا وجنودنا، ومن دماء مواطنين لبنانيين أبرياء، فضلا عن الخسائر الكبيرة في الممتلكات العامة والخاصة.
إن هذه المعركة الأخيرة، على بشاعتها، أظهرت حقيقتين ناصعتين دحضتا أوهاما كانت رائجة في الفترة الأخيرة.
الحقيقة الأولى هي الالتفاف الكبير، في طرابلس والشمال وكل لبنان، حول الجيش اللبناني وهو يخوض معركة الطرابلسيين أولا، وعموم اللبنانين ثانيا، ضد شذاذ الآفاق الذين أساءوا لمدينة العلم والعلماء، وعبثوا بأمنها وأمانها ولقمة عيش ابنائها. رحم الله شهداء الجيش، شهداء لبنان، وشفى الله الجرحى.

أما الحقيقة الثانية، فهي ما أثبتته طرابلس مرة جديدة، من خلوها مما يسمى بيئة حاضنة للإرهاب، وتمسكها بإسلامها المعتدل ووسطيتها وانفتاحها، وبالدولة ومؤسساتها”.

وختم: “في لبنان، وعلى امتداد أرض العرب، لن يحل مشكلة المسيحيين، إذا كانت لديهم مشكلة، إلا المسيحيون والمسلمون معا. ولن يحل مشكلة المسلمين، إذا كانت لديهم مشكلة، إلا المسلمون والمسيحيون معا. فلنعقد النيات على الخير، ولنشبك الأيدي للعمل من أجل ما فيه مصلحة هذا الوطن وأهله”.

عزو
ثم القت الامينة العامة للجنة الاسقفية للعائلة والحياة في لبنان ريتا عزو كلمة ترحيبية قالت فيها: “جئنا نضع رؤية واضحة منطلقة مما نعيشه، ولا نتسقط الحلول بما يتلائم والواقع. من هنا السعي الحثيث لمتابعة ما سيصدر عن المؤتمر من توصيات، فلا تبقى حبرا على ورق، بل تغدو شهادات حياة في مسيرة نحو الافضل”.

الصحناوي
بعدها، القى الوزير السابق نقولا الصحناوي كلمة الجمعية اللبانية لتطوير الحوار، وقال: “ما هي العائلة؟ ما هو مفهومها؟ ما هي قيمها؟ وما اهميتها؟ هل تتكيف مع الحداثة؟ هل هي ضرورية؟ اختيارية؟ هل ينبغي ان تكون مطالِبة او معطاة؟ هل التضامن فيها مطلق؟

عديدة هي الاسئلة التي يطرحها سكان ارضنا البالغ عددهم سبع مليارات، والتي يسعى المشاركون اليوم في هذا المؤتمر الى الاجابة عليها، كل بطريقته الخاصة.
هذه الاسئلة نفسها يجب ان تطرحها، وتحاول ايجاد الاجوبة المناسبة لها، الطوائف الدينية التي تشكل فسيفساء العائلة اللبنانية الكبيرة”.

أضاف: “أقول ينبغي ايجاد تلك الاجوبة، لأن وجود لبنان، او عدمه يعتمد على تلك الاجوبة.
لذلك، لا بد لي من إضافة نموذج آخر، هي عائلةالدول العربية. فالاسرة العربية هي اليوم مصابة بنفس المرض الذي يفتك ببلدنا ووحدة اولاده، وعليكم كمشاركين ايجاد الوصفة الشافية بعد تشخيصكم للمرض واكتشاف اسبابه.
كما عليكم ايجاد الحلول بشكل سريع، فالوقت قصير. وحياة الملايين من العائلات مهددة، وثقافة مئات الملايين من المواطنين في دائرة الخطر.
وأود أن اتوقف عند هذا الحد، دون التطرق إلى أسرة الامم التي يبدو لي انها أيضا في أزمة، الا ان ذلك هو عنوان مؤتمر اخر.

اما مشاركتي فستكون محدودة، وستختصر باقتباس من كلمة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في الاحتفال باليوم العالمي للسلام في العام 1994، وقد تشكل هذه الكلمة المفتاح الذي يفتح لنا باب الحل:

لكي تكون شروط السلام مستدامة لا بد ان يكون هناك مؤسسات تعبر عن قيم السلام وتعززها. المؤسسة المرتبطة بشكل فوري بالانسان هي العائلة، فهي وحدها يمكن أن تضمن استمرارية ومستقبل المجتمع. فمن المتوقع اذن ان تصبح العائلة بطلة تنشيط السلام في العالم، وذلك بفضل القيم التي تُعبر عنها والتي تدخل الى داخل المنازل، وبفضل مشاركة كل عضو من اعضاء العائلة في المجتمع الخارجي.

إن إيجاد حل لإعادة تأهيل المستويات الثلاثة للأسرة ليس بالمهمة السهلة. مسؤوليتكم ايها السادة كبيرة جدا، ولا احسدكم على موقعكم. فتنوع المشاركين وتمتعهم بالميزات الفردية تدفعنا الى أن نأمل بالخير”.

وختم: “انني متأكد من قدرتكم على الاجابة عن بعض الاسئلة التي تهز الالفية، والتي تشغل بال كوكبنا بأجمعه: كيف يمكننا تحفيز وتربية الفقراء والجهلة على مقاومة إغراء المال، وعدم الانجرار وراء أيديولوجيات مضللة، ونظريات عنصرية، والجماعات التكفيرية المتطرفة، وكيفية مكافحة التفسيرات الخاطئة للأديان.

قد لا تتمكنون من ايجاد كل الإجابات على جميع الاسئلة المطروحة، الا اننا مطمئنين اننا تمكنا بواسطة الكاردينال Lorenzo Baldisseri، ان نوصل هذه الاسئلة الى قداسة البابا فرنسيس الذي نجح منذ بداية حبريته باحياء قوة الرجاء في نفوسنا”.

ثم كانت وقفة موسيقية واناشيد .

باسيل
وكانت كلمة لوزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل قال فيها: “ان العائلة هي ركن مجتمعاتنا المشرقية وهي أساس ثقافتنا، من قدسيتها في الكتب المقدسة إلى ضرورتها في عالمنا المتطور. وقد استمرت وصمدت بالرغم من الأحداث الدامية في لبنان، لأنها اللبنة الأساسية في بنائها الاجتماعي. ولولاها، لما تغلب لبنان على مآسي حربه الأهلية، وحافظ على لحمته المجتمعية. نرى العائلة تتألم وتتضامن في زمن المحن، ونرى فيها الأمل ومنبع الفرح في زمن الفرج.

إن مؤتمرنا يأتي في أوقات مأزومة يعيشها عالمنا وترتد بالتالي سلبا على العائلة في مجتمعات الشرق والغرب. من الطبيعي إذا أن يساورنا قلق عميق حول مستقبل العائلة ويزيدنا تمسكا بها كونها هي الملجأ الأخير للفرد في جماعته عندما تضيق به السبل، وتخذله الأطر الاجتماعية الأخرى التي يفترض أن تحميه وتحضنه. وبالتالي فإن انهيار العائلة، يعني فقدان التوازن في المجتمع بشكل يستحيل بعدها إعادة بنائه.

إذا، هدفنا المركزي هو حماية العائلة، ويتوجب علينا لذلك:
– صون دورها الاجتماعي المحوري:
إن دور العائلة، في مفهومها الاجتماعي يكمن في تحضير الإنسان وتأهيله أخلاقيا واجتماعيا تسهيلا لانخراطه في المجتمع، فيتحول عندها إلى كائن اجتماعي يلعب دوره كاملا في تطور المجتمعات وازدهارها. فكما تحضر المدرسة الفرد للحياة المهنية، تقوم العائلة بتحضيره للحياة الاجتماعية. لا شك في أن المشاكل التي تعترض مسيرة العائلة في مجتمعاتنا المعاصرة كبيرة وأسبابها عديدة ومتشعبة، يختلط فيها الاجتماعي بالاقتصادي، وتدخل عليها الثورات الرقمية وما تحمله من تغيير في العادات، فتزعزع أسسها وتوقعها تحت أخطار التصدع والتفكك نتيجة وطأة الأزمات السياسية والضغوط الاقتصادية والاجتماعية حيث يعجز الهيكل العائلي على تحملها. علينا اذا أن نحافظ على هذا الدور الاجتماعي المحوري للعائلة في وجه هذه المخاطر.

– حسن انخراطها بالإطار الأوسع الذي تشكله الدولة:
تلعب الدولة دور العائلة على الصعيد السياسي، فتسعى إلى تحويل الإنسان من كائن اجتماعي بحت إلى مواطن يتأقلم مع القوانين الجماعية ويحترمها، انطلاقا من التزامه بحرية الآخر في المعتقد وأي اختلاف آخر. لا تزدهر الدولة في حال لم تبادر العائلة إلى زرع بذور المواطنة في أذهان أفرادها; وفي المقابل لا تصمد العائلة وتتعلق بأرضها وجذورها في حال لم تسهر الدولة على حمايتها، ودعمها بالتقديمات الاجتماعية، وبالتشريعات التي ترعى مصالحها. أما في وزارة الخارجية والمغتربين، وفي إطار نهج الدبلوماسية الاغترابية الفعالة الذي أرسيناه، فإننا نترجم تمسكنا السياسي بمفهوم العائلة من خلال جهد خاص نبذله للم شمل العائلة اللبنانية المبعثرة بين الوطن والانتشار وإعادة وصل الروابط بين المقيمين والمنتشرين.

– الحفاظ على دورها الروحاني:
الكنيسة هي العائلة التي تجمعنا كلنا وتجعل من كل إنسان كائنا مكتملا بعد المجتمع والدولة تؤمن له التواصل مع الخالق وتنمي وعي الفرد وقدراته من خلال مرافقته على دربه الروحاني. هناك ميل طبيعي لدى أجيالنا الصاعدة، خاصة تحت تأثير وسائل الأعلام في مجتمعاتنا الاستهلاكية، كما وسائل التواصل الاجتماعي، إلى الانغماس في الجانب المادي الترفيهي للحياة، وإهمال البعد الروحاني. وهذا لكارثة كبرى، خاتمته جيل غير مبال، فاقد للهوية، يعيش دون هدف، يصعب عليه تأسيس عائلة، لأنه بعيد عن روح التضحية، وينقصه النضوج. والأخطر من ذلك هو إذا انتفض بعض أفراد هذا الجيل، وراحوا لا يطيقون الفراغ الذي يعيشونه في حياتهم نتيجة فقدانهم البوصلة ومعايير الحياة وسلم القيم; وقد تأخذ انتفاضتهم طابع التكفير، والميل إلى نبذ المجتمع بأكمله، والزهو بأعمال العنف (باسم الدين للتبرير)، وصولا إلى ارتكاب أعمال إرهابية. هذا كله يمكن تفاديه، في حال لعبت العائلة، مدعومة من المدرسة والدولة، دورها الروحاني، وربت أفرادها منذ نعومة أظافرهم على القيم السماوية، وخاصة التسامح، والمحبة، والتضحية”.

أضاف: “إن الحل يكمن اذا في تعاون الدولة والكنيسة والعائلة حفاظا على العائلة.
قد يقول البعض أن الدور الإصلاحي يعود للدولة، في اداء مؤسساتها. وعلى الدولة أن تلعب دور المربية الاجتماعية التي ترعى حقوق الفرد والمجموعة. ولكن هل من وسيلة في يد الدولة للعب هكذا دور، وهي التي يتكبر عليها الفرد وتستصغرها المجموعة أو الجماعة؟ فالدولة في المنطقة تتعرض أيضا لتحديات هذا الزمان ومخاطره. دولتنا، في لبنان، مهددة يوميا بحدودها، من قبل عنصرية إسرائيل التي تغتصب أرضنا وبرنا وبحرنا، ومن قبل جحافل التكفيريين وإرهاب داعش وأخواتها الذين يهددون أهلنا بظلامية لا حد لها ولا حدود. وهي مهددة ببنيانها، بفساد مزمن وبضعف هيكلها الإداري الذي نحرته الحسابات الرخيصة حتى قضت على فعاليته. وهي مهددة بتكوينها نتيجة الخطر الديموغرافي المتمثل بنزوح حوالي 1,6 مليون مواطن سوري، و400 ألف فلسطيني والذي يجعل من بلدنا حاملا الرقم القياسي لنسبة النازحين بالكلم2، فيذوب اللبناني في بحر من اللاجئين، ويذوب لبنان في أحادية مناقضة لسبب وجوده”.

وأكد أن “دولتنا اليوم مهددة في تكوينها وكيانها وهو تهديد وجودي يستدعي تحرك الكنيسة لتحريك العالم في نجدتها. والسؤال هو هل هذه هي قدرة الكنيسة إزاء ما حصل في الموصل مثلا، أم أنها لم تتحرك بما يلزم ويكفي؟ وفي الحالتين، فالمصيبة كبيرة.أما الكنيسة الجامعة التي تحمل رسالة التسامح والفداء فهي باقية بالرغم مما يعترضها من تحديات. والكنائس في المشرق تدل على أهمية صمودها للمحافظة على التعددية، خدمة للانسان ودفاعا عن العائلة وتحصينا للدولة”.

ورأى “أن بعض التعاليم الدينية أصبحت تستخدم كشعارات جهادية وأن منازل المسيحيين صارت تحمل شارات تمييزية، فيذكرنا حرف “النون” الداعشي بنجمة داوود النازية. كما أننا نلمس دموع الأهالي الذين يودعون أبناءهم المهاجرين، ودموع الأمهات في وداع شهداء الوطن. إننا نشتم أيضا رائحة البارود من أرض المعارك بين جيشنا الوطني والسرطان التكفيري. والكنيسة تتذوق يوميا الكأس المر: كأس العائلة المهددة بالتفكك وكأس الدولة المهددة بالزوال. أما الامتحان الأصعب فهو قدرة الكنيسة على المبادرة في ظل أوضاع باتت تهدد وجود المكون المسيحي في المنطقة. وعليه اننا ندعو الكنائس جميعا إلى المبادرة باتجاه جميع مرجعيات الطوائف والعمل معها باتجاهين:
أولا، تعرية التنظيمات الإرهابية التي تتستر خلف الشعارات الدينية من أي غطاء عقائدي أو ديني، وإدانة الجهات التي ترعاها.

ثانيا، مواجهة التحدي الوجودي الذي يعانيه المسيحيون وغيرهم من الأقليات الإتنية والعرقية واللغوية في المنطقة، بالانتصار على الاضطهاد الذي تمارسه بحقهم تنظيمات إرهابية وأنظمة عنصرية”.

وختم: “من موقع المسؤولية الأخلاقية والوطنية والدينية، نعاهدكم اليوم في حرم بطريركية إنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم للروم الملكيين الكاثوليك، وبضيافة غبطة البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، أننا سوف نكون في الصدارة لمواجهة التحديات التي تعترض مسيرة عائلاتنا. من حقنا، ومن حق أولادنا علينا، أن نطمح إلى وجود حر. من واجبنا أن نصون دور لبنان وهو وطن الرسالة والتعددية. من وفائنا الديني أن ندعو صراحة الكنيسة الجامعة إلى استدراك بعض الخطوات والإقدام على أخرى.

نرى اليوم في مشرقنا العربي، أن العائلة في مفهومها الاجتماعي، والدولة في حجمها السياسي، والكنيسة في بعدها الديني، تقف كلها في مهب التكفير. تكفير يهدد، ويحارب، ويذبح في محاولة للنيل من جوهر الرسالة، رسالة الإنسان. إن حصانتنا نحن كأفراد هي من حصانة العائلة التي يجب ان تقوم على إيماننا بالقيم الإنسانية، وعلى تمسكنا بأرضنا ووطننا وارثنا وعلى نشرنا لرسالة التسامح التي يحملها لبنان.
إن خسرنا العائلة، نخسر أنفسنا، ويخسر لبنان ومعه المشرق كله. وإن ربحنا في المحافظة على دور العائلة، نربح انفسنا والعالم، وهو يربح بقاء لبنان”.

ريفي
بدوره، قال وزير العدل اللواء اشرف ريفي: “من هنا من الربوة، من المركز البطريركي العالمي لحوار الحضارات، نلتقي باسم لبنان الحوار والعيش المشترك، العيش الواحد، من هذا الوطن، حيث لم يستطع العنف المنتشر في العديد من دول هذه المنطقة، أن يسكت صوت العقل والاعتدال. نحن جميعا في معركة مصير واحدة، ولا مجال أمامنا للاختيار. إما أن ننتصر لذواتنا ولأبنائنا ولما نؤمن به من قيم المحبة والسلام والبناء، وإما أن ينتصر لا سمح الله دعاة العنف والموت والظلام وأرباب الاستبداد والارهاب. هؤلاء الذين يعاندون التغيير وحركة التاريخ، وهم جميعا متكاملون في قتالهم، لقوى الخير والاعتدال”.

أضاف: “من هنا، من لبنان، وطن الحرية والانسان، وطن تفاعل الأديان والمذاهب، نعيد تأكيد ما قاله البابا يوحنا بولس الثاني، الذي اعتبر أن هذا الوطن ليس وطنا عاديا، انه وطن الرسالة، انه رسالة. وأرى من واجبي كما غيري ضرورة التذكير دوما، بهذا الكلام العظيم، لأننا جميعا مسؤولون، مسلمين ومسيحيين، عن انجاح هذه الرسالة، لنجعل منها نموذجا يحتذى في العالم. فلو لم يولد هذا الوطن عام 1920، بجهد البطريرك الياس الحويك، وجميع المخلصين، لكان على العالم أن يعمل على ايجاده. هذا الوطن ليس كيانا جامدا في الجغرافيا ولا في التاريخ. انه نموذج حضاري، انه نموذج فريد، نشعر اليوم، أكثر من أي وقت مضى انه حاجة انسانية لكونه يحمل قدرة كبيرة، بما يمثل من تعدد ديني ومذهبي ومجتمعي، وبما يمثل من تفاعل ايجابي بين هذه المكونات، على أن يكون، رسالة الحياة والاشعاع، في مواجهة ثقافة العنف والموت”.

وتابع: “على أرض الحضارات ومهد الأديان السماوية، نعيش معا، مسلمين ومسيحيين. نتغذى من الارث العظيم، الذي أعطته هذه المنطقة للانسانية. على هذه الأرض عاش السيد المسيح، عليه السلام، فكان الثائر الاول، بوجه الظلم والاستبداد، وبوجه كل ظالم. وعلى هذه الأرض ولد النبي محمد وهو نبي الاسلام دين السلام، والرحمة، فنشر رسالة الدعوة الى عبادة الله الواحد، ودعا الى احترام انسانية الانسان، وحريته وحقه في الخيار الحر والتفكير”.

وقال: “من الظلم الكبير لهذه المنطقة وأهلها، أن توسم بالارهاب، وهي منه براء. من الظلم الكبير أن تتهم طائفة أو مذهب بالارهاب، فالارهاب ممارسة سياسية ايديولوجية تتغطى أحيانا بالدين. تعميم الاتهام يهدف للانقضاض على كل من عارض سياسات النفوذ والاستبداد، من خلال رميه بالتهمة الداعشية. ان مصدر هذه الحملات هو نفسه، الذي كان يلفق لشبابنا المعارض خلال فترة الوصاية، تهمة العمالة لاسرائيل، لرميهم في السجون والمعتقلات، كلما طالبوا بسيادة بلدهم. ما أشبه اليوم بالامس، وما أحوجنا الى الوعي والانتباه، لمواجهة كل هذه المؤامرات”.

أضاف: “من المستهجن أن تشن هذه الحملات على لسان بعض من مارس الارهاب والتكفير، ومن نفذ المجازر بحق الانسانية، واستعمل السلاح المحرم دوليا. آفة الارهاب والسلوكيات الارهابية، هدفت الى تشويه صورة الاسلام. هذه الآفة، ولدت من مدارس متعددة، وليست محصورة ببيئة واحدة، انما يجمعها نمط تفكير واحد منحرف. كلنا يذكر فتاوى القتل باسم الدين، ويذكر ملاحقة المفكرين الكبار وقتلهم، بتهمة التفكير. كلنا يعرف أن للتكفير ألف وجه ووجه، وللتاريخ الحديث على هذه المدراس الظلامية شواهد كثيرة. نحن مصرون على محاربتها جميعا، بالاسلام نفسه، دين الرحمة وحرية الانسان، وبالشراكة الإسلامية – المسيحية. نعم الإسلام دين حرية الانسان. واستعيد هنا قول الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا؟ هذه العبارة هي الرد على التكفير وعلى كل مدارس التكفيريين على تعدد انتماءاتهم المذهبية”.

وتابع: “ان الرسالات السماوية وخصوصا الاسلام والمسيحية، كما كل القيم والشرائع الانسانية، تدعونا لكي نواجه لغة والتطرف والاستبداد، وهي لغة واحدة، بشجاعة التمسك بقيم السلام والمحبة، كطريق حتمي الى الإرتقاء بأهلنا وبشعوبنا الى حيث يليق بنا وبهم، بعيدا من لغة الارهاب والاستبداد. لهذا أدعو الى اسقاط شعار تحالف الأقليات، وبناء تحالف المعتدلين، الذي يضم كل من يؤمن برفض العنف، وقبول الاخر. لطالما كان المعتدلون، الأكثرية، وهم دوما المنتصرون في النهاية، فالتطرف ظاهرة مرضية، آنية. إن المسيحية كما الاسلام أصيلة في هذا الشرق، والمسيحيون ليسوا أقلية، بل هم جماعة فاعلة. المسيحيون ليسوا بحاجة لحماية من أحد، ولا لوصاية احد”.

وقال ريفي: “في هذه المناسبة، أدعو كافة القوى الحرة المؤثرة والقادرة في سوريا، الى المساعدة في كشف مصير المطران بولس اليازجي، والمطران يوحنا ابراهيم، والمصور سمير كساب وكافة المخطوفين والمعتقلين الابرياء، لكي يخرجوا الى الحرية، وذلك اسوة بالجهود التي نقوم بها لاطلاق سراح عسكريينا الأبطال”.

أضاف: “على الرغم من كل محاولات التشويه، ومهما قيل، بدأت مرحلة جديدة في المنطقة. الشعوب العربية، لم تعد ترضى بالعيش في السجن الكبير، الذي ضاق بأهله الى حد الانفجار. إن للناس حقا طبيعيا بالعيش بحرية وكرامة وما يجري حاليا، في بعض الدول، من خلال تشجيع التطرف والارهاب، والدفع الى حروب مذهبية، هو محاولة لحرف الناس عن هذه التطلعات. إن هذا الارهاب الأعمى الذي تمثله داعش واخواتها، ليس من الاسلام بشيء. وما يحصل الآن في محيطنا هو مجرد صراع بين ارهابين، الاول يلبس لباس الدين والدين منه براء. والثاني يلبس لباس العلمانية، والعلمانية، بما تعنيه من قيم متصلة بحفظ حق الانسان في التعبير والتفكير والمواطنة، هي أيضا منه براء. نحن وبكل وضوح، نرفض أن نكون أسرى لهذه المعادلة، ونقول: آن الاوان لكي ينبلج فجر الحرية في هذه المنطقة، وليسقط الاستبداد والارهاب معا”.

وتابع: “يعيش وطننا لبنان أزمة بشقين: الشق الاول داخلي ناتج من تعطيل مسار الدولة، نخشى أن يقود الى فرض مؤتمر تأسيسي يؤدي الى المثالثة. في هذا الاطار أضم صوتي الى صوت الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، رفضا لتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، ورفضا للمثالثة، وتأكيدا على المناصفة، التي ضمنها اتفاق الطائف. والشق الثاني من الأزمة هو ما نتعرض له جراء التداخل مع الأزمة السورية، هذا التداخل الذي باتت اسبابه معروفة. لن نكف ابدا عن الدعوة الى انسحاب حزب الله وكل لبناني يقاتل في سوريا، كما نطالب بنشر الجيش اللبناني وحده على الحدود وفي الداخل، وبنزع كل سلاح غير شرعي، وباحترام سيادة لبنان الكاملة، وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، التي تساعد لبنان في حماية سيادته واستقراره”.

وحتم: “عهد علينا أن نحمي هذا الوطن، وأن نصون العيش الواحد، وأن نكون عند مسؤولية بناء مستقبل السلام والازدهار لأجيالنا القادمة. شكرا لكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك على رعايتها هذا المؤتمر، شكرا لصاحب الغبطة البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، والاساقفة والبطاركة والآباء، وشكرا لأصحاب السيادة والسماحة، شكرا لجميع الحضور. وعلى أمل اللقاء بكم قريبا، في محافل التقارب والتسامح والاعتدال والعيش المشترك، وقد حطمنا السجن الكبير، لا بل السجون الكبيرة”.

عريجي
وتحدث وزير الثقافة روني عريجي، فقال: “مواجهة التحديات الخطيرة التي تتهدد العائلة والمجتمعات في الشرق الأوسط، تستوجب غير مؤتمر، وجهود دول وأحزاب ومرجعيات دينية ومؤسسات فكرية واجتماعية، وربما يتفرد المجتمع اللبناني بمتانة خليته الأولى التي قام البنيان عليها، عنيت العائلة. أما القلة التي لم تتح لها ظروفها أن تنحو هذا النحو لضيق اليد أو لأسباب أخرى فقد انجبوا للدولة أولادا ربما صاروا أرضا صالحة للشطط، وهذا أمر يمكن تداركه وامتصاص خطره إذا تضامن المجتمع برمته معهم، ليس من باب الشفقة والتكرم، بل من باب الدفاع عن النفس وعن الوطن بالدرجة الأولى.
من هنا أرى، أن هذا اللقاء الراقي هو تعبير عن هذه الاستجابة لأنه لم يعرف شرقنا الأوسط عبر التاريخ، مرحلة بهذا السواد الدموي”.

وأضاف: “إن ما نشهده اليوم، من عنف وقتل وتهجير وتطهير ديني وعرقي، سبق أن مارسته إسرائيل – ولا تزال- بحق شعب فلسطين منذ العام 1948 دون تفريق بين مسيحي ومسلم.
إن نهج إسرائيل الإقصائي، يتناغم بأسلوبه وغائيته، مع هذا المخطط التدميري، الذي يطبق في غير ساحة عربية وشرق أوسطية باسم الدين، ويتناقض ويتنافى كليا مع تعاليم الديانات السماوية، وخصوصا مع روح الإسلام، وحق الإنسان بالعدالة والحرية وكرامة الحياة.
ومن هذا المنطلق استشعر الكرسي الرسولي أخطار المرحلة على سلامة شعوب المنطقة وتعايشها، فكانت سلسلة الإرشادات الرسولية، بمثابة خرائط طرق، وبوصلة للدلالة على دروب الأمان وتصحيح المسارات. ولعل اختيار لبنان لإطلاق هذه الإشارات الفاتيكانية تدليلا على ميزته وخصوصية تكوينه وتعايش أبنائه في التنوع، مثالا لكل شعوب المنطقة العربية والعالم”.

وتابع: “نحن في لبنان، دولة الوحدة في التعدد. حاجتنا ملحة إلى استكمال بناء دولة المواطنة والمساواة في كل مسلماتها الوطنية والميثاقية، حيث لا ميزة لدين أو مذهب على آخر، سوى الولاء للبنان، وممارسة الشراكة الكاملة بين المسيحيين والمسلمين في صنع القرارات المصيرية، وبأن المسيحيين في الشرق وتحديدا في لبنان، مدماك أساسي في قيام الكيان اللبناني وهم قبلة أنظار الشرق العربي ومسيحييه على وجه أخص بما هم ملح طعام، وهم متجذرون بالأرض والذاكرة، بالرغم من الأخطار وكل مغريات الغرب للهجرة، ومتمسكون بمشرقيتهم المتشبثة بالتاريخ والقيم الحضارية الخلاقة.
لقد أثبت اللبنانيون، وما حصل مؤخرا في الشمال وطرابلس العزيزة خير دليل على ذلك، انهم البيئة الحاضنة للدولة والجيش والعيش الواحد، وهم يرفضون لوطنهم أن يكون محلا لتفسير الأحلام الشاذة التي يبصرها بعضهم في مجاهل التاريخ والجغرافيا”.

وختم: “إن ما يحصل اليوم في حقيقته هو محاولة تجهيل وتفتيت وتفريق، وتشظية وتحطيم حدود، لتسهيل ابتلاع ثروات هذا الشرق، ولكن انعكاساته السلبية لن تقف عند حدود معينة، وهي بدأت تطال المجتمعات البعيدة وتهدد امنها وسلامة مواطنيها.
لذا نتطلع إلى تعاون دولي كثيف معمق وبعيد النظر، لا يقتصر على غارات جوية من هنا وبعض المساعدات وتأمين السلاح من هناك، فالمطلوب، ليس محاربة الظواهر فقط، بل استئصال جذورها وأسباب نشأتها. وهذه مهمة تتطلب الحكمة، والتنازل عن الكثير من المصالح الاقتصادية ومواقع النفوذ في هذا الشرق”.

السابق
الحزب ينتظر رد المستقبل على الحوار تمهيدا لخطوات اجرائية
التالي
جعجع عرض مع وفد من الطاشناق الاوضاع